كانت المرة الأولى التى يتجمع فيها المراسلون الصحفيون ومندوبو وكالات الأنباء بهذه الكثافة رغم برودة الطقس ليلا فى صالة المؤتمرات الصحفية بالطابق الأرضى مترقبين وقع خطوات الزائر المهم، ولم يكن الضيف هذه المرة سوى وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف الذى أطل منتشياً على منتظريه بمبنى البرليمون بمقر المفوضية الأوروبية.
حالة الثقة التى بدا عليها المسئول الإيرانى البارز والنبرة المفعمة بالانتصار التى كانت تميز حديثه لم تأت من فراغ، فالرجل يقوم للمرة الأولى بأول زيارة رسمية للاتحاد الأوروبى ويستقبله بترحاب بالغ أبرز قادته مثل فدريكا موجرينى، الممثلة العليا للسياسة الخارجية والأمنية، وإلمار بروك رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان الأوروبى . ولم تكن موجرينى الواقفة إلى جواره أمام عدسات المصورين تقل حماسا، فإنجاز الإتفاق النووى بين الغرب والجمهورية الإسلامية يعد أقوى إنجاز للسياسة الأوروبية الخارجية فى السنوات الأخيرة كما أنه انجاز على المستوى الشخصى لموجرينى ذاتها، تحولت بمقتضاه العلاقات الغربية مع دولة محورية بالشرق الأوسط من خانة الصدام والتوتر إلى خانة الشراكة وحصد الثمار بصرف النظر عن المباديء والقيم التى تأسست عليها الوحدة الأوروبية ذاتها .
وتكشف خلاصة تطورات المسار السياسى بين الطرفين مؤخراً عن التصميم على الانتقال من مرحلة الحوار إلى مرحلة الشراكة - إن لم نقل التحالف - بما يعنيه ذلك بالطبع من تجاوز الملفات الخلافية القديمة حول دعم جماعات على صلة بالإرهاب وقمع المعارضة وخنق الحريات العامة والتمييز الدينى واضطهاد المرأة، وما صاحب ذلك من أجواء إنعدام الثقة بينهما فضلا عن تبادل الاتهامات حيث دأب الأوروبيون على اتهام طهران بتبنى سياسة مراوغة تفتقر إلى الوضوح، بينما كانت ترد الأخيرة معتبرة أن بروكسل - العاصمة السياسية للاتحاد الأوروبى - ما هى إلا تابع يخضع لإملاءات السياسة الخارجية الأمريكية المعادية لإيران حين كانت الولايات المتحدة لا تزال تسمى "الشيطان الاكبر" فى الأدبيات الإيرانية.
والواقع أن الاتحاد الأوروبى تتبنى - تاريخيا - سياسة "شبه مستقلة" عن البيت الأبيض تجاه ايران ما بعد الثورة الاسلامية ولو من باب توزيع الأدوار الذى تتمسك واشنطن بمقتضاه بسياسة "العصا" بينما تلوح بروكسل بـ "الجزرة". فى ديسمبر 1992 أصدر الاتحاد الأوروبى بياناً يعلن فيه عن إطلاق سياسة "الحوار النقدي" مع طهران، أى تبادل وجهات النظر مع التركيز على الملفات الشائكة مثل الحريات العامة وحقوق الانسان وقمع المعارضة ودعم جماعات على صلة بالارهاب. الأمريكيون لم يخفوا استياءهم من التقارب الأوروبى الايرانى حتى أن البعض وصفه ساخراً بأنه مجرد منتدى لانتقاد طرف ثالث هو الولايات المتحدة، بينما وصفه البعض الآخر بأنه ستار لتعاون اقتصادى كثيف. ولم يخل الانتقاد الأخير من وجاهة، فعلى مدار سنوات معدودة تم التقدم بقوة على مسار التعاون بمجالات الطاقة والتجارة والاستثمار والشحن والبيئة، وبلغت استثمارات الشركات الفرنسية والايطالية بمجال النفط والغاز وانشاء حقول جديدة بايران عشرات المليارات . و قبيل نهاية عقد التسعينيات، أعلن الاتحاد الأوروبى عن تحوله من سياسة الحوار النقدى الى سياسة "الحوار الشامل و البناء" وكان للفوز الساحق لمحمد خاتمى برئاسة الجمهورية الاسلامية و تبنيه سياسات اصلاحية تأثيراً قوياً على التوجه الأوروبى الجديد.
حالياً تبدو المكاسب التى تبحث عنها ايران من وراء التقارب مع الاتحاد الاوروبى منطقية ومفهومة، فبعد سنوات من الحصار والعقوبات تريد الجمهورية الاسلامية انفتاحا أوسع على العالم و الانتقال من سرية التعاون الى علنيته واكتساب المزيد من الاعتراف بشرعية نظام "ولاية الفقيه" فضلا عن الانتعاش الاقتصادى وحصد ثمار "سنوات الصمود بوجه الأعداء" على نحو يعزز مكانتها الدولية ويخدم طموحاتها الاقليمية فى تقديم نفسها كشرطى للمنطقة والزعيم الحقيقى للعالم الاسلامى .
والسؤال : ما الذى تبحث عنه بروكسل من التقارب مع طهران ؟
بخلاف تأمين امدادات الطاقة والغاز من خلال تنويع مصادرها وزيادة الاستثمارات الخارجية واقتطاع الجزء الأكبر من كعكة الأرصدة المليارية التى عادت للجمهورية الاسلامية، تسعى السياسة الخارجية الاوربية الى لعب دور أكبر فى قضايا الشرق الاوسط التى طالما انفردت بها الولايات المتحدة مثل انهاء الصراع بسوريا و اليمن وأفغانستان من خلال حوار فعال مع طهران التى تعد أحد أبرز اللاعبين على هذه الساحات، وكذلك التعاون فى مجالات مكافحة الارهاب وعدم ترك الايرانيين يهرولون وراء السياسة الروسية المتناقضة مع اوروبا فى المنطقة. بعبارة أخرى تسعى أوروبا الى استعادة نفوذها الشرق أوسطى القديم ومن الواضح أن علاقة مميزة مع طهران تعد مفتاحا جيدا لتحقيق هذا الهدف. و فى هذا السياق، جاء اعلان موجرينى أن الاتحاد الاوروبى سيفتح مكتبا بدمشق لتسهيل أعمال الاغاثة الانسانية فى ظل الصراع المحتدم بسوريا منذ سنوات، وهى الخطوة التى لعبت ايران دورا حاسما فيها.
على هذه الخلفية، يمكننا أن نفهم أهمية أن تتصدر المباحثات بين ظريف والمار بروك عناوين ايجابية تعزز تجاوز أزمة انعدام الثقة القديمة مثل تطبيق الاتفاق النووى المبرم بين الغرب وايران وانهاء تجميد المساعدات الاوروبية للأخيرة. هذا لا يمنع أن يذكر أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان الأوروبى على استحياء فى لقائهم بظريف أن تطور العلاقات مع طهران لا يجب أن يكون على حساب قضايا مثل حقوق الانسان وملاحقة المدونين والتوسع فى عقوبة الاعدام . وبحنكة السياسى الذى يعرف نقاط الضعف لدى الصديق قبل العدو، وعد وزير الخارجية الايرانى بالعمل على تحسين سجل بلاده فى مجال حقوق الانسان مشددا على أن ذلك يجب أن يكون مبنيا على أساس من الاحترام المتبادل وعدم ممارسة أى ضغوط، مشيراً الى أن ذلك يعد بداية فتح صفحة جديدة من التعاون غير المسبوق بين بلاده و الاتحاد الاوروبى عنوانها تحقيق المصالح المشتركة.
رابط دائم: