لم تنسى فى حياتها ذلك اليوم الذّى خلعت فيه رداء الحيرة والتعجّب .. كم تساءلت ولكن ,, بدون مجيب ’’وبدون جدوى , وكانت حبّات المطر فى إحدى ليالى الشتاء الباردة تطرق
بشدّة على نافذة غرفة نومها.. وكأنّها ساعى البريد أتى مستعجلا ليعطيها خطابا طالما إنتظرته حتّى طال بها أمد الإنتظار .. جرت إلى حيث النّافذة وفتحتها لتتلقّى أفواجا جديدة من حبّات المطر المتتالية على وجهها وكانّها تتحدّاها ..
ونظرت حولها فإذا البيوت غارقة فى الظّلام ..وسيول المطر تطرق كل باب ولاتأبى إلاّ أن تكسوة بحلّة ملونّة بلون البرق الذى إخترق سمعها ..كسكّين حادة , وبسرعة أغلقت النّافذة ثم سارت بضع خطوات نحو المرآة, ونظرت بعين حائرة وجلة ’
وسألت نفسها ..ماذا يحدث لوخلعت عنّى هذا البدن وخرجت من أسر جسدى ؟..ماذا يحدث لوتحرّرت تلك الرّوح الرابضة بإستسلام داخل هذا الجسد لها ؟,,
ماذا لو انتفضت وثارت ؟,, وثأرت لنفسها من استعباد هذا الجسد لها ,, تحسّست وجهها على سطح المرآة ولكن بحذر ودقّة.. وقالت فى هدوء مستكين ,, كم يطيب لى ذلك !..
وبنظرة تحدّى واثقة تساءلت ,,ولما لا.. إن الأجساد طالما كبّلت هؤلاء البشر وحبست أرواحهم داخل إيطار من صنعها هى ,,وكل بشر إنّما هو حبيس جسده ورهينه,, وأصرّت بثقة كبيرة على أن تصبح جوهرا مجرّد بلا بدن يكبّلها.. وقالت فى نفسها :-
-عندها فقط سأصبح هائمة فى عالم من العوالم العليا..ولن أعود بشرا أو مادة ,, بل روحا خالدة لاتعرف الفناء!! ,,سأكون عند إذن داخلة فى ذاتى خارجة عن كل شيء,, تجولّت فى غرفتها للحظات وكأنّها تعد نفسها لأمر جلل , ثم جلست على الكرسى الهزّاز فى ركن الغرفة , وراحت أفكارها تتأرجح فى ذهنها ذهابا وإيابا مع تأرجح الكرسى الهزّاز,,
ثمّ تناولت علبة سجائرها من فوق الكوميدينو بجانبها وأشعلتها ثمّ نفثت الدّخان فبدا أمامها الدّخان فى حلقات دائريّة متداخلة ..كأمواج أفكارها المتلاطمة اللّتى عصفت بها ’’ لا لشيء سوى لكونها أرملة بلغت الثّلاثين من عمرها ,, ولم تنجب أولاد ’’ إنّها لاتدرى تحديدا ماهى حقوق هذة السن ؟.. سوى إنها سن الأنوثة النّاضجة ,,أو أنها كثمرة طاب مأكلها وحان وقت قطافها من فوق الأشجار ,,تنادى من يقطفها ليتلذّذ بأكلها ,,لكنّها وبالرّغم من كل ذلك لم تعبأ بهذا أبدا ,, ولم تعرة أى إهتمام ’’ ربّما لئن لديها ماهو أهم وماهو أكبر ، أو ماهو أكثر من شىء يملئ رأسها الصّغير ..وكم تساءلت بكل حيرة كانت تتأجّج بداخلها
,, الحياة ..مالحياة؟..
سؤال متعدد الإجابات ..طالما تساءلت عنه وكان صداه يرن بداخلها..,, ..إنّها حلقة دائرية مفرغة ,,كلمّا قاربت على الانتهاء تعود لتبدأ من جديد ,, إنّها لعبة متكرّرة ,طالما غاصت فى دهاليزها أثناء دراستها لعلم الفلسفة,والّذى تبحّرت وتفوّقت فية, , لقد قالت لإحدى صديقاتها ذات مرّة ..عندما نظرت لها بتأمّل وفى ثقة ـ أنا حاسّة إن الأرض إللى إحنا بنمشى عليها حاتنفجر ,, الأرض شايلة جوّاها كتير.
أنت أنت أيتها الأرض ..وأنتم أنتم أيها البشر,,
وعندها قرّرت (هناء) أن تدرس علم الطاقة ..وتبحّرت فية,,
وحانت اللحظة الحاسمة فى حياتها , واللتّى طالما بحثت عنها ,,وطال إنتظارها لها ,, إنها
لحظة الخروج من الجسد ,,لحظة كانت على وشك أن تيأس من إنتظارها ,, لولا أن رأتة في
تلك اللّيلة الّليلاء ,لقد ولد كلاهما معا منذ ذلك اليوم ,,بل منذ تلك اللّحظة , اللتى تحوّل فيها الكيان المادى إلى روح خالدة ,,كانت قد جلست لتستريح وتسترخى بعد عناء يوم طويل من العمل الشاق ,فى بحث مشكلة هذا ..ومشكلة ذاك ,, وقراءة طالع هذا أو تلك ممّن يطمحون دائما لمعرفة المستقبل الخفى عنهم ,,ولم لا ,فهى الآن عالمة روحانية مشهورة,, تقرأ الوجه كخريطة واضحة المعالم أمامها ,,وتخترق بواطن الأمور ,, وتحلّل الشخصيّات, إلى أن قابلته فى ذلك اليوم , نعم قابلتة , بعد أن طلب منها تحديد موعد لمقابلتها, لئن الأمر والتحدّث معها مباشرة ..فالأمر على حد قوله لا يجدى معه الأتّصال الهاتفى ’’فحّددت له هى موعد مناسب وفى ساعة مناسبة , ولم تكن تدرى إنّة موعد مع الحياة ,, مع الخلود الأبدي, أتى اليها ودقّ بابها وجلس أمامها ,,فأدركت منذ الوهلة الأولى مقدار مايعانية من هموم أثقلت كاهلة حتى أعيته وأتعبته ,, دخل متردّدا وجلس أما مها وكأن الكلمات تعثّرت
على شفتيه , أو ضلّت طريقها إلى لسانه , وضاع منها العنوان ,, وخرجت أول كلمة من من فمه كالسجين الحائر الذى يريد الفكاك من سجنه وهو لايعلم أين المخرج ,,أو كيف يكون ؟..
ورأت هى أمامها شاب نحيل,, طويل القامة ,,هادئ الملامح ,,باهت العينين ,,وكأن بهما إصفرار أو ذبول ’’أو كأنهما بوتقتان ينصهر بداخلهما مزيج من النّوم واليقظة فى آن واحد!!
إنة تباين متناسق أو تناسق متباين ’’ولكنها لمحت بريقا خاطفا يطل من عينيه ويلمع بحزن عميق وغريب,,
وبدا لها من هيئته أنه يهتم بمظهره وهندامه ,,لكن ليس ذلك حبّا فى الأناقة بقدر ماهو رغبة فى إسدال ستارعلى شىء يخشى أن يراه أحد ما ,, أو يلمحه يطل من داخله ,, كان الخوف يطل من عينيه فبدا كأمير محبوس داخل قلعة حصينة
قد حاصرها الحراس من كل إتجاه ..وقبل أن يفتح فمه بكلمه
بل وقبل أن تعرف إسمة أو إسم والدتة كما إعتادت ,, أو حتى تاريخ ومكان ميلاده وساعته كما أعتادت ’’بادرتة بسؤال تلقائي, -إيه هوّ نوع مرضك ؟.. وقبل أن يجيب وسط دهشه إنهالت بغزارة على وجهه بأمطار باردة لسع رذاذها وجهه فإزداد إصفرارا, نظرت هناء له بثقة وقالت : -أنا عارفة إن مواليد برجك بيفضلوا الكتمان . والغموض دايما بيبقا فى كل تصرفاتهم,,
وكمان إنت مابتحبش الإجابات المباشرة ,, وكانت قد عرفت برجة من صفاته,, وإزدادت دهشته وتأججت حيرته ونظر إليها وقد غرقت عيناه فى بحر من الدّموع وأجابها قائلا:- عرفتى إزّاى إنّى مريض؟!,
وبإبتسامة رصينة واثقة أجابتة-- دى شغلتى , لكن الموضوع دا خد منى سنوات فى البحث والدراسة ,, لحد ما أتقنت الغوص داخل النفس البشرية ,,(تقدر تقول إنة نوع من الفراسة’’) .
--لكن إللى أنا بعانى منة مش هيّن ومش من السهل علاجة’’) أنا مهدّد بالموت فى أى لحظة .. أنا عايش زى الميت ,, و الأطباء
إحتاروا فى مرضى من لمّا كنت صغيّر ومالقوش لة دواء ,, ولمّا
يئست من حياتى رحت لبعض المتخصصين فى الأمور الروحانية
لكن أكدّوا لى خطأ التشخيص الطبي,,وقالوا لى أنة نوع من
المس الشيطانى ,,لكن كتير ماصدّقوش الكلام دا وإعتبروة
نوع من الدجل والشعوذة ..ببساطة لقد حار بين الرأيين..لدرجة
أنة لم يكمل دراستة الجامعية لأبتعاد الزملاء عنة عندما علموا بمرضة,,حتى خطيبتة التى أحبّها تركتة خوفا من أن تنجب منة أولاد مرضى ..فالمرض وراثي,, ويعتبر نوعا من أنواع الجنون,
وبيأس وإحباط ,,نظر اليها قائلا –مافيش قدّامى غير إنّى أستنى الموت , كانت تعلم منذ بداية حديثة أن مرضه نوع من أنواع الجنون ,, ولكنة كان يصر على أنّه عاقل ,مدرك لكل ماحولة ,وبأنّة ليس بمجنون كما يدّعى بعض الأطّبّاء, حتّى أنّه فى إحدى المرّات إنخرط فى بكاء مرير , ألقى به فى دوامة من الدموع إعتصرتة بداخلها’’ كموج بحر هائل ليس لة قرار, نهضت من مكانها واقتربت منه وكفكفت دموعة بلمسة حانية , وبتحدّ ممزوج بحنان كالماء الراّئق قالت :-
–إنت عندك طاقة خفيّة ولازم تستغلّها’وحاتشوف نتيجة ماشفتهاش قبل كدة ..
لمع بريق الأمل فى عينيه ,وبدت ملامح لإبتسامة باهتة وجلة لاحت كنور الفجر الذى بدأ يشق الظلام على إستحياء , لكنّة مازال غير مصدّق , إنة خائف وجل مضطرب , ولم تفتر عزيمته اعندما أخبرها أن جدّة لوالدة مات بنفس المرض ثم لحقت به
عمّته ,. لكنها كانت دائما ماتنظر له بثقة قائلة :--لكن فى أمل ,, أنا متأكدة ,.
نظر اليها بنظرة أمل وبرجاءقائلا: –لكن إنتى مختلفة عن غيرك
إنتيييييييي,, لكنة صمت فجأة وتراجع عن شئ كان يود قولة
وتخاذلت قوة الكلمات على شفتية وذبلت ,.لقد كان ريشة فى مهب رياح قاسية لاترحم.
وتعدّدت لقاءاتهما ,ولم يعد أى منهما يقوى على فراق الآخر ,,لقد أصبح (ماجد) هو شغلها
الشّاغل ,,ربمّا هو شعور الأمومة المتوثّبة بداخلها, أو ربمّا هو شعور آخرمختلف لاتدرى هى كنهه , إنه إحساس مختلف, فريد ,, وتيقّنت(هناء ) من أن( ماجد ) سيتخلّص من كل آلامه
وسيشفى من مرضة ,,وكان يخالجها يقين قوى بحدوث ذلك , فكانت تقوم بتدريبه على كيفيّة الخروج من الجسد والعودة الية مرّة أخري, وفى كل مرّة كان (ماجد) يؤكّد لنفسة أنة سيشفى من مرضة , عندما كان يرى شعاع الأمل ينبثق من عينيها ليشرق على قلبة وروحه ويبث بهما أمل جديد , ما أجمل أن يصبح الإنسان كذلك !!!
وما أجمل هذا اللقاء المطلق اللانهائى الذى كان يجمع بينهما بين الحين والآخر,, إنّة لقاء لاماضى فية ولا حاضر ,لقاء غير مكبّل بقيود الخوف من الآتى !!, , لقاء بين روح (هناء) وروح (ماجد),وبالرغم من الفاصل المكانى اللذى كان يفصل بينهما
إلاّ أنه كان لقاء أقرب من القرب ذاتة ,, إنّه القرب البعيد .أو البعد القريب ,,كان لقاء أبديا خالد ,كالحلم الواعى , أو الوعى الحالم ,كيان مدمج وإندماج كائن , متجسّد بين طاقتين متناغمتين ,.. وكأنّما هو نداء لهؤلاء المقيّدين الحبيسين داخل أجسادهم ,, يأمرهم بكل ثقة وبكل نشوة قائلإ :-إخرجوا يامن أنتم متقوقعين قابعين داخل أجسادكم تتحكّم بكم المادة ,,وتقهركم فى عالمها ساحقة إيّاكم تحت قدميها ,فتطحنكم بين شقيّ رحى .. إخرجوا إلى العالم اللاّ نهائى ,العالم الإستثنائى ,, حيث لاخوف ولاقهر ولا مرض ,,حيث لافناء,, وإنّما هو متعة الجنون وجنون المتعة .
رابط دائم: