تعكس سياسة التعليم درجة توجه السياسة العامة للدولة نحو توفير ما يطلبه الأفراد ليحققوا أهدافهم المعلنة والضمنية من التعليم, وتحقيق ما يتمنونه للمجتمع ولأبنائهم, والعلاقة بين السياسة العامة والسياسة التعليمية هي علاقة الكل بالجزء, وأن الأثر المتبادل بينهما( إيجابا أو سلبا) لا يمكن إنكاره أو التغاضي عنه, والعلاقة بينهما في بلادنا تسير في اتجاه رأسي( هابط غالبا), ولو تغير الكل إيجابا لتغير الجزء بنفس الدرجة والاتجاه.
وتشير الدلائل إلي أن السياسة العامة غالبا ما تفرض مبادئها ومعاييرها الفكرية علي السياسة التعليمية, وبالتالي تصبح السياسة التعليمية مسيرة, أما إذا امتلكت السياسة التعليمية القدرة والتمكن من انتقاء سياسات أو خيارات أو بدائل تربوية رصينة من صنعها, تصبح سياستها مخيرة, وتصبح هي مسئولة عنها.
تعالوا نطرح هذا السؤال: هل السياسة التعليمية في مصر كانت مسيرة أم مخيرة؟, ويترتب علي ذلك الوصول إلي إجابة يمكن في ضوئها محاسبة المؤسسات التعليمية محاسبة سياسية مع الآخرين من قادة وسياسيين وتنفيذيين وأفراد علي ما أنتجوه من مخرجات, ونبدأ الإجابة من ثورة يوليو2591 إذ إنها علامة فارقة في تاريخ مصر القريب, مع وجود فواصل زمنية أخري يمكن الاسترشاد بها في تلك الفترة كما يلي:
الفترة الأولي: بعد قيام الثورة بفترة وجيزة حدثت تغييرات في هيكل النظام التعليمي, منها ما تم تغييره لمجرد الاختلاف عن النظام السابق مثل إعادة هيكلة السلم التعليمي, وتغيير طريقة تعليم القراءة والكتابة في المرحلة الابتدائية, وواكب ذلك ظهور نظام الحكم المحلي, الذي لم يستطع فك شفرة المركزية واللامركزية في أمور التعليم, وتدخل بمعرفة أو بدون معرفة وتحت ضغوط غير واعية للاعبي السياسة العامة والجماهير, ومن هذه التدخلات ما كان له مبرر سياسي وتربوي إيجابي كنشر التعليم وإتاحته لكل الطبقات عن طريق دخول مصر عصر التخطيط التربوي, ومجانية التعليم الجامعي وتوفيره للطبقات الكادحة, وإنشاء مكتب التنسيق بمبرره السياسي وضعف مبرره التربوي, واستمر ذلك صعودا حتي حرب7691, حيث بدأ بعدها الهبوط الملحوظ في منحني كيف التعليم ونوعه, وإن استمر التوسع الكمي, وكان وراء هذا النمو الكمي دولة مساندة وفق قدراتها المتاحة, أو بمعني آخر كانت سياسة التعليم مسيرة تماما بنتائجها الإيجابية أو السلبية.
الفترة الثانية: فترة ما بعد حرب76, مرورا بانتصار أكتوبر3791, وحتي نهاية حكم الرئيس الراحل أنور السادات, وكانت كل أمور التربية مسيرة أيضا بظروف الاستعداد للحرب, وما تلا ذلك من قصور في التمويل, واستمرار التوسع الكمي نظرا للزيادة المضطردة في عدد راغبي التعلم في الشريحة العمرية لسن القيد المدرسي والعالي.
الفترة الثالثة: وهي فترة حكم مبارك التي استمرت ثلاثين عاما, وتتصف بعدد من السياسات منها علي سبيل المثال: خفض سنوات التعليم ثم الرجوع عنه, والخطط الخمسية والعشرية الورقية, وكثرة المؤتمرات والندوات ووثائق التطوير وادعاء الإنجازات, وظهور المعايير القومية ونشأة هيئة لضمان الجودة والاعتماد, ولم يتعد هذا التطوير أعتاب ديوان الوزارة في شارع الفلكي بالقاهرة, مع حدوث زيادة في كثافة الفصول وتعيين المعلمين من غير التربويين, واشتعال الدروس الخصوصية, والغش الجماعي, وكثافة ظهور الخبراء الأجانب, ولم تكن هناك سياسة تعليمية مسيرة ولا مخيرة.
الفترة الرابعة: مازلنا نعيش هذه الفترة ولا يمكن الحكم عليها حاليا, ونتمني أن تتميز بوجود: مجلس دائم لسياسة التعليم يشكل من علماء التربية وممارسيها برئاسة وزير دولة لسياسة التعليم يضم معه وزراء تنفيذيين لكل من قطاعات التربية والتعليم, والتعليم والتدريب الفني, والتعليم العالي, والبحث العلمي, والتعليم المستمر وربما الثقافة, وأن تكون سياسة التعليم بؤرة محورية فاعلة ومخيرة بين السياسات والاستراتيجيات والبدائل والقرارات الرشيدة ذات العوائد المؤكدة والعاجلة, وليست مسيرة بالهوي والظروف والطوارئ والأزمات وأدعياء المعرفة والخبرة التربوية, ولتتفرغ هذه الوزارة لصنع السياسة التعليمية ويترك التنفيذ لكوادر مؤهلة قادرة منتقاة من خلال عملية اختيار واعية ووفق معايير علمية ولها القدرة علي فك شفرة المركزية واللامركزية.
د. أحمد محمد غانم
كلية التربية ـ جامعة بني سويف
رابط دائم: