لاشك أن الثقافة الجماهيرية أو ما يسمى الآن «هيئة قصور الثقافة» تعد من أبرز الانجازات المصرية فى «الفترة الناصرية» منذ تأسيسها عام 1968إذ تمثل الضلع الثالث للعدالة المجتمعية فلقد خرجت بها وزارة الثقافة من اطار العاصمة إلى خدمة الجموع العريضة من المواطنين فى ربوع الوطن وفى البداية تولى مسئولية الاشراف على الثقافة الجماهيرية نخبة مستنيرة من قيادات العمل الثقافى أبرزهم سعد الدين وهبة الذى كان رئيسا للثقافة الجماهيرية فى أواخر الستينيات حيث قام بإعداد دورات تدريبية وتثقيفية لمدة عشرة شهور بمركز اعداد القادة وكان يلتقى دائما بالدارسين للتعرف على اهتماماتهم وثقافتهم وجدارتهم القيادية وبالفعل قدم للثقافة الجماهيرية نماذج رائعة وقيادات حقيقية فى الحقل الثقافى من أبرزها عز الدين نجيب فى كفر الشيخ، وعبد الرحمن الشافعى فى الجيزة، ومحمد سويلم فى المنصورة وهبة عنايت فى أسيوط وحسن فخر الدين فى أسوان وكان مسرح الثقافة الجماهيرية ومازالت المدرسة التى تدرب فيها وتخرج فيها نجوم مصر فى التمثيل والإخراج وغيرهما من المجالات.. وعن طريقها تحولت الحركة الأدبية فى أقاليم مصر إلى حركة موازية لحركة الأدب فى العاصمة، إلا أنها تعرضت خلال العقود الأخيرة إلى عملية تجريف استهدفت تفريغها من كوادرها الفنية والابداعية خصوصا بعد تحولها عام 1989 إلى هيئة عامة ذات طبيعة خاصة وأصبح اسمها الهيئة العامة لقصور الثقافة. وعلى مدى سنوات عديدة قمت بجولات متواصلة فى قصور الثقافة بصعيد مصر كمشاركة فى العمل الثقافى أحيانا وكمتفرجة فى مقاعد المشاهدين فى كثير من الأحيان وتابعت باهتمام التطورات التى مرت بها الثقافة الجماهيرية واحتفيت بالكثير من الموهوبين الشباب الذين تم اكتشافهم وتشجيعهم من خلال الثقافة الجماهيرية كما زهوت بالعديد من المبدعين فى الشعر والموسيقى والتمثيل والفن التشكيلى المنتمين لقرى ونجوع أسيوط وقنا وسوهاج، وكنت أنصت باهتمام لتعليقاتهم ورؤاهم التى تنبض بالحيوية والذكاء ولا تخلو من السخرية من مفارقات الواقع وهمومه، وشهدت السنوات الأخيرة بدايات الانحدار التدريجى لهذا المرفق الثقافى المهم خصوصا بعد اندلاع حرائق بنى سويف وسوهاج التى راح ضحيتها نخبة نادرة من المبدعين والمثقفين، وفجرت مشكلات القصور وكشفت المستور عن الاهمال والتسيب حيث لا توجد أعمال صيانة ولا فنون ولا تأمين. وكان لابد أن أقوم بجولات جديدة لقصور الثقافة الجماهيرية ليس للاستمتاع بما كانت تقدمه من عروض مبهرة عن مخزون المواهب البشرية التى يضمها الصعيد ولكن للكشف عن الأسباب التى أدت إلى انهيار هذا الصرح الثقافى والتقيت بعشرات المثقفين الذين تزدحم بهم القصور فوجدتهم يحملون من الشجون والمرارات داخل أنفسهم ما كشفت عنه كلماتهم الثائرة ـ لقد تحدثوا عن سطوة العقلية البيروقراطية المحصنة ضد الثقافة والتى أصبحت أحد شروط التعيين والترقى فى الهيئة، وأن القصور التى بنيت بشكل لائق مر عليها أكثر من نصف قرن، متروكة دون صيانة حقيقية وكل ما تم حتى الآن من تجديدات كان وسيلة لنهب الاعتمادات المالية، وقد تعاقب على هذه الهيئة بعض الذين لا يقدرون خطورة الدور الذى تقوم به ولذلك كانوا يديرونه بمنطق «عمال التراحيل»، ولا فرق فى ذلك بين هؤلاء الذين كانوا على رأس الجهاز، ومن هم موزعون فى أرجاء المواقع فى القرى والمدن. فقد استشرت فى الفترة الأخيرة من الحقبة السابقة ظاهرة سوء اختيار القائمين على العمل الثقافى حيث كان التعيين عن طريق القوى العاملة أو المسابقات أو تدخل الواسطة والمحسوبية مما أدخل للعمل الثقافى موظفين روتينيين لا مبدعين.
التقيت بالموظفين الذين هجر أغلبهم المكاتب للبحث عن عمل اضافى لزيادة دخولهم وقال لى أحد موظفى قصر ثقافة منفلوط (أنا لى 38 سنة فى العمل وراتبى لم يتجاوز ستمائة جنيه حتى الآن) وهكذا يطالب الموظفون بمساواتهم مع موظفى الكهرباء والضرائب والبنوك ومعظمهم لا يعلمون أن عددهم 17 ألف موظف، وقد حاولت أن أبحث عن نقطة ضوء أو بارقة أمل تبدد بعض الحسرة التى انتابتنى ووجدتها فى بعض نماذج قصور الثقافة الفعالة والمتميزة مثل قصور ثقافة «أحمد بهاء الدين» و«ساحل سليم» و «القوصية».
وأيضا قصر ثقافة محمود حسن إسماعيل الذى شاركت فى افتتاحه بعد القضاء على مافيا المخدرات بزعامة عزت حنفى فى النخيلة وقصر ثقافة أسيوط الذى ترأسه الدكتورة فوزية عمران والشاعر سعد عبد الرحمن. ثم فوجئت بإحدى الباحثات من جنوب الوادى تعمل بالهيئة قد جاءت لزيارتى لكى توسع أفق الأمل إذ التحقت بإحدى الدورات التدريبية التى كانت تخصص لغير المستحقين لها ولكن الإدارة المركزية للتدريب واعداد القادة الثقافيين انتهجت آلية جديدة لاختيار الملتحقين بالدورات التدريبية تعتمد على الاختبارات وكانت البداية اختيار أربعين شابا وشابة من أفضل العاملين بالهيئة بدأوا العمل الثقافى بعد اجتيازهم التدريب لمدة شهر وانطلقوا إلى قرية حصة شبشير بالغربية حيث بدأوا العمل الثقافى خلف دوار العمدة وسط الحقول وتحيط بهم جماهير البسطاء وقضوا ستة أيام نظموا خلالها ورش حكى وشعر وأشغال يدوية وتعليم موسيقى وأقاموا فصلا لمحو الأمية، وعرضا مسرحيا ومسرح عرائس شارك فيه أطفال القرية ثم ودعهم أهالى القرية بالدموع متسائلين متى سيعودون إليهم مرة أخري. ثم تختم الباحثة حديثها قائلة: (إن هذا التعطش للثقافة والفن الذى لمسته لدى الأهالى والأطفال جعلنى أتساءل لماذا لا يقبل الجمهور على قصور الثقافة، نحن مسئولون عنهم لاشك ولو أن هذا العدد الكبير من بيوت وقصور ومكتبات الثقافة والتى تزيد على 550 موقعا منتشرة فى ربوع مصر قد أدت دورها لتغيرت خريطة مصر الثقافية)، ثم صمتت الباحثة ولم أعلق.
د. عواطف عبد الرحمن
رابط دائم: