رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

خلف تراثاً ثريا فى الأدب والنقد والعلوم الإنسانية..أمبرتو إيكو..آخر الموسوعيين
ابن الحداثة الذى فتنته القرون الوسطى.. واسم الوردة التى لن تذبل أبداً

هبة عبدالستار
"أنت تموت. ولكن كل ما أنجزته فى حياتك لن يُفقد. فأنت تترك رسالة فى زجاجة "..هكذا تحدث الأديب والإعلامى والناقد الأدبى والفيلسوف الإيطالى الذى رحل عن عالمنا أخيرا أمبرتو إيكو (5 يناير 1932 - 19 فبراير 2016 ) موضحا رؤيته لتأثير ما يمكن أن ينجزه المرء فى حياته فيبقى بعد رحيله.

وبالتأكيد فقد خلف إيكو رسالة ضخمة وثرية، لا يبالغ من يصفه بأنه كان واحدا من أبرز الموسوعيين فى العصر الحديث حيث ألف أكثر من 50 عملا تنوع بين الأدب والفلسفة والسيميائيات (علم العلامات واللغة وغيرها من وسائل التواصل الإنسانى) والنقد الأدبى والثقافة الإعلامية والأنثروبولوجيا( علم الإنسان, خاصة الإنسان البدائى) وكل ما يتعلق بالقرون الوسطى، مما دفع جريدة "لا ريبوبليكا" الإيطالية تنعيه قائلة: "رحل الرجل الذى يعرف كل شيء".

ويعد إيكو واحدا من بين ايطاليين معاصرين قلائل، إلى جانب البرتو مورافيا ولويجى بيرانديللو وإيتالو كالفيو، ممن تعدت شهرتهم حدود إيطاليا واخترقت كتاباتهم المترجمة الثقافة العالمية.

ولد إيكو لوالد يعمل محاسبا فى "أليساندريا" بشمال إيطاليا, وكان حلمه أن يصبح ابنه محاميا، لكن إيكو اختار أن يدرس الفلسفة فى جامعة تورينو,وهناك أصبح مفتونا بعالم القرون الوسطى. وطوال حياته المهنية كان أستاذا فى جامعة بولونيا التى تعد من أعرق الجامعات فى أوروبا. وعن شغفه بعالم العصور الوسطى كان دائما ما يقول " لقد طورت طوال حياتى شغفا بالعصور الوسطى كما طور البعض شغفهم بجوز الهند".

و ارتبط إيكو بالصحافة, منذ أن بدأ محرراً ثقافياً فى التليفزيون والإذاعة، وله دراسات ومؤلفات فى نظريات الإعلام والاتصال الجماهيرى من منظور اجتماعى وعن حرب العصابات فى الإعلام والثقافة، وأتاح له احتكاكه بهذا المجال أن يتعرّف عن قرب إلى كوكبة من الأدباء والرسامين والموسيقيين، مما أثر على مستقبله ككاتب روائي، كما جاء فى كتابه "اعترافات روائى شاب".

وفى علم الإنسان أو الانثروبولوجيا أسس إيكو برنامجا غير عادى عام 1988 بجامعة بولونيا باسم "انثروبولوجيا الغرب من وجهة نظر غير الغربيين" خاصة علماء إفريقيا والصين، نظم خلاله عدة ندوات ومؤتمرات حول العالم، وانتج خلاله عدة أبحاث ودراسات.

يتذكر الكثيرون إيكو بعمله الأدبى الأشهر: رواية "اسم الوردة" التى كتبها وهو على مشارف الخمسين عام1980, وهى رواية تاريخية بوليسية تدور أحداثها فى إطار صراعات بين الكنيسة والسياسة، فى دير للرهبان البندكتيين يعود إلى القرون الوسطى، تحدث فيه جرائم قتل متلاحقة. وتعد اسم الوردةضمن أهم مائة كتاب صدر فى القرن العشرين، وبيعت منها أكثر من 17 مليون نسخة، وترجمت إلى 43 لغة بالإضافة إلى تحولها لفيلم سينمائى شهير.

"دع قلبك يتكلّم واستنطق الوجوه ولا تنصت إلى اللغات"..عبارة تضمنتها الرواية الشهيرة التى وصفها نقاد بكونها تعكس رؤيته للسيميائيّات, أو علم العلامات والدلالات الذى اشتهر بدراسته سواء أكانت لغوية أو غير لغوية. وغير اللغويّة هى التى شغلت إيكو: وبالتحديد العلامات التى يمكن تصنيفها ضمن الصور وهى كثيرة (رسوما، نقوشا، نحتا، صورا فوتوغرافية، أفلام السينما…) والتى سعى لثبر غورها باعتبارها ثريّة بالدلالات حين تكون فى سياقات معلومة ثقافيا واجتماعيّا. وهو يعول كثيراً على تأويل القارئ الشخصى للنص. ففى أكثر من موضع يقول على لسان بطل الرواية الراهب " ويليام" : "أنا أحاول أن أعلّمك كيف تلتقط الدلالات التى يلقيها إليك العالم" أو : " العالم كتاب مفتوح ويجب أن تقرأه".

وحققت روايته الثانية "بندول فوكو" التى صدرت عام1988 نجاحا أيضا، برغم أنها كانت معقدة وكان معها دليل يساعد القاريء فى تتبع الحبكة. أما فى رواية "جزيرة اليوم السابق" 1996 فقد أراد فيها أن يخرج من الفضائيات الضيّقة فى رواياته السابقة، إلى فضاء أوسع فأرسل بطله إلى جزيرة خالية من السكان فى العروض المدارية الحارة، ومن رواياته الآخرى: "بادولينو"2000، " الشعلة الغامضة للملكة لو آنا"2004، مقبرة براغ"2010، وأخيرا "الرقم صفر" التى صدرت العام الماضي.

تميزت الكتابات الأدبية لصاحب "اسم الوردة" بالتعقيد والاعتماد على الرموز والدلالات فى محاولة منه لشحذ همة وعقل القارئ وتحديه، حيث قال فى أكثر من تصريح له عندما سئل عن سر تعقد كتبه: " الناس تعبت وملت من الأشياء البسيطة. هم يريدون من يتحداهم". وردا على الانتقادات التى وجهها البعض له بسعيه لاستعراض عضلاته الثقافية على القارئ؛ يدافع إيكو عن نفسه وعن مذهبه فى الكتابة قائلاً: " لا أقوم بكل هذا الجهد فى الكتابة فقط لأكدس معرفتى (يقصد معرفته الخام) على القارئ. فكل ما أعرفه يوجد تحت تفاصيل البناء الروائى القصصي. والأمر يعود للقارئ فى أن يراها أو لا يرها. ودائما أعتقد أن الكتاب الجيد أكثر تأثيرا من مؤلفه، فبإمكان كتاب أن يخبر القارئ بأشياء لم تخطر على بال المؤلف نفسه. وكما ذكرت على لسان بطلى فى "اسم الوردة", فإن الكتب لا تؤلَّف لكى يؤمن بها القارئ, ولكن لكى تخضع للتحقيق والبحث. وإننا عندما ننظر فى كتاب يجب ألا نسأل أنفسنا ماذا يقول الكاتب، بل ماذا يعني".

وبرغم رواياته القيمة إلا أن إيكو كان يرى نفسه دائما "فيلسوفا يكتب الروايات فى نهاية الأسبوع"، مؤكدا أن كتابة الروايات كانت وظلت هواية يملأ بها وقت فراغه, بل اعترف بأنه تأخر فى تأليف أولى رواياته لأنه كان يعتبر كتابة الروايات لعبة اطفال ولم يكن يأخذها على محمل الجد.

وبعيدا عن الجانب الأدبى خلف إيكو مؤلفات فكرية متنوعة لا تقل قيمة عن رواياته, حيث أتى كتابه الأول فى الفلسفة بعنوان "مشكلة الجمال عند توما الأكويني" الذى كان توسعة لأطروحته للدكتوراة، وكذلك كتابه "تطور علم الجمال فى القرون الوسطى".

ويعد صاحب "بندول فوكو" رائدا للسيميائيات والتأويل، كما اتضح من تحليلاته فى كتبه: "البنية الغائبة"، "السيميائية وفلسفة اللغة"، "نظرية السيميائية"، و"موجز السيميائيات العامة"، "التأويل والتأويل المضاعف"، "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية". وقد ساهم بالقدر نفسه فى بلورة جماليات التأويل كما يظهر فى كتابه "العمل المفتوح"، الذى يبسّط فيه أسس نظريته، حول كون العمل الفنى رسالة غامضة ومفتوحة على تأويلات لانهائية، وبالتالى لا يكون النص موضوعاً نهائياً، بل موضوعا "مفتوحا" لا يمكن للقارئ أن يتلقاه باستكانة، وإنما عليه أن يتدخل ويبذل طاقته التأويلية. وهو ما توسع فيه إيكو أكثر فى كتابه "القارئ فى الحكاية"، حيث يدعو القارئ إلى التعاون مع النص، لأن النص وحده ليس بإمكانه أن يقول أى شيء.

ولم يبتعد عن ذلك المفهوم كثيرا فى كتابه الرائع "ستّ نزهات فى غابة السرد"، والذى تأمل خلاله النص السردي، وقضايا بنائه، وتلقيه وتأويله. وكيفية إنتاجه، والذات التى تتلقاه، حيث ركز على دور القارئ الذى يعتبره أحد مكونات القصة، ويقول إيكو فى كتابه:"كل تخيل سردى هو بطبيعته سريع، ذلك أنه لا يستطيع، وهو يبنى عالماً يعج بالشخصيات والأحداث، أن يقول كل شيء عن العالم. إنه يلمح، والباقى يأتى به القارئ الذى يقوم بملء الفضائيات البيضاء"، مشيرا إلى أن هناك نوعين من النصوص السردية: نوع يبحث فيه القارئ عن النهاية المباشرة، ونوع يحتجز القارئ فى متاهاته الجمالية.

وفى مجال الترجمة ألف إيكو كتاب " أن تقول الشّيء نفسه تقريبًا", حيث ولد هذا الكتاب من سلسلة محاضرات، وحلقات دراسية عن الترجمة قام بها إيكو فى تورونتو وأوكسفورد وجامعة بولونيا فى السنوات الأخيرة. ويحافظ فيه على النبرة الحوارية الارتجالية بعض الشىء لمداخلاته الشفوية، فضلاً عن أنه لم يكن يبغى فى ذلك العمل تكوين نظرية عامة فى الترجمة، بل يثير خلاله بعض المسائل النظرية انطلاقاً من خبرات عملية. ويصف المتخصصون فى مجال الترجمة ذلك العمل بأنه "فسيفساء من الاستشهادات والمقارنات التى تتفجّر منها مسائل جديدة فى الترجمة".

أما كتابه "لا نهائية القوائم: من هوميروس وحتى جويس" فقد أرخ فيه الفيلسوف السيميائى لـ"القائمة" وللولع الغربى بها، آخذاً من "كتالوج" السفن فى إلياذة هوميروس شارة البدء ومعرجاً على أدبيات القرون الوسطى، لينتهى بالعصرين الحداثى وما بعد الحداثى . وهو يمتحن فى هذا الكتاب ظاهرة الجمع، وإنشاء القوائم، ووضع الموسوعات، والتصنيف، على امتداد العصور، ذاهباً إلى أن هذا المنحى فى مقاربة الأشياء يسرى عبر التاريخ الثقافى الغربى بمجمله. وهكذا دخل إيكو فى جهد تأريخى نقدي، راصداً الجهد البشرى فى محاولته تدجين الكثرة، وامتلاكها داخل قوائم من الأشياء، والأمكنة، والعجائب، والمجموعات، والكنوز.

ويأتى كتابه "صناعة العدو" ليتناول فيه "الآخر" الذى لانعرفه ونخاف منه، وقد نخترعه أحيانا كما قال ساخرا: "إن لم يكن لنا عدو فلابد أن نخترعه. العدو هو ذلك الذى يجاهر باختلافه سواء فى الملبس أو التفكير أو فى السلوك"، ويتساءل خلال الكتاب: كيف تجد المجتمعات المعاصرة نفسها مضطرة إلى تحديد علاقتها بخصم ما، مستخدمة نفس "الكليشيهات" والصور النمطية لخلق صورة عمن تريد عداءه، سواء تجاه الهراطقة أو اليهود أو المسلمين‭...‬ فتخلق للغريب المختلف مثالب تسهل عليها تبرير كرهها إياه. ويركز فيه إيكو على كيفية تحديد مقاييس العدو من خلال الثقافة الأوروبية القديمة والحديثة. لذا يعد الكتاب قيماً إذا أردت التعرف على جوانب مهمة فى التاريخ الأوروبى والعالمي. ويخلص إيكو إلى أن الرقى الحضارى والثقافى هو الذى يمكن أن بغير النظرة إلى الآخر ويجعل الاختلاف أمرا محمودا‭.‬ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

حصل إيكو على جائزة الأمير أستورياس الإسبانية الرفيعة للاتصال, وأثنت لجنة تحكيم الجائزة فى عام2000 على أعماله التى حققت مبيعات كبيرة على مستوى العالم. كما تلقّى فى الثّلاثين سنة الماضية، ما لا يقلّ عن 40 دكتوراه فخرية من الجامعات حول العالم، تقديرًا له ولجهوده العلمية والإبداعية.

ولعل إيكو قد لخص حكمة حياته عندما قال : "وصلتُ إلى التسليم بأن العالم برمته هو مجرد لغز، لغز غير مؤذٍ جعلناه مخيفا بسبب محاولتنا المجنونة لتأويله كما لو أنه حقيقة مطلقة".

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق