رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

هيكل أشعل شرارة الأدب في الصحافة العربية

ســهير حلمي
ليس الخلد مرتبة تلقي وتؤخذ من شقاء الجاهلينا ولكن منتهي همم كبار إذا ذهبت مصادرها بقينا وآثار الرجال إذا تناهت إلي التاريخ خير الحاكمينا وأخذك من فم الدنيا ثناء وتركك في مسامعها طنينا

وكأن أمير الشعراء كتب هذه الأبيات لينعي بها عاشق أشعاره.. فلم يكن أحب لقلب الأستاذ هيكل من شوقي وأشعاره بملامحها وقسامتها وتنوعها وقدرتها علي إثارة الإعجاب والدهشة.. كان شأن كتاباته نافذة تملأ الوجدان.. متوهجة لا يخفت لها أوار.. كان هيكل يمتلك رؤية مستقبلية لم يحد عنها حتي الرمق الأخير من حياته.. فهو ممن يحولون الرصاص إلي ذهب.. ولا تبتلعهم الرمال المتحركة التي ينساق وراءها الآخرون من تقليد ومحاكاة.. ولكنه كان يتمتع بقدرة فريدة علي خلق اهتمامات جديدة للقارئ.. يتابعها بشغف عكس ما كان شائعا من مجاراة اهتمامات القارئ مهما تسطحت.. من هنا برز الدور التنويري للأهرام في كل عصوره.

.................................................................................
وتعد الصفحة الأدبية في الأهرام من أبرز مآثره وإسهاماته في إثراء الحياة الثقافية والفكرية في مصر والعالم العربي.. إذ أن الريادة المصرية بدأت بمنطلقات أدبية وفنية في بداية الستينيات.. كانت الأهرام القاعدة الرئيسية فيها لإطلاق المواهب والإبداعات الفريدة لكبار الأدباء وعرض الحصاد الفكري والتيارات والاتجاهات الأدبية العالمية, فكانت الأهرام أول جريدة تنشر القصة القصيرة علي صفحة كاملة.
في دراسة أدبية رصينة. قدم لنا د. محسن عبد الخالق كتابه الجليل النقد الأدبي في صحيفة الأهرام صادرا عن المجلس الأعلي للثقافة.. تتصدره مقدمة ضافية لمفكرنا الكبير د. السيد يسين نعت فيها الكتاب بالنموذج الفذ للمسح الأدبي الذي يغطي حقبة تاريخية بالغة الخصوبة في تاريخ مصر المعاصر في إطار علم اجتماع المعرفة الذي لا يتيح تحليل أي نص أدبي إلا بعد ربطه بسياقه التاريخي والمعرفي.. مقدمة د. السيد يسين هي أشبة بمذكرة تفسيرية لهذه الدراسة التي تتطرق لرصد الصفحة الأدبية بالأهرام من بداية تأسيسها وخروجها إلي النور في التاسع من سبتمبر عام1960 حتي عام1980, وهي فترة خصبة سياسيا وفكريا أدبيا.. بل ربما كانت أخصب الفترات وأكثرها حيوية علي المستوي السياسي والأيديولوجي.. يبدأ الكتاب بمرحلة التأريخ لصحيفة الأهرام كواجهة ثقافية وفكرية.. تأثرت صفحاتها الأدبية بانعكاسات هذه التقلبات والأحداث في مصر والمنطقة العربية.. ومثلما كان الأستاذ حسنين هيكل رحمه الله- هو المعلم الأول للصحافة العربية.. كان بالمثل هو سارق النار الذي أشعل صفحات الأدب بكل أئمة ورواد الفكر والثقافة وكوكبة الأدب في منارة الأهرام الثقافية بالدور السادس وبذكائه الفياض استقطب أقلام كل الكبار:( نجيب محفوظ, وتوفيق الحكم, ود. حسين فوزي, ود. زكي نجيب محمود, وصلاح طاهر, وثروت أباظة, ولويس عوض, ود. علي الراعي, وصلاح عبد الصبور, ويوسف إدريس وغيرهم..) إيمانا منه باستحالة قيام الأهرام بدورها التنويري دون حضور مكثف للشأن الأدبي والثقافي علي صفحاتها.
أراد هيكل أن توازن الجريدة بين ثقلها الصحفي وميراثها من الرصانة والدقة والمصداقية وبين ثقلها الأدبي إذ أن صلة الأدب بالصحافة اليومية ظلت مبتورة- علي حد تعبير بنت الشاطئ أول مشرفة علي صفحة الأدب: فالكتاب كان بضاعة كاسدة وللكلمة سحرها وللبيان نفوذه وللصحافة دورها في الارتقاء بالوعي وتهذيب الوجدان فكيف تخلت الصحافة عن رسالتها الأدبية ؟ بهذه الصيغة التنويرية طالبت بنت الشاطئ بكسر هذه العزلة ونشر الأعمال الأدبية والنقدية وحثت الأدباء علي إيصال رسالتهم لأكبر عدد من الجمهور وهاجمت بعض كبار الكتاب لنكوصهم عن هذه الغاية النبيلة.. انفرد الأهرام بهامش عريض من السماحة الأدبية وهامش أكبر من الحرية أكثر مما يظنه البعض بالرغم من تشدد الرقابة في الستينيات.. إذ أن اسم الأستاذ هيكل ومكانته.. قد أسهما في بلوغ الحد الأقصي من هامش الحرية وتقليص دور الرقباء فيما ينشر.. وفي معرض سرده للأزمات التي مر بها خلال مسيرته الأدبية.. يذكر نجيب محفوظ في حواره مع رجاء النقاش عام1998.. كيف أن رواية ثرثرة فوق النيلبعد نشرها في الأهرام أثارت غضب المشير عامر وهدده بعبارة يجب تأديبه ولكن التاريخ يشهد بأن قصصه لم يحذف منها حرف في الأهرام.
بدأت هذه الإرهاصة الأدبية بصفحة واحدة في1960/12/9 وبعد شهر واحد في يناير عام1961 أصبحت صفحتين, نشر علي إحداهما قصة حوار الله لنجيب محفوظ وبعد نكسة يونيو1967 توقفت الصفحتان عن الظهور ثم عادتا في نوفمبر من نفس العام.. لاستنهاض الهمم من وهدة الحزن والصدمة وكان لها ما أرادت في فترة كانت شديدة الثراء في كل شيء..
انفردت الأهرام بتوقيع عقد مع نجيب محفوظ ليصبح للجريدة بمقتضاه حق نشر قصته الجديدة مقابل ألف جنيه وهو أكبر مبلغ دفع في الصحافة العربية لقصة تقديرا لإنتاجه الأدبي.
وتستمر الدراسة في رصدها وتحليلها لتعاقب رؤساء تحرير الأهرام بعد هيكل علي التوالي من عام1974 حتي عام1980 وهم:
علي أمين وأحمد بها الدين وعلي حمدي الجمال ويوسف السباعي وإبراهيم نافع.. وكيف أثرت السياسة الفكرية للصحيفة علي توجه صفحة الأدب ومساحتها واتجاهها؟ وبذكاء شديد يختار د. محسن عبد الخالق عينات ذات دلالات تبلور الملامح العامة والمميزة لفترة دراسته لصفحة الأدب وكيف أصبحت منذ ظهورها في سماء الصحافة العربية منبرا لكل رواد الأدب في مجال الشعر والرواية والمسرح.
وتشمل أبرز القضايا التي فجرتها الصفحة بتغطيتها الصحفية المميزة: الطغيان الأدبي وإمارة الشعر ومشكلة الكتاب وتصديره وقضية الترجمة وعروض المسرح المصري وعقبات انطلاقه. في مجال الشعر.. كانت الصفحة منبرا للعرب جميعا للتعبير عن قضية فلسطين وإحيائها علي الدوام.. بل إن توالي النشر حال دون اندثارها وتصدرها لقائمة القضايا التي يئن لها القارئ العربي.. فظهر تيار أدب المقاومة جليا في الأهرام محتضنا إبداعات محمود درويش ومعين بسيسو وآخرين..
كما تبنت صفحة الأدب تيار الشعر الحديث بأقلام أئمة الكبار د. لويس عوض علي سبيل المثال, والذي تولي الإشراف علي هذه الصفحة وأحد المبشرين بالاتجاه الجديد, وقد حفلت صفحات الجريدة بإنتاجه في مختلف المجالات.. في ذكري عبد الناصر كتب قصيدة نذكر منها قوله لم يقهرك إلا ثعبان عضك في كعبك فهذا مقتل الأبطال وتوهجت الصفحة أيضا بعروض الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور لأشعار بوشكين وتقديمه الشعر الروسي إلي القارئ متزامنا مع مرحلة التقارب المصري الروسي.. إضافة للأشعار التي تناولت شهداء الجزائر وحادث اغتيال لومومبا وطرح العديد من القضايا التي تمس قضية الشعر الحديث بنظرة عميقة.. إيمانا بأن تقديم كل عمل أدبي جديد إنما يوسع من مساحة الحرية والتقاليد السابقة عليه.. ومن طاغور في الشرق إلي الأخطل الصغير في لبنان.. إلي تقديم المواد التراثية وتعريف القارئ بالسيرة الذاتية والأسم الكامل لأحمد عبد الرحمن الخليل واضع علم عروض الشعر أخذت الأهرام علي عاتقها نقل كل الاتجاهات الأدبية والأجنبية ووضع الخريطة العالمية للشعر وكل فنون الأدب تحت بصر قارئها.. وفي تقليد فريد كانت الجريدة- في عصر ما قبل الانترنت- توفد د. لويس عوض للسفر إلي الخارج للاطلاع علي أحدث الاتجاهات والأصوات الجديدة لإضاءة مساحات نقدية بالرؤي والتحليل لإثراء ثقافة القارئ ومساعدته علي فهم كل جوانب النصوص الشعرية وجدارتها الإبداعية.
اجتمع كل أئمة القلم والبيان في مجال النقد الروائي فها هو أحمد بهجت يتناول بالنقد المجموعة القصصية للدكتور مصطفي محمود شلة الأنس وكيف كان هذا النقد يمثل عموما قوة دفع للأدباء ووجبة دسمة يهضمها قارئ الصفحة يخرج منها ممتلئا بالوعي بعد تحليل العمل وتناول عناصره من سرد وحوار وحبكة وشخصيات وشكل فني.
قدم صلاح عبد الصبور نقدا أدبيا بديعا علي هذه الصفحات لقصة نجيب محفوظ السمان والخريف واستدرج القارئ العادي غير المتخصص لمناطق مشعة بالأضواء الكاشفة للنص بما يشمله من رموز ودلالات فكتب: القصة مثال علي الارتباط بين اتجاه العامة والخاصة في نفسية إنسان منهزم.. عيسي الدباغ كان رجلا يقفز الحياة قفزا والحياة تعطيه بسخاء في حدود قدرته وحدود ما يجب لأمثاله أن يأخذوا من الحياة.. ترقي في سلم الوظائف بسرعة وجمع بعضا من المال من رشوة العمد لقضاء حاجاتهم.. ولكن الحريق هدم القاهرة وهدم حياة عيسي أيضا ويفسر صلاح عبد الصبور كيف تم توظيف شخصية المرأتين اللتين عرفهما في الرواية.. ريري التي هربت من أهلها وأقامت معه في الإسكندرية.. تمثل مصر الشابة التي لونتها الأقدار والظروف وأن ظل معدنها نقيا سليما.. وهي نفسها لن ينتج منها خير كثير ولكن سيولد من رحمها مصر المستقبل النقية النظيفة.. وقدرية المرأة الثانية التي تزوجت ثلاث مرات وكانت غنية عقيمة تزوجها عيسي لمالها.. وهي تمثل مصر الكهلة العجوز التي لن تلد إلا البوار والكسل والتي تنحدر كل يوم نحو الشيخوخة بخطي سريعة, وقد اختار عيسي الصورة الثانية لأنه فزع من معايشة الصورة الأولي.. ولم يجد في نفسه الجرأة لمحاولة إصلاح الفاسد وتقويم المعوج.. كان أقل من أن يقف موقف الرجل الذي يقول مع سارتر: لعنة الله علي هذا العالم, سأهدمه ولكني سأعيد بناءه من جديد ليصبح أحسن مما كان.
اتسع دور الأهرام الأدبي ليشمل دعوة الأدباء والمفكرين.. سارتر وسيمون ودبوفوار لزيارة مصر في عهد هيكل علي سبيل المثال.. واستمرت الصفحة تقدم للقارئ قضايا أدبية مستحدثة وترجمتها لتساعده علي فهم أبعادها وتذوقها وتوسيع دائرة معارفه بالإطلاع علي أحدث الاتجاهات.. من خلال تلك الوجبة الشهية الفنية لذا يعد الأهرام هو ديوان النقد الأدبي كما هو ديوان الحياة المعاصرة.. وما أكثر الكتاب والأدباء الذين حلقوا بجناحي الأهرام في سماء الوطن العربي.. من خلال تلك السيمفونية البديعة في العزف المتناغم الذي يصل للذروة تدريجيا هكذا كان وسيظل هذا الجورنال العريق.. يتحرك بتؤدة ولا ينجرف مع الموجات المتذبذبة فبينه وبين القارئ ميثاق رعاية شاملة يفيض بالمهنية والمصداقية والتنوع والاحترام والحضور.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق