لم يعد ممكنا أن أعرف الآن من مات بسبب العاصفة ومن لم يمت, من انتهي غارقا تحت الرمال من بشر وإبل, وما فوق هذه الإبل من أمتعة وأدباش, ومن تراه نجا من هؤلاء البشر أو الإبل, فلا أحد استطيع أن أجده الآن من رفاق القافلة وبعيرها, ولا قطعة واحدة مرمية فوق الأرض, بعد أن هدأت العاصفة التي استمرت لمدة يومين دون توقف, لا أدري شخصيا كيف نجوت,
ولا كيف قضيت هذين اليومين راكضا, مدفوعا بقوة الريح, دون راحة, دون نوم, دون جرعة ماء ولا كسرة خبز, دون حتي أن أنحني لأقضم قطعة من حشائش الأرض, علها تقيم أودي, أو تضع شيئا من الرطوبة في فمي, انتهت العاصفة, وانتبهت إلي أن الدنيا كانت في بواكير الصباح, وشمسا تبزع, لها أشعة حمراء, تضيف إحمرارا إلي حمرة الرمال, وأنا أشعر بنفسي منهكا, مثقلا بالتراب, لا أكاد افتح عيني من الألم بسبب ذرات الرمل التي دخلت إليهما, ومازلت أحس بوخزها تحت جفني, واحس الجفاف في فمي وحلقي, وأحاول أن أجد لعابا أبلل به شفتين تشققا عطشا ويباسا وجفافا, لا أجد في فمي غير التراب, أجر قدمي جرا فوق الرمال, وأقاوم رغبة تلح علي في أن اتمدد فوق ليونة هذا الكتيب أو ذاك من الرمال وأنسي نفسي, مسلما اياها لنوم أحس به يثقل عيني, إلا أنني أعرف بأنني إذا اسلمت نفسي لمثل هذا النوم, فسيكون نوما أبديا, لا صحو بعده أبدا, لأن هذه الشمس, التي تبدو وديعة, لها منظر برتقالة من النوع القاني الإحمرار, ستتحول بعد ساعة أو ساعتين إلي كرة من الجحيم, تجلد الصحراء بأسياخ من حديد, وسأموت تحت لهيبها قبل أن أستيقظ من نومي, ولهذا فلابد أن أواصل المسير, راجيا أن أجد بين أحقاف الرمال تجويفا يصنع ظلا لا تمحوه أشعة الشمس, أضع فيه رأسي, استطيع أن اغفو عندئذ في أمان, أما الآن فلا خيار إلا أن أواصل المسير ما دمت قادرا علي ذلك, وطبعا قد أعجز عن ذلك, وهو احتمال وارد في أي لحظة, أن أسقط فوق الأرض تحت اشتداد حرارة الشمس, وقبل أن أجد الظل المنشود, وسيكون ذلك هو القضاء والقدر الذي لا مهرب منه.
ما حدث بعد ذلك كان بالتأكيد حلما من أحلام اليقظة, أو خيالا من الخيالات التي تنبتها الصحراء في عقل كل من يسافر عبر متاهتها, بسبب ما يحدث له من ألم وإنهاك وتشويش للذهن, فتتضاءل ملكات التمييز لديه, ويفقد السمع والبصر قدرتهما علي نقل الأصوات والمناظر بشكل سوي, ويظهر عندئذ السراب نهرا, وتنصب له الأوهام عرسا, ولم يكن ما رأيته هذه المرة, عرسا من أعراس الجن, ولا نهرا يتدفق ماؤه من ينابيع السراب, وإنما رأيت الأفق ينشق فجأة عن شجرة عملاقة, تمد أغصانها شمالا وجنوبا حتي لتغطي أمامي الافق, وتهيمن علي الفضاء الذي حولها حتي لتكاد تستأتر به وحدها, فلا حضور لشيء غيرها, بما في ذلك طوق من الجبال البعيدة تضاءل أمام هيمنة الشجرة إلي حد التلاشي, شديدة الإخضرار حتي ليكاد لونها الاخضر يزيح إحمرار الرمال من الارض التي ترتمي خلفها وأمامها, غزيرة الأوراق حتي لتحجب باخضرار أوراقها زرقة السماء, وقد تلألات ثمارها تحت مسقط أشعة الشمس كأنها كرات من الذهب, وتقول للرائي رغم بعد المسافة إنها شجرة برتقال من نوع فريد, فهذا الحجم السامق الهائل, هذا الجذع الطويل العريض, وهذه الوفرة في الاغصان والاوراق والثمار, يجعلها استثناء لكل من شهدت البساتين من اشجار البرتقال التي تبدو دائما صغيرة الحجم, رقيقة الساق, ضئيلة الورق والأغصان والثمار, تكاد تلتصق بالأرض لتحاذي نباتات الفول والطماطم وغيرها من أشجار تنتهي بانتهاء موسمها, بلا جذور تمنحها القدرة علي الاستمرار والحياة, وربما كانت هذه المعرفة بأشجار البرتقال واحجامها وأقدارها, هو ما يجعلني أشك في حقيقة ما اراه, إذ من أين لمثل هذه القفار أن تنبت شجرا منذ البداية, وإذا أنبتت في بعض مناطقها التي توجد منخفضات تحفظ ماء الامطار تسمي القرارة, فانها لن تنبت إلا صبارا أو عجرما أو طلحا أو سدرا, وكلها أشجار شوكية, لا شجرة فاكهة بهذا الحجم, ثم بعد ذلك, إذا فعلا حصل ما يشبه الإعجاز وانبتت شجرة فاكهة, فكيف تكون ثمارها حقا البرتقال, وهي ثمار يعرف القاصي والداني, انها تحتاج لكي تنمو وتنضج, فائضا من الماء, يملأ أحشاء كرة البرتقال, قبل أن يسري نسغا في اغصانها واوراقها, ثم إذا وصل الإعجاز حده الاقصي, وحصل ظهور شجرة برتقال في هذا الفيافي, فكيف تأتي بهذا الحجم العظيم الجسيم, جذعا وأغصانا وورقا وثمارا, ثم درجة لا يعرفها تاريخ البرتقال من النضارة والإخضرار والخصوبة, نعم كنت مازلت أمشي, أحاول الوصول إليها قبل أن يسقطني الانهاك فوق الأرض, تسوخ اقدامي في الرمال, فانتزعها من عمق الرمل, وأمضي, وقد حفزني المنظر حتي لو كان وهما, لأن أصل إلي الشجرة وأتأكد علي وجه اليقين أن كانت واقعا أو كذبا, وما أن وصلت حتي فتحت ذراعي لاحتضانها, فإن كانت شجرة حقا, فسيملأ جذعها حضني, وإلا فسأجد نفسي احضن الهواء, وعندما عرفت أنها حقيقة التصقت بها, كانني اخشي لو تركتها أن تهرب من بين ذراعي, صرت اقبلها وأبكي, احمد الله وابكي, فقد غلبت دهشتي علي عطشي وجوعي, مقدما هذه التسابيح, وهذا الشكر, علي أن أبادر فاقطف ثمرة من ثمارها, استرد بها شيئا من رمق الحياة الذي يتسرب من جسمي, وهو ما مددت يدي لكي افعله, إلا أن يدي تجمدت في الهواء, وأنا أسمع صوتا يطلق السلام يقول تفضل بالجلوس لتشاركني الطعام والشراب, فمن الواضح أن الاعياء قد أخذ منك كل مأخذ انتبهت لاول مرة إلي الشيخ الجالس تحت جذع الشجرة, إذ لم انتبه إليه إلا بعد أن سمعت صوته, كان واضحا أنه قد انتهي للتو من السجود, لأنني سمعته قبل أن يتجه لي بالكلام يلقي بالسلام مرتين علي يمينه وشماله, وهو حال من انتهي من صلاته, ورايته يفترش كليما وبعض الوسائد, وقد افسح لي مكانا بجواره, وهيأ لي وسادة لكي اتكئ عليها, فبادرته بالسلام, قائلا إنه تعذر علي أن اراه, لأنه يجلس علي طرف من الشجرة, غير ذلك الذي كان يواجهني, ولم اكن احتاج لقطف البرتقالة, فقد كان بجواره صحن من البرتقال, وطبق به ارغفة من الخبز, وفنجان الشاي بجواره, وقد اعاده إلي موقد نار كان قد صار رمادا, إلا أنه عندما حرك الرماد ظهرت جمرات, تصلح لتسخين الشاي, واردت أن ابدأ بتناول برتقالة مدها لي ومعها الموسي, ارطب بها جفاف فمي وحلقي, قبل أن اشاركه الافطار الذي يبدو أنه ما جلس في هذا المكان, إلا من أجله, انتهيت من التهام البرتقالة, فقدم لي طبق الارغفة, وسك الشاي في الكاس, وتركني أتناول هذا الافطار دون أن يشاركني اكلا ولا شرابا, وهنا بدأ عقلي يشتغل, يحاول تفسير ما غمض من هذه الامور التي ا راها, أن في الأمر سرا, قلت في نفسي, ولا يمكن لهذه الشجرة إلا أن تكون حالة من حالات التجلي لمعجزة ما, ولن يكون صاحب هذه المعجزة غير هذا الرجل الجالس تحت الشجرة, وقد ظهرت عليه كل أمارات الصلاح, ويشع من وجهه نور الولاية, أفلا يكون هو سيد أولياء الصحراء, الذي يتحدث باسمه الركبان, وينسبون إليه الكرامات والمعجزات, المسمي صائم الدهر, ولا تفسير لعدم تناوله الافطار معي, إلا لأنه صائم,انتهي من سحوره, وظل قائما يصلي حتي اشرقت عليه الشمس وفاجأته بالحضور إلي شجرته المباركة, كنت أريد أن اتكلم, ولكن جوا من السكينة والسلام يحيط بالرجل, أحسست بأن أي كلام اقوله, سيجرح هذه السكينة ويبدد هذا السلام, إنه جو مبارك, بل إن عبيرا كأنه ينتمي إلي فراديس السماء, أحس به ينتشر في هذا القضاء, الذي يحيط بالشجرة, مما جعلني ازداد يقينا بأنني في حضرة الولي الصالح الذي يراه أهل الصحراء, ويعتبرون الالتقاء به فأل خير وهناء وبركة, وبعد أن امسكت نفسي كثيرا, لم استطع أن أقاوم قول السؤال الذي يلح الحاحا قويا في الخروج من حلقي, قلت للشيخ الجليل:
ـ هل تأذن لي يا سيدي في سؤالك عما إذا كنت أنت صائم الدهر؟.
فنظر لي, نظرة تصحبها ابتسامة خفيفة وقال ببساطة ودون تكلف:
ـ صدقني إذا قلت لك لا أدري؟
قلت أواصل الحوار, طامحا أن أصل إلي الجواب الذي انشده
ـ أصدقك طبعا, لأنه حاشي لإنسان مثلك أن يقول غير الصدق, وأنت بالتأكيد لم تولد بهذا الاسم, ولكن ألم تسمع الناس ينعتونك بمثل هذا النعت, أي صائم الدهر؟.
ـ نعم, هذا جائز, وهم يطلقون صائم الدهر علي اناس كثر, لأنك قد تعلم أو لا تعلم أن تقاليد أهل التقوي والصلاح في الصحراء, هو صيام الدهر, وإذا كانت حياة التقشف والزهد هي طابع الحياة والمعيشة لدي كل قاطني الصحراء, فلماذا لا يجعل الإنسان هذا الأسلوب صوما يكسب به الأجر والثواب.
ـ إنه عين الصواب يا مولانا؟ ولذلك فارجو أن تسمح لي أن أناديك بصائم الدهر.
واردت أن أفصح له عن امتناني لأن الله وضعه في طريقي هو وشجرته الوارفة الظلال ذات الثمار الغزيرة اليانعة, بعد المحنة التي مرت بي, وما أن بدأت انقل له تفاصيل ما عانيته حتي رفع يده يشير لي بأن أكف عن سرد القصة, لأنه كما قال لي عالم بكل ما حصل, ثم استدرك قائلا, إنه يريد تصحيح أمر لكي يذهب الفضل لصاحبه لا لغيره, لأن الرجل الذي ندهته فلبي النداء, واستنجدت به, فجاء لنجدتي, هو جدي الشيخ محمد القالوني, وهو جد لم اتوقف عن تحريك شفتي باسمه طوال ساعات العاصفة, لأنه واحد من أسلافي الصالحين, غوث صوفي, وقطب من أقطاب الدين, وواحد من كبار أهل التقوي والصلاح والعلوم العرفانية, ومشهود له بنجدة الملهوف, والاستجابة لصاحب الحاجة عندما يدعوه, وخاصة فيما يتصل بالصحراء, لأنه كان فارسا من فرسانها, وصاحب سطوة وجاه بين أهلها, وقد اكتسب كنية القالوني اكتسابا, بسبب حبه لتلاوة القرآن علي طريقة الامام ابن قالون, ومن معجزات هذا الجد الصالح, أن الناس كانوا يسمعون تلاوته أثناء نومه, فاسموه باسم صاحب هذه القراءة, وأبلغني الرجل الصالح صائم الدهر, أنه تلقي رسالة من جدي الشيخ القالوني, يرجوه أن يتلقي حفيده في هذا المكان, ولهذا هو موجود هنا, ثم رأيته يباشر ضم أغراضه, قائلا: إن عليه أن ينصرف بعد أن أدي مهمته, وخشيت أن يتركني في هذه المتاهة, وقد بدأت الشمس تسفر عن براثن حرها, وتنشبها في الأرض, فماذا سيحدث لي إذا اختفي الشيخ ومعه الشجرة, فقلت اتوسل إليه إلا يتركني أعاني من ضياع آخر, فطمانني قائلا إنني وصلت بعون الله بر الأمان, وسوف تأتي بعد قليل قافلة تعيدني إلي بلدتي مزدة التي منها أتيت, وهم ليسوا في حاجة إليه, ولهذا فهو سيمضي لانه لم يختر الاقامة في الصحراء, إلا ابتعادا عن الناس, لكيلا يشغلوه عن مناجأة الله ومواجهة النفس, وربما يحتاجون فقط إلي بعض الماء, وهو سيتيح لي فرصة أن اقدم لهم هذه الخدمة, وقام من فوره فصار يحفر الأرض بيديه حتي تفجر نبع ماء, شرب منه وسبغ وضوءه, ثم دعاني للشراب فوجدته ماء عذبا صافيا باردا, له طعم ماء الغدير, وأمرني أن أهيل فوقه التراب بعد أن تفرغ القافلة من قضاء حاجتها منه, لأنه ماء كما قال لي, مستعار من أهل الخفاء, ولابد من اعادته إليهم, ولم انتبه إلا والافق في عمق الصحراء ينشق عن جواد أبيض يلمع تحت أشعة الشمس كلمعان البللور, حتي وصل ووقف بجوارنا, فنهض الشيخ صائم الدهر ووضع عليه السرج, وبعض الاغراض, ثم تقدم من الشجرة فبدا يطويها وهي تستجيب له, كأنها شجرة من ورق, وقبل أن أصيح مستنجدا أن يمنحني شيئا اتقي به أمطار النار التي ستبدأ في الانهمار فوق رأسي, أخذ غصنا من الشجرة وغرز الجزء الأسفل منه في الأرض, فبدأ كأنه شجرة صغيرة ظليلة قادرة علي أن تقيني رعب هذا القيظ, امتطي جواده, وخلفه شجرته مطوية في حزمة صغيرة, ولوح لي مودعا, وانطلق به الحصان يشق الأفق مبتعدا, وبقيت انتظر القافلة التي وعد بمجيئها متجهة إلي مزدة, وكانت المفاجأة التي ما كنت لأستطيع تصديقها, أن القافلة لم تكن إلا قافلتي التي تهت عنها, وظننت أنها غرفت تحت تراب العاصفة بأهلها وجمالها وامتعتها, فإذا بها سليمة رجالا وابلا, وأمتعة, فركضت نحوهم وأنا أصيح بكلمات الترحيب والتهنئة بالنجاة, وتلقوني هم بالترحاب والاحضان, لانهم ظنوا أنني من الراقدين الآن تحت تراب العاصفة, إلا أن فرحتهم لم تكن كاملة لأن الماء صار شحيحا معهم, ولا يثقون بأن ما بقي معهم يمكن أن يصل بهم لأي مورد من موارد الصحراء, فقدتهم بسرعة إلي النبع الذي تركه لي الشيخ صائم الدهر, فكان ذلك مفاجأة افرحتهم, إلا أنهم خشوا أن يكون نبعا ضئيلا ينفذ ماؤه بسرعة, فابلغتهم أنه لن ينفد ابدا, وأن عليهم أن يسرعوا بأخذ كفايتهم منه وملء ما لديهم من قرب وأوان, وليتفضل من يريد الاستحمام أو الوضوء لأنه نبع مبارك من صنع أهل الله استعاره, كما ابلغني من أهل الخفاء, وسوف يستردونه بعد انتهاء حاجتنا إليه, وكانوا قد نصبوا خياما يستظلون بظلها بجوار النبغ, حتي انتهت القيلولة, وبدأ الجو يميل إلي الاعتدال, ومع أول انسام العشية, اعادوا وضع الامتعة علي الأبل, وكان بينهم جملان من أبلي بكامل حمولتهما من التمر, امتطيت احدهما, عائدا إلي أهلي, وفي جعبتي حكاية احكيها للأهل عن جدهم الغوث الكبير سيدي ومولاي محمد القالوني رحمه الله, الذي سيكون أول شيء أفعله هو زيارة قبره, وذبح جمل ندرته له, إذا نجوت ليكون وليمة يفرح بها كل أهل البلدة بإذن الله.
واقنعت أهل القافلة أن من حضر لنجدتنا, هو جدي الصالح العارف بالله, سيدي ومولاي الشيخ محمد القالوني, وسألتهم ونحن نسير ليلا, أن يتبعوني وأنا أقود الابتهالات اعترافا وامتنانا بما قدمه لنا هذا الغوث العظيم, فكانوا يرددون بحماس ما أقوله من الابتهالات, وأخرج أكثر من رفيق دفا أو طبلا صار ينقر عليه بإيقاعات تناسب النغم:
أحضر يا سيدي القالوني
أحضر يا غوث الملهوف
وأحضر في قلبي وعيوني
وأنت بالنجدة معروف
تملأ طريقي بالبركات
وتنزع من نفسي هالخوف
وضج ليل الصحراء بالأناشيد وعزف الطبول والدفوف, تردد أصداءه الهضاب البعيدة التي تصنع طوقا لهذا البون الشاسع العريض.
رابط دائم: