رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

حكاية مدير عام

سليمان كابوه
تقلب ذات اليمين وذات الشمال على سريره، لم ينم طيلة ليلة فقد ارقه السهر وأضناه الالم بالأمس لم يجد ما يسد به رمقه أو يشبع به جوعته ، رغم ما يحاط به من هالة ومنصب كبير... نعم هو على درجة مدير عام بلا ادارة ولا مرؤسين ، راتبه يتجاوز الآلاف الثلاثة ، لكنها تتبخر وتتطاير فى كل اتجاه ، جزء كبير لإيجار الشقة وآخر للكهرباء والمياه ، وثالث بالكاد يكفى مصاريف البيت ومتطلبات المدارس.

بالأمس كان الخامس والعشرون من الشهر ، وهو يتقاضى راتبه أول كل شهر ، لقد أنفق آخر جنيه بحوزته ، وحمد الله أن ولديه نجحا فى الامتحانة ولن يعودا يثقلان كاهله بمصاريف الذهاب إلى المدرسة والإياب منها ، وبالأمس تناولت الأسرة وجبة الغذاء وهى بقايا طعام مطبوخ من أول أمس ومحفوظ فى الثلاجة التى أصبحت خاوية إلا من زجاجات المياه !!.

فى الصباح نفض النعاس عن عينيه المغمضتين ، تثاءب طاردا رغبة ملحة للعودة إلى الفراش ، توضأ ثم صلى داعيا الله ان يفرج كربته ، ويفك ضائقته، وأن يرزقه الله بما يقيم به أوده هو وزوجته وولديه طيلة الأيام الخمسة المتبقية حتى مطلع الشهر الجديد.

اقتعد كرسيا فى حجرة الصالون ، تغشاه الحزن ، واستبان القلق على ملامحه ، فالأسرة لم تتناول قط وجبة العشاء ، شعر الابنان بأبيهما وناما على الطوى ، وهاهما قد استيقظا ولسان حالهما يقول أن إلى الطعام ولا طعام ، الرجل حائر ، والزوجة الطيبة هى الأخرى تشعر بما يعتمل فى نفس زوجها وما تنم عنه ملامحه ، فتطرق مليا ساهمة.. ثم ترفع وجهها اليه وتثبت ملامحها فيه قائلة فى صوت حنون أن قم قم يا أدهم فيرفع الرجل عينيه اليها متسائلا أن ماذا؟ فتمتد يدها إلى خاتم اصبعها وتخلعه ، ثم تناوله إياه بنظرة عطوف ،ونفس تفيض رقة ، قائلة ان هيا يا ادهم قم وتوكل على الله ، بع هذا الخاتم وانفق منه ، فتنفك أسارير الرجل، وتنقشع قتامته ، شاعرا بفضلها عليه ، فكم من مرات ومرات كانت سباقة دائما إلى بيع مصاغها ، وقضاء حاجة الرجل وحاجة ولديه وها هو الخاتم الأخير او بالاحرى القطعة الاخيرة من مصاغها.

..................

امتدت يده إلى الخاتم آخذا اياه شاكراً لها فضلها عليه ، نهض مرتديا بدلته ، منتعلا حذاءه ، ثم خرج ميمما منطقة الجيزة ، حيث تكثر محلات الصاغة ، خرج من شارع جمال عبدالناصر ، بجوار منطقة الاسعاف بفيصل ، حيث يقطن ، لكنه اجفل اذ تذكر فجأة أنه بحاجة إلى جنيه ، نعم جنيه واحد قيمة المواصلات حتى ميدان الجيزة ، فعادت الحيرة ترتسم على جهه مرة أخرى ، قضم شفتيه ، وتنهد شاعراً بالضيق ، فمن أين له بالجنيه ، راجع نفسه متسائلا ألا من محل قريب هنا فى هذه المنطقة يغنيه عن الذهاب إلى ميدان الجيزة ، عاد إلى منزله مكفهر الوجه منطفئ النظرة ، صعد درجات السلم ، قرع الباب ففتحت له زوجته وفى عينيها تساؤل صامت عن سبب عودته سريعا فتهالك الرجل على مقعده بجوار الباب ، سائلا اياها عن أحد المحلات القريبة منهم فأفضت اليه بعلمها بان هذه المنطقة لا توجد بها محلات للصاغة ، واردفت متسائلة لعلك لم تجد نقودا كى تدفع مواصلاتك إلى ميدان الجيزة فاومأ لها مؤمنا على صدق حدسها ،وأنه فى حاجة إلى جنيه واحد قيمة المواصلات ، فخبطت صدرها براحة يدها ، تشاركه همه وضيقه وخيم عليهما صمت للحظات كانت كأنها دهر ثقيل بعدها نهضت كمن تذكرت شيئا فجأة ، فارتفع حاجباها مشيرة بيدها ان ها هى قد وجدت الحل ، تنقلت خلال الصالة ثم دلفت إلى حجرة النوم وفتحت احدى ضلف دولاب ملابسها واخرجت علبه «سبوع» كانت قد تركتها منذ سنوات طويلة ، نعم منذ ما يقرب من سنوات عشر ، حيث سبوع ابنها طارق بعد ولادته، كانت تغالب ظنها ، وترجح تفكيرها بأن علبة «السبوع» ربما احتوت فى داخلها على بعض الاوراق النقدية ، كانت متلهفة على فتح العلبة كى تهدأ نفسها ، لعلها تجد ضالتها ، وما ان فتحتها حتى اكتشفت ورقة جديدة فئة الجنيه، فابتلعت ريقها ، وتنفست الصعداء ثم قفلت راجعة إلى حيث يجلس زوجها ، والجنيه فى يدها قائلة بما معناه ان السماء هى التى الهمتها ، وكشفت عن بصيرتها لتتذكر فى هذه الساعة علبة سبوع مضى عليها ما يزيد عن سنوات عشر فمصمص الرجل شفتيه ، وهز رأسه محمدلاً متناولا الجنيه من يدها ، خارجاً حيث قصد محلات الصاغة بناحية ميدان الجيزة.

..................

جاس خلال شارع الصناديلى ، ميمما شطر منطقة الصاغة ، كانت المفاجأة أن جميع محلات الصاغة مغلقة ، وتعجب للأمر كيف هذا؟ ولماذا؟.

انتصب أمام أحد المحلات وتشهد محوقلا سائلا أحد المارة عن سبب إغلاق محلات الصاغة اليوم ، فنبهه الرجل بأن اليوم يوم أحد، وفى هذا اليوم تغلق محلات الذهب ، ولما استبانت للرجل الحيرة مرسومة على ملامح « عم أدهم » تريث متفكرا هنية ناصحا اياه بالتوجه إلى وسط البلد حيث بعض الصاغة لا يغلقون محلاتهم يوم الأحد ، فامتعض الحاج أدهم و استاء فكيف له بالوصول إلى وسط البلد ومن اين له بجنيه آخر لركوب المواصلات اليها.

..................

تريث صامتا مفكراً كيف له بجنيه يقله إلى وسط البلد ، انبثقت فى رأسه فكرة فبكر صديقه ، وربيب نشأته ، يقطن هذا الحى منذ سنوات طويلة ، سنوات وهما كل فى واد ،قلما يتزاوران وقلما يسال أحدهما عن الآخر هل يزوره اليوم وكيف الوصول إلى مكان اقامته ، فأخر مرة زاره فيها منذ ما يقرب من خمسة عشر عاما ، وهو لا يعرف بالضبط اسم الشارع او الحارة التى يقطنها ، لكنه طفق يذرع الشوارع القريبة جيئة وذهابا ، يمر خلال شارع ما، ثم يعرج إلى آخر يتيامن ويتياسر ، يسأل الرائح والجاى بلا فائدة.

اضناه السير وشعر برغبة ملحة فى الجلوس ،اتكأ على حائط على ناصية أحد الازقة تصاعدت انفاسه ، وتزايدت ضربات قلبه ، اظنه هذا الزقاق ، لا ليس هو ، أظنه الموازى له، سار الهوينى ، مر خلال الشارع الآخر، سأل عن دار الاستاذ بكر محمود فأشار له أحد الوقوف بأنه يقطن رقم 20 فى نهاية هذا الشارع ، واصل سيره بطيئا سار، مرتبكا سار، هل سيجده فى هذا الوقت والساعة تقترب من الثانية عشرة ظهرا قبالة المنزل رقم 20 وقف، تطلع أعلاه ،صوب بصره إلى بلكونة الدور الثاني، نعم هو هذا المنزل ،وتلك هى البراندة التى جلسنا فيها سويا، ونعمنا بأحاديث ود وصفاء.

تلبث وعيناه مثبتتان على بلكونة الشقة، يا بكر، استاذ بكر، وبصوت عال : يا باشمهندس بكر فأطلت من الدور الارضى صبية جميلة، بيضاء، ملفوفة القوام، تلاقت عيناها وعينا الاستاذ أدهم قائلة : اتفضل اطلعله هو لسة داخل ، فهدأت ضربات قلب أستاذ أدهم الإ أن نار الصبية اشتعلت فى قلبه ، نسى الجنيه ، ونسى الباشمهندس بكر ، الا انها أشاحت عنه وتوارت خلف الباب.

صعد درجات السلم ، قبالة الباب وقف ، انصبت نظراته على باب الشقة، مكتوب عليها بكر محمود.. «مهندس زراعى «قرع الباب» ، قرعه وقرعه ، تأتى صوت امرأة من خلف الباب المغلق والتى لا ريب انها رأت أ. ادهم من العين السحرية.

ـ مين؟

ـ أنا ...

ـ انت مين؟

ـ انا ادهم الشرقاوي.

ـ عاوز مين يا استاذ ادهم؟

أفضت إلى زوجها باسم الواقف على الباب ، تطلع اليها زوجها مستغربا أن ماذا اتى به فى هذا الوقت بالذات ، نهض من سريره، ساحبا مزلاج الباب فاتحا اياه ، ابتسم أ.ادهم مصافحا أ.بكر وقد هاله فتور ملامحه وتردده برهة قبل ان يأذن له بالدخول ، مات الامل فى نفس استاذ ادهم ، واختلجت ملامحه ، وفى حجرة الصالون تباثا التحايا والاشواق الفاترة التى نطقت بها سيماء بكر الذى تساءل عن سرهذه الزيارة المفاجئة، فتلعثم أ.ادهم قائلا انه كان يمر بالقرب من شارعه ، ورأى أن يزوره ويسأل عنه قال هذا وقد تعاظم فى داخله أمر مجيئه ، وحكاية الجنيه وموضوع بيع الخاتم وما هى إلا دقائق قليلة مضت وكأنها دهر ثقيل حتى استاذن بعدها أ.ادهم لكنه خرج وهو يتصبب عرقا، طوى الدرج هابطا لا يتيامن بعينيه او يتياسر ، الدنيا سوداء كالحة ، وهو لا يرى امام عينيه ، سار يتخبط يمنه ويسره ، سأل المارة عن الطريق إلى ميدان الجيزة او محطة المترو فأدلوه على الاخيرة.

..................

فى محطة ميدان الجيزة اقترب من شباك التذاكر ، تطلع اليه، اعترك الأمر فى ذهنه ماذا يفعل؟ أيعبر خلف احد العابرين؟ قد يراه ملاحظ الماكينة ، وقد يرمقه شزرا ، ثم ما أدراه أن تسلم نفسه من سخافات من يعبر خلفه اذا فكر فى ذلك ، الا ينظر اليه كأنه لص سارق لمال الدولة؟ وكيف يدافع عن نفسه؟ هل يشرح حكايته لأى عابر ويسأله جنيها ، امتعض ، الا تعسا لهذه الفكرة.

اقترب من عامود الماكينة ، تريث يفحص المارين ، وقع نظره على رجل نحيف الجسم ، يتزيا بزى فلاح ، يرتدى جلبابا اسود ، دنا منه ، عندما انحشر صاحب الجلباب الأسود بين ذراعى الماكينة كان الاستاذ أدهم يلتصق به ، وخزه صاحب الجلباب بكوعه ، وهو يبرطم بكلمات غير مفهومة ، مصوبا بصره فيه ومصعده ، اضطربت ملامح أ.ادهم الذى حاول ان يخرج من الماكينة دون ان يلتفت اليه الملاحظ ، كانت المرة الاولى لذى الجلباب التى يركب فيها المترو ، اساء فهم أ.ادهم ، صاح به بما معناه ان اليك عنى ، اقترب الملاحظ ، صاح ذو الجلباب مرة أخرى وهو يشير إلى أ.ادهم الملتصق به ، هدأه الملاحظ ، لكنه أحد النظر فى أ.ادهم الذى تلعثم وارتبك ، ثم انتحى جانبا بالملاحظ مفضيا اليه بسره فما كان من الملاحظ الا ان تركه وشأنه.

..................

فى محطة مترو العتبة تجهم أ.ادهم وهو يعبر خلال الممر بين الماكينتين كغيره من المارة الذين يعبرون سراعا ، والذين يوهمون الملاحظ بأنه لا وقت لديهم لاطلاعهم على اشتراكاتهم ، وهكذا مرق أ.ادهم مع العابرين ، وما هى الا دقائق حتى كان خارج محطة مترو العتبة يسأل المارة عن اماكن وجود محلات الصاغة فأفاده بعضهم بان محلات الصاغة يوجد بعضها بجوار بعض بشارع عبدالخالق ثروت ، قرب ميدان العتبة، فسار خلال الشوارع حتى قادته قدماه إلى شارع عبدالخالق ثروت ، لكن المفاجأة التى اغتمت لها ملامحه أن جميع محلات الصاغة اغلقت كمثيلتها بالجيزة حيث لا تفتح هى الأخرى يوم الاحد.

اسقط فى يده ، وكادت ان تضطرب ملامحه لهذا الخبر الذى جثم على صدره ، وكتم انفاسه ، تضرع إلى الله ان يجد أحد المحلات المفتوحة لتقضى له حاجته ، سار يمينا عرج شمالا ، جف ريقه، وهو يمتعض ، شعر باعياء ، تثاقلت قدماه ، كاد أن يترنح، اعاد سؤال المارة كان البعض ، لا يحفل بسؤاله والبعض الآخر يشيح عنه ، الا أن رجلا طيب القلب طالع فى عينيه حزنا ، وسمع منه شكاه ، فاستوقفه واعاره انتباهه، مفضيا اليه بعنوان احد المحلات القريبة مؤكدا له ، ان هذا المحل لا يغلق أبوابه يوم الأحد بل هو مفتوح طوال الأسبوع فبلع أ.ادهم ريقه وهو يلقى ببصره إلى حيث يشير الرجل الطيب ، بعد دقائق كان قبالة المحل ، حدق فى المحل بعينيه «السرجانى للمصوغات» هدأت نفسه واستبان الرضا فى عينيه ، وفى ملامحه ، اخرج الخاتم من جيبه، دلف إلى داخل المحل ، حيى صاحب المحل بايماءة من رأسه ويده تمتد نحو الصائغ ، يعرض عليه شراء خاتمه ، تفرس الصائغ فى ملامح أ.ادهم قائلا له ان تفضل سائلا اياه عن الفاتورة اختلجت ملامح أ.ادهم وتساءلت عيناه اى فاتورة تقصد؟ فقال له: فاتورة شراء الخاتم، فاضطرب أ.ادهم ، ناهيا اليه انه لا فاتورة لديه وأن هذا الخاتم هو اخر مقتنيات زوجته التى تزوج بها منذ ما يربو على العشرين عاما ، فاعاد الصائغ الخاتم اليه وهو يومئ برأسه ذات اليمين وذات الشمال قائلا انه لا بد من الفاتورة فتكفهر ملامح أ.ادهم وتعلو وجهه صفرة كصفرة الموت وينبعث منه صوت واه مدغدغ ، بأنه لا يملك فاتورة وأنه فى امس الحاجة إلى ثمن هذا الخاتم فتلين قناة الرجل ، ويرق له قلبه وتمتد يده إلى الخاتم مرة اخرى يقلبه فى يده ، ثم يزنه ، بعد ذلك ينقده مبلغ ثلاثمائة جنيه فيأخذها أ.ادهم وهو يشكر للرجل منته عليه، ثم يعود أدراجه إلى محطة مترو العتبة وقد انفرجت ضائقته.

وفى الطريق إلى البيت ابتاع عم أدهم كل حاجياته ولوازم البيت ،عاد فرحا مرحا، تناول الغداء هو وولداه وزوجته، تفكه الرجل مع زوجته واولاده.. ضحكت زوجته ومن قلبها ضحكت.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق