رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

( انا منك اتعلمت )
ردة إلي زمن البكاء علي الوطن المسلوب

أشـــرف عبد المنـــعم
فكرت يوم أهرب بعيد وبعدت لقيت نفسي بأتوه في وحدتي وهمي لفيت بلاد والهم زاد فرجعت وما نابني غير إني اتحرق دمي يا حبيبتي ما انتي السبب في اللي وصلنا له

اللي يدوق الملل البعد يحلا له
واللي يعوز يجرحك تلاقيكي رايحه له
دانتي عليكي العجب.. وأنا منك اتعلمت
أنا من زمان حبيت وقلبي اتشد
كان نفسي مرة في يوم تحسي وتحني
وفـ بعدي عنك قلبي قال إجمد
ملقيتش غير صورتك قصاد عيني
بهذه الكلمات عبر الشاعر الغنائي أحمد فايز عن مشاعره تجاه حبيبة مجهولة; وبالكلمات نفسها تغني محمد منير علي ألحان أحمد حمدي رؤوف وتوزيع موسيقي لكل من باسم درويش و سباستيان موللر شروبسدورف في أغنية حملت اسم( أنا منك اتعلمت).
والحقيقة أن أسلوب التناول لموضوع كلمات الأغنية سرعان ما أعاد الذاكرة إلي مدرسة شعرية كنا نظنها قد ولت; ألا وهي ما يمكن أن نطلق عليه مسمي( مدرسة البكاء علي الوطن المسلوب); وفيها يقوم الشاعر الغنائي بغزل ثوب قصيدته الوطنية بخيوط ولع تفيض عشقا تجاه وطن لا يشعر بملكيته; ويشرع يواريها طوال الوقت بمعان, من فرط تخبئته لها, يظن السامع أنها موجهة للحبيبة; فلما يمعن النظر والسمع يساوره شك في أنها ترمي بالظلال نحو معان أبعد وأكثر عمقا, حتي إذا تأكد من ذلك, راح يسمعها علي نحو جديد; يلبس المعاني ما كان الشاعر يرمي إليه بحذر!
والواقع أن هذه المدرسة الستينية التي خرجت من رحم حقبة استعمارية مرت بها المحروسة, كان لها مبررها إبان حقبة الاستعمار, وربما الحقبة التالية عليها; علي اعتبار أن المصريين ظلوا لسنوات وسنوات يئنون تحت نير الإحساس بالوطن المسلوب, حتي من بعد أن رحل المستعمر, و برغم القول بأن البلد فد نالت حريتها, لم يتوقف شعراء هذا الطراز عن الإمعان في الشعور بفكرة الوطن المسلوب; وكأنهم وجدوا ضالتهم في هذا الشعور الذي أكسبهم أهمية بين أقرانهم بصرف النظر عن الواقع الفعلي المحيط; يلهبون المشاعر بسياط العتاب والتغزل في وطن لا يملكون ناصيته أبدا!
والحقيقة أن اللجوء إلي الرمزية في ثنايا الأعمال الأدبية عموما يحتاج إلي حرفية من نوع خاص; إذ ليس كل ما( يتصوره) المبدع رمزيا بالضرورة أن يكون كذلك; فقد يسهب الشاعر مثلا في صوره البلاغية متخيلا أن المعني المقصود قد اتضح منذ البداية; في حين قد يكون المتلقي علي موجة أخري منذ أن تلقي العمل الفني, ولم تساعده الكلمات أو المعاني المطروحة علي التقاط أي من هذه المعاني الغامضة ــ خاصة إذا ما أفرط المبدع في غموضها, فإذا بالرسالة الفنية المرجوة وقد راحت أدراج الرياح, ويظل الأمر هكذا إلي أن يخرج المبدع ــ وليس الناقد ــ علي الناس فيشرع في شرح وجهة نظره, وهذا أضعف الإيمان!
فالرمزية تحتاج إلي القذف برموز لايختلف عليها العقل الجمعي بأي حال من الأحوال ما بين الحين والحين في غمار العمل الفني; وذلك حتي يتسني للمتلقي أن يتشكك في المعاني المطروحة عليه فيشرع في ربطها بالمعني( الخفي)المقصود الأكثرعمقا.
ومن ثم, فحينما نطالع كلمات الشاعر أحمد فايز فإنه من الصعب علينا, إن لم يكن من المستحيل, أن نربط هذه المعاني بالسياق الوطني المقصود من قريب أو بعيد; فمفردات الكلمات بشكل مجرد لا توحي سوي بقصة حب عادية ربطت الشاعر بحبيبة حولت حياته إلي ملل; وكانت خلال ذلك دائما ما تجنح إلي سوء الاختيار فيمن ترتاح وتسكن إليه حتي وإن تسبب في جرحها, أما الحبيب فقد ظل متعلقا بحبها مهما بدر منها من أخطاء بالرغم من أنه جاب البلاد بحثا عن مهرب من هذا العذاب... هكذا توحي الكلمات; فقد خلت تماما من أي إشارة رمزية تذكر من شأنها أن تمكن أي ناقد من سحب المعاني إلي مساحة الوطن بعيدا عن المعني الضيق للحبيبة; إذ لم نجد كلمة واحدة من شأنها أن تعزز هذا الاتجاه, وإن ظل تقديم العمل( إعلاميا) يصر إصرارا علي أن المقصود كان الوطن; وبالتالي تحتم علينا أن نمرر المعني ونهضمه علي كونه معي قابع في( بطن) الشاعر( إكراما) لمحمد منير, وهذا من وجهة نظري تحميل للمعاني بغير ماتحتمل; و قد يعزز موقفي في هذا المضمار سؤال حائر: ماذا لو أن هذه الأغنية قد عثر عليها المؤرخون بعد مئات السنين مثلا, هل تراهم قادرين علي ربط المعاني بالوطنية المنشودة؟ لا أعتقد, وإنما سيظل المعني حبيسا في الإطار الذي حدثتك عنه دائما أبدا ذلك المعني الذي لا توحي الكلمات في الحقيقة بغيره... وهذا يضعف المعني!
ثم لو أنني افترضت جدلا أن معني الوطن ظاهر جلي كما تم الترويج له بين جمهور المستمعين ومحبي أغنيات منير, فلا مفر حينئذ من أن نجد أنفسنا ببساطة أمام شاعر راح ينهال بسياط الغضب علي وطنه متهما إياه بأنه كان السبب وراء ما آل إليه الحال; فهو وطن( طارد) لأبنائه, غير حريص عليهم, أو قل علي المخلصين منهم الذين يذوبون فيه عشقا; بل هو وطن لايعطي سوي من يقسو عليه ويبخل عليه ويسبب له الجروح; وطن يعج بالملل الذي يدعو إلي اليأس الشديد من بلوغ الأمل في رحابه إلي حد الدفع بأبنائه إلي اختيار الرحيل عنه كرها وهم يكتوون ولعا بحبه الذي( ما عاد يستحق)!!
نغمة غير محمودة ربما ناسبت مبدعي معتقلات( البوليس السياسي) و(مراكز القوي) في غياهب زنازين( السجن الحربي), وليس مبدعو2016 الذين أطاحوا بنظامي حكم في غضون سنتين بثورتين واسعتي المدي; وحتي لو رآها( من رأي) تيمة مناسبة لهؤلاء المبدعين علي علو قدرهم, فلا أظن أن التوقيت لإطلاقها علي لسان مطرب في مكانة منير وقدرته علي التأثير مناسبا في أوج أحداث تحيق بالوطن(المجروح) تتربص المخاطر بكيانه من كل جانب!! وإنما كنا ننتظر أن يعزف فريق المبدعين من هذا الطراز الرفيع علي أوتار شحذ الهمم وترغيب الناس والعمل علي إعادة تكييف العلاقة بينهم وبين الوطن الذي(كان) مسلوبا ثم( عاد) لتوه يفتح أحضانه علي مصراعيها لكل أبنائه!! فما معني أن ننكأ مثل هذه الجروح في غير سياقها تمسحا بحقبة إبداعية قد ولت؟ لا أعرف يقينا!!
اللحن..
لحن الأغنية جاء في مقام نهاوند كردي, وقد تألف اللحن من فكرتين: مذهب وكوبليه, راح الملحن يتعامل مع الكلمات علي أساسهما بطول الأغنية; وقد نجح الملحن أحمد حمدي رؤوف في سكب روح اليأس علي لحنه بطوله ليوحي بما( تم الاتفاق) علي ما توحي الكلمات به من معان تقطر عتابا وحزنا; وقد اعتمد الملحن علي شحذ روح الانفعال في الجملة اللحنية للكوبليه( يا حبيبتي ما أنتي السبب....) كنوع من المحاكاة لروح إلقاء كل العتب علي الحبيبة صرخا وإمعانا في إشعارها بالجرم الذي ارتكبت في حقه وحقها!
التوزيع..
التوزيع الموسيقي جاء خالي الوفاض; إذ تقاسمه موزعان موسيقيان فذهب كل موزع بما ارتأي; بدأ بانفراط لنغمات تآلف الدرجة السادسة للمقام بالسابعة الكبيرة والخامسة المخفضة في وضع انقلاب ثالث(VI2-4b5#7).. ثم إذا نحن أمام تكوين آلي يتألف من آلة البيانو, وتلعب الدور الرئيس في الأغنية ويميل معظم أدائها إلي تأكيد إيقاع ميزان المازورة الموسيقية من خلال تآلفات علي وحدة النوار بعدد أربعة نوارات لم تبرحها بطول الأغنية تقريبا, وربما أسهم ذلك في تأكيد عنصر الملل الذي أوحت به الكلمات حين وجهت اللوم للحبيبة, ثم نجد تكوينا وتريا ما إن يشرع في التصاعد والتفعيل, حتي نجده يعود أدراجه سريعا مختبئا تحت وطء تآلفات البيانو المنتظمة التي تحدثنا عنها. وحتي عندما بدأت الوتريات تتحرر من هذا القيد المدمي وترفرف بعيدا بعض الشيء مع مستهل الكوبليه,إذا بها تكرر لحن الغناء حرفيا فتزيد من ظلاله دونما زيادة أو نقصان, ودونما محاولة للخروج بأي شكل من أشكال الألحان الكونتربنطية المتداخلة مع جملة هذا اللحن. ولعل من أبرز مكونات النسيج الآلي للأغنية آلتي الدودوك والساكسفون( التينور) واللتين أجدهما جسدتا حيرة الموزعين الموسيقيين خير تجسيد; إذ دأبت الآلتان علي( التنتيش) اللحني بين الحين و الحين دون وجود سياق واضح لدورهما في النسيج الآلي; فنحن أمام تذييل لنهايات الجمل الغنائية في محاولة لإضفاء نوع من أنواع الشجن, ولسنا أمام جمل موسيقية متسقة القوام ذات منطق قائم بذاته لكلتا الآلتين. أما العود, فيبدو أن انفعال الموزع الموسيقي باسم درويش بهذه الآلة ــ التي يبدو أنها آلته الأساسية ــ قد فاق المدي, إلي درجة الإفراط في استخدام الآلة بطول العمل, وكأنه يكاد يبوح بأن دوره الأساسي في التوزيع انحصر في توظيف هذه الآلة بقوة بصرف النظر عن أي دور آخر يعنيه بشأن بقية الآلات!!
أما الجانب الإيقاعي من الآلات, فأراه جاء موفقا من حيث اختيار التيمة الإيقاعية عموما, ومن حيث تفعيلها كلما لزم الأمر, وأخص في هذا ذلك التفعيل الإيقاعي الذي تم به استهلال جملة الكوبليه( يا حبيبتي ما أنتي السبب....) وذلك من خلال تريمولو إيقاعي رحب كاد يحرك ملل سكب تآلفات البيانو المنتظمة, ولكن الرياح ــ علي ما يبدوــ لا تأتي دائما بما تشتهي السفن!
الإخراج..
المخرج المتميز د.شريف صبري, لم يجد حلا بصريا سوي التركيز علي أداء محمد منير طوال الوقت وقد زج به في إطار لوكيشن مغلق لا يكسر ملل المشاهد خلاله سويpanning بين الحين والحين يستعرض بعضا من الآلات التي تم استخدامها في الأغنية; فإذا جاء دور آلة العود, ظهرت آلة العود; وإذا جاء دور آلة الساكسفون, لاح الساكسفون... وهكذا!! ولا أعرف تفسيرا نفسيا لاختيار تيمة الـBlack&White كفكرة رئيسية في تصوير الأغنية; كما لا أعرف تفسيرا مقنعا لعدم الخروج من هذه الغرفة المعتمة بطول مدة العمل!
الغناء..
وبصرف النظر عما قد سلف, يظل أداء محمد منير متميزا في توصيل الشعور الذي يتملكه, وتظل التحية واجبة له علي قدرته المتفردة في( محاولة) الخروج دوما بما هو ليس مألوفا!

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق