لست أدري كيف تمكنت تلك الكراسة الصغيرة من تحدي الزمن والبقاء علي قيد الحياة لما يقرب من ستين عاما دون أن تمس أو تبلي. كنت في العاشرة تقريبا حين عثرت عليها في فناء المدرسة. عندما أخرج الأستاذ طنبولي يده من جيبه سقطت منه دون أن يدري,
ولم تكن تفصل بيننا سوي خطوات قليلة. كان بإمكاني, بل كان من الطبيعي أن أعيدها اليه, علي الأقل من باب التودد والوقاية من خير زانته التي لا تفارق يده. لكن شيئا ما بداخلي, ربما رغبة مجردة في الانتقام الصبياني من أي شئ, جعلتني انتظر حتي ينصرف واحتفظ بها لنفسي لمجرد حرمانه منها من جهة, ومن باب الفضول لمعرفة محتواها من جهة أخري.
في البيت سارعت بفتح الكراسة وحاولت فهم ما كتبه بها قدر استطاعتي ولكني لم أستوعبه, فوضعتها بين صفحات كراس كبير ذي غلاف كرتوني مميز كنت أتابع فيه نفسي يوما بيوم, فاعطي لنفسي درجة من عشرة علي قدر ما حصلت من معرفة وما أديت من واجبات مدرسية. في بعض الأيام كنت أحصل علي الدرجة النهائية, وفي أيام أخري كنت أحصل علي صفر من عشرة حين يبلغ التقصير مداه بتفضيلي اللعب علي المذاكرة. في نهاية كل أسبوع أجمع درجات الأسبوع بأكمله وأقسمها علي سبعة لأعرف متوسط تقديري العام, وبناء عليه أكافئ نفسي أو أعاقبها بوسائلي الخاصة. كان هدفي من هذا الكراس هو التدريب علي محاسبة النفس ومراقبتها دون الاعتماد علي أحد, وكذلك حتي أعتاد الصدق مع النفس دون رقيب أو حسيب.
انطح رأسك في الحائط. أصرخ. امش علي قدميك. اجر في الشارع عاريا.. مهما فعلت فلن يغير ذلك من الحقيقة في شئ. هذا ملكه وهو حر في ادارته كيف يشاء, أما أنت فلا تزيد عن مجرد ذرة ضئيلة في هذا الكون الرهيب..
****
من المؤكد أن الاستاذ طنبولي ـ النوبي الأصل ـ قد توفاه الله منذ زمن بعيد, فقد كان في حوالي الخمسين حين كنت في العاشرة. بينما كنت أبحث اليوم في مكتبتي عن كتاب مفقود, وقع في يدي بالمصادفة كراسي الكبير مختفيا بين ملفات كثيرة, وعثرت بين صفحاته علي مذكرات الاستاذ طنبولي, فرحت أقرأها بفضول شديد.
اني لفي غاية من الدهشة لهذا الشيخ العجوز الذي يروي مغامراته الحقيرة ـ الحاضرة لا الماضية ـ مع النساء, بغض النظر عن مدي صدق رواياته. يحكيها في سعادة بالغة وقد سقطت اسنانه وشاب ما تبقي من شعر علي صلعته المدببة. يصيبني بالتقزز فأهرب من مجالسته الاضطرارية مع شلة المقهي من المدرسين. ان أكثر ما يؤرقني في علاقتي به أن الله جعله ثريا وجعلني فقيرا, رغم أن كفتي ترجح علي كفته بكل المقاييس والمكاييل والموازين..
كان من المستحيل معرفة عمن يتحدث الاستاذ طنبولي, سواء وأنا في العاشرة أو اليوم وقد تجاوزت الستين. كل الأساتذة يحترمونه ويحسبون لجديته ألف حساب, فما بالك بالطلبة!. صوته يجلجل في الفناء وفي طرقات المدرسة فهو ضابطها, الي جانب كونه مدرسا للتربية الرياضية. كان رجلا طيبا بحق. مشكلته الوحيدة أنه ـ حسب اعتقادي القديم ـ لم يكن يعترف بأنه مجرد مدرس بمدرسة الانفوشي الابتدائية للبنين, وإنما كان علي يقين من أنه ملك. تأكدت من ذلك لا بحكم تعاظمه وكبريائه الواثقة دون أن يجرح أحدا, ولكن عندما لاحظت أنه يتسلل بصفة شبه يومية الي سطح المدرسة المطل علي البحر مباشرة, فتسللت من خلفه يوما دون أن يلحظني واختبأت في ركن قصي خلف بعض المقاعد المكسرة المخزونة بالمكان. في ذلك اليوم كان البحر هائجا وكانت أفواج هائلة من طيور النورس تصيح في سعادة وهي تغوص بين الأمواج لتلتقط الأسماك ثم تعود لتطوف حول الجزيرة الصخرية الشهيرة بالجزيرة الصغيرة وقد تصاعد صياحها أكثر.
مئات قليلة من الأمتار تفصل بين المدرسة وقصر الملك فاروق. هو لا ينظر الي القصر أبدا, وإنما يعطيه ظهره شاخصا ببصره الي الماء والسماء والصخور والطيور محدثا نفسه بصوت يصعب تحديد كلماته لبعد المسافة بيننا. لكني أزعم أنني التقطت يوما تلك العبارة حين نطقها في غضب شديد وكأنه يوجهها الي شخص بعينه: صحيح أنني فقير.. لكني ملك!!
الزحام هنا أمر طبيعي, فعدد المستفيدين من التأمين الصحي في هذا المبني لا يتناسب اطلاقا مع عدد العاملين علي خدمتهم, الذين لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليدين. تسلحت بالصبر وضغطت علي أعصابي وجلست وسط مئات المرضي منتظرا دوري في الكشف.
فوجئت بممرضة تنادي اسمي ثلاثيا:
طنبولي عبد الواحد القط!!
أهكذا أنادي دون لقب الأستاذ أو السيد أو.. أو..؟!.. أصابتني الصدمة بصمت ذا هل, فلم أرد عليها, وإذا بها تكرر النداء ولكن بنبرة مرحة قائلة:
ـ يا قط!!
أنا قط يا بنت ال.... ؟؟؟
كان ذلك اليوم هو أول عهدي بالتأمين الصحي وآخره أيضا, فقد ألقيت بدفتر التأمين في القمامة بعد أن شهدت اشتباكات بين مريض وطبيب وآخر بين مريض وموظفة الاستقبال تبادلوا فيه جميعا أحط ألفاظ السباب, وأخيرا معركة بالأيدي والأرجل بين عمال النظافة وبعض المنتفعين.. التعامل مع هؤلاء الناس والتعايش مع هذا المجتمع يتطلبان قدرا كبيرا من التواضع الذي يصل غالبا إلي درجة من التنازل والخنوع, وهذا ليس من طبعي فأنا أعرف قدر نفسي تماما. لم تفدني قراءة مئات الكتب شيئا أغير به من طبعي. أعرف أيضا أنه من قدر الظلم أن يتساوي الجميع. فجمهور المستفيدين من المشروع الناصري هو خليط من طبقات مختلفة بمستوياتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. مشروع التأمين مشروع اشتراكي بحت, فالبطاقة واحدة لجميع المناصب لا تفرق بين كبير وصغير, فيما عدا بطاقات أصحاب المعاشات فمغلفة بغلاف أخضر. كلفني موقفي هذا أكثر من نصف راتبي مقابل العلاج الخاص مابين كشف الطبيب الجشع وثمن الأدوية الباهظ. رغم ذلك فأنا لست نادما علي مافعلت.
تصفحت أوراق الأستاذ طنبولي باهتمام وقد كتبها في تواريخ متباعدة علي مدي عدة أعوام. حاولت أن استكشف من مضامينها خطا عاما لأفكاره واهتماماته.
قبلت العديد من دعوات أصدقائي الأثرياء. دخلت بيوتهم الواسعة وفللهم الفاخرة. تناولت طعامهم وشرابهم ولهوت في منتجعاتهم الصيفية والشتوية ونمت علي فراشهم الوثيرة بغرف الضيافة. لكني لم أفكر يوما في امتلاك مثلما يمتلكون. كان استمتاعي بالأماكن والمقتنيات والصحبة استمتاعا مجردا, لا فرق أستشعره بين كونهم يمتلكون تلك الأدوات أو أمتلكها أنا. مسألة الملكية أراها ثانوية لا تثير في أكثر من لحظات قليلة للتأمل, أشعر فيها أن الله أكرمني بأن أتاح لي مشاركتهم السعادة والسرور بما يملكون, مشاركة مجانية لا أدفع فيها أبيض ولا أسود, تماما كما لو كنت أنا مالكها الحقيقي, فالعبرة بلحظات السعادة المقتنصة من الحياة ولا شيء غير ذلك.. ولقد كنت دائما علي قناعة شديدة بأن الباب الذي تدفعه ريح المقارنة لا ينفتح إلا علي جحيم.
الحق أنني لم أكن علي ثقة تامة من صدق الأستاذ طنبولي فيما قاله حول زهده في الملكية, ورفضه مقارنة حاله بحال القادرين. خبرتي بالناس والحياة تقول بغير ذلك. خبرتي بنفسي أيضا تؤكد أنني ماأغبط الأثرياء الذين أعرفهم علي العز الذي ينعمون به, فمن مصادفات القدر أن معظم أصدقائي أثرياء, وهم يبادلونني المحبة والصداقة, لكني متأكد أنني لو كنت فقيرا لكنت عانيت من مشاعر المقارنة البغيضة بدرجة أو بأخري. أن قناعتي بقدرتي الاقتصادية المتوسطة ورضاي بها يجعلانني قادرا بحمد الله علي أن أصون نفسي من الهبوط الي مستنقع المقارنة والألم والاعتراض علي مشيئة الله في توزيعه الأرزاق علي الخلق.. ولكن هل كان هذا الوازع متوافرا عند الأستاذ طنبولي ؟.. ظللت أبحث في مذكراته عما يجيبني عن هذا التساؤل.
بينما أنا سائر في أمان الله, أنعم بشعور وقتي بالطمأنينة والرضا, فوجئت بحميدو العملاق يعترض طريقي بعد نزوله من عربة فاخرة كان يقودها في مواجهتي. شعره حليق حتي الزيرو. رأسه ضخم كرأس خرتيت. في طفولتي كانت أمي تسميه الولد الصايع الفاشل, لأنه لم يكمل تعليمه دونا عن معظم أبناء الزقاق, وإنما انخرط في مهن بسيطة ينظر إليها الناس بدونية. لطالما ضربتني ووبختني كلما شاهدتني بصحبته أو علمت أنني كنت أجالسه في أي مكان. لم تدرك أنني أحبه حبا شديدا وأنني معجب بشجاعته وشهامته وجرأته ومساندته أصدقاءه بقوته الجسمانية الجبارة وقلبه الطيب الكبير. كنت أتمني أن أكون مثله في بعض تلك الصفات أو احداها علي الأقل, لكن أمي علمتني الحرص والجبن فانعدمت لدي القدرة علي الإقدام والمبادرة واقتحام الحياة كما يفعل حميدو, خاصة فيما يتعلق بقدرته الفائقة علي اجتذاب الفتيات وتهافتهن من حوله. علاقتي الحميمة بالمرأة لم تتجاوز أمي وزوجتي وابنتي, وفيما عدا ذلك فقد كانت مجرد سحب عابرة.
بالأحضان التقينا بعد فراق دام سنين طويلة بفعل الزمن وطبائع الدنيا وأسباب الرزق. مازلت أحبه حتي يومنا هذا. حرارة اللقاء سحقت الزمن الذي باعد بيننا, وعدنا علي الفور طفلين. دفعني بقوة إلي عربته حين لاحظ ترددي في قبول دعوته. قال لي آمرا بمحبة فائقة: أنت اليوم ملك لي رغم أنفك.
اصطحبني إلي أحد مطاعم السمك الفاخرة حيث تناولنا الغداء, ثم إلي مسكنه الخاص المكون من دور واحد يطل علي البحر في موقع من أجمل مواقع المدينة. قال لي:
ـ لن أتكلم معك كلمة واحدة قبل أن تخلع ملابسك
ثم قدم لي جلبابا أنيقا وقال لي بنغمة هادئة رتيبة رصينة:
نم وشخر وأنت في غاية من الطمأنينة, وقم وقتما يطلب جسمك القيام لنشرب القهوة ونتحدث.
عندما استيقظت فاجأني:
عنده بيرة وويسكي
أشرب قهوة كما اتفقنا
مارأيك في سهرة حمراء مع امرأتين جميلتين ؟
لا ياعم. اعفني أرجوك
ماحكايتك يارجل ؟؟.. لا شراب ولا نساء ولا شيء!!.. لهذا وجهك مصفر وسحنتك كئيبة.. متي تعيش ؟
التزمت الصمت لأني لم أجد الرد المناسب. بذل مابوسعه لإسعادي بكل السبل التي لم أعترض عليها, كما لو كنت ابنه المدلل.
قضيت معه يوما لا ينسي من أيام العمر الجميلة النادرة وعدت إلي بيتي. كان من
المستحيل ألا أعقد مقارنة بين حالي وحاله بعد مضي هذا العمر, لم أتمكن من الانفلات من عذاب المقارنة إلا عندما سلمت ـ كما فعلت كثيرا مع غيره من قبل ـ بحقيقة أن الرزق مكتوب في السماء, وأنه الحق مثلما اننا ننطق, وأن احدا علي وجه الأرض لا يستطيع أن يغير من هذه الحقيقة شيئا.
حتي أستعيد طمأنينتي كاملة سارعت إلي شريط الكاسيت الأزرق لأداوي روحي بتقاسيم السنباطي والقصبجي والاطرش وعبد الوهاب, مجموعة تسجيلات متنوعة لعزف منفرد علي العود احتفظت بها علي شريط واحد ألجأ اليه دوما في مواجهة صدمات الحياة بأحزانها وأفراحها واسميته شريط الفرح والدموع حين أستمع إليه بمقاماته المتداخلة التي تضفر الحزن في الفرح وتصهر البهجة في الشجن, أري الدنيا أمامي بحلوها ومرها فتلمع عيناي بدمع جميل, وأغيب في عالم غامض من النشوة وأذكر الله, هائما في عالم روحاني لا حدود لبهائه, أفيق من سكره علي حالة نادرة من الرضا والسعادة الغريب في الأمر أن دموعي كانت عزيزة هذه المرة, مما جعلني أتيقن من قدرتي علي الوثوق بالله والتسليم بأحكامه دون جزع.
لاحظت أن الأستاذ طنبولي لم يشر إلي أسرته من قريب أو بعيد حتي الصفحة التي بيدي, قلبت بقية صفحات الكراسة بشغف شديد بحثا عن مذكرات تشير إلي عالمه العائلي والي علاقته بزوجته بصفة خاصة, وبينما أبحث عن هذا السر كنت أتساءل عن السبب الذي يدفع البعض إلي كتابة مذكراتهم أو سيرتهم الحياتية علي ورق لا يعرفون كيف والي أين يكون مصيره بعد وفاتهم, خاصة إذا كانوا أفرادا عاديين لم يحدثوا أثرا يذكر في الإنسانية, بل ربما لم يعرفهم من الكرة الأرضية ما يزيد علي مائة شخص علي الأكثر من الأهل والأقارب والجيران وزملاء الدراسة والعمل, لابد أن هناك متعة خاصة يستشعرها كاتب المذكرات حين يتصور إنسانا غريبا عنه لا ولن يعرفه, وهو يقرأ ذكرياته بعد موته, فهو لابد ميت, وقارئ المذكرات لابد ميت, وأنا أيضا لابد ميت... ما هذا؟... كلنا سنموت؟!!... شيء غريب والله!!... قد تكون المتعة في نقل التجربة سواء لمجرد التسجيل أو للانتفاع بها بتجنب الحماقات التي ارتكبها صاحبها في حياته, وفي النهاية يموت الجميع وتموت معهم القضية.
أحببت هذه المذكرات المتناثرة وتأثرت بها وبصاحبها كثيرا, حتي أن حضور الأستاذ طنبولي كان طاغيا, وكأنني أراه واقفا أمامي بقوامه الرشيق وطربوشه المائل وخيرزانته الطويلة التي لم يكن يستخدمها في أغلب الأحيان إلا للتهويش أو الترهيب.
سألني فارس بدهشة بريئة:
حين لمح صمتي المرتبك واصل تساؤله:
ـ راتبك لا يقل عن رواتبهم فما الذي منعك؟
كان من السهل أن أقول له إنهم يتقاضون آلاف الجنيهات من الدروس الخصوصية, لكني فضلت الصمت متحملا ضغطه علي أعصابي, تمادي ابني في إرهاقي دون أن يدري:
أني أشعر بأني أقل من أبنائهم لحظة مغادرتنا المدرسة
واصلت الصمت... لم نقض الأمر في شيء عندما سألتني شقيقته:
لماذا لا نستطيع أن نقضي الصيف في شاليه أو شقة أو كابينة نمتلكها في أي شاطئ؟
لم أستطع أن أرد عليها هي الأخري لأنني لا أستطيع التدخل في شئون مملكة صاحب الملك.
انفردت بنفسي مع شريط الدموع, ولم أبك ـ تمنيت أن تعلمهما الأيام أنني لست موزع الأرزاق والحظوظ علي الناس فذلك ليس من اختصاصي ولا أقدر عليه... وحتي أدفع عن نفسي تهمة التقصير في تربية أولادي, تشجعت فقلت لهما بحضور أمهما:
يا حبايبي... أنا لا أمتلك الإجابة عن أسباب تعاسة بعض الناس وسعادة بعضهم دون منطق مفهوم...
****
توقفت عند هذا الحد من المذكرات بعد أن فهمت كيف تعذر علي الأستاذ طنبولي أن يجيب عن الأسئلة المطروحة, فقرر ـ بحكم كبريائه الملكي ـ أن يطرحها علي مجهولين لا يعرفهم ولا يعرفونه من خلال هذه الكراسة, ثم إني انتهزت الفرصة لتصفح كراستي الكبيرة لأستحث نفسي علي الاعجاب بقدرتي علي رقابة نفسي وتنظيم حياتي منذ الصغر, رغم أني لم أجن ثمار هذه المقدرة بما يكفي لإرضاء أبنائي.... ومع ذلك فمازلت راضيا.
رابط دائم: