ليس هناك من منطقة رمادية في دولة اردوغان ، ويبدو ووفقا للشواهد والواقع ، أنها لن توجد على الأقل في المدي المنظور ، فإما أن تكون مع أو ضد لا مساحة وسطية ، ليتجسد في النهاية تضاد فريد يقترب بسرعة مذهلة من التصادم المدوي ، وتلك وضعية لم تألفها الجمهورية منذ أن دشنت في عشرينات القرن الفائت على أطلال رجل أوروبا المريض.
ونظرة واحدة على الميديا بوسائلها الثلاث، مقروءة ومريئة ومسموعة تكفي للتدليل عليها ، فمع صباح كل يوم تنهال كتابات غزيرة على صحفات عشرات المطبوعات ومعها برامج تحليلية بذات الكثافة تنطلق من الفضائيات وموجات المذياع ، معظمها مع القائم الاردوغاني ، تردد ما يقوله وتزينه بعبارات الديمقراطية التي تنعم بها تركيا ، وهذا ليس لأنها حرة في التعبير بل كونها جميعا صارت تحت سطوة الحزب الحاكم القائد ولا مجال لما هو غير ذلك .
وبالطبع لم يتناس من بات يطلق هذا التوصيفات ، أن هناك مؤسسين آخرين في مقدمتهم الرئيس السابق عبد الله جول والقيادي البارز المغضوب عليه بولنت ارينتش ، فمنذ الأول من نوفمبر لن يزاحم اردوغان أحد في ميلاد العدالة.
في تلك الميديا الصور حتما وردية ، بفضل المشروعات العملاقة من مطارات ، وجسور وطرق ، ولأنها تسابق الزمن ها هي تدخل المراحل الانشائية الأخيرة ، تمهيدا لافتتاحها بدءا من الربيع القادم. كذلك تم رفع الحد الأدني للاجور ليصبح 1300 ليرة أي أكثر من 420 دولار ، وهكذا فالحياة المعيشية ، رغم ارتفاع اسعار السلع والخدمات ، فهي بلا منغاصات سوى الارهاب الملعون ، والدليل على ذلك هو أن الاناضول في طريقه للانتعاش والعام الحالي سيكون معدل النمو 3.5 % ، مع وعد بإرتفاعه العام القادم إلى 4 % وفي 2017 سيصبح 5 % هذا ما بشر به وزير المالية محمد شميشك.
تلك العوالم وأن صحت ظواهرها ، إلا أنها تبق أسيرة خطاب دعائي ممجوج ، تلوك به ألسنة المسئولين ليل نهار دون كلل في محاولات يائسة لإخفاء ما يموج به الداخل من إحباطات وسخط وغضب لما ألت إليه الأوضاع الحياتية وهو ما لا تظهره وسائل الإعلام الموالية ، صحيح تعطيها ادبيات المعارضة الاهتمام ولكن المشكلة أن ما تملكه من وسائل محدود نتيجة القيود الهائلة التي تحيط بها وعلى اية تجد لها اصداء في تقارير تزخر بها الصحف العالمية وتبثها شبكات دولية.
ثم جاء تفجير إسطنبول الأخير كاشفا بصورة جلية هشاشة دولة اردوغان ففي ساحة مكشوفة مثل ميدان السلطان أحمد الشهير والذي يحتضن الجامع الازرق واية صوفيا ومتحف للاثار ، كان يفترض تأسسيسا على ذلك أنها محصنة أمنيا لانها تعج بمئات المزارات السياحية وعشرات الفنادق وآلاف السياح ، ولكن هيهات فنفر من الإرهابيين استطاع إختراقها ، مفجرا نفسه ورغم أنه ذهب للجحيم إلا أنه ترك ورائه اشلاء ابرياء لا ذنب لهم أو جريرة ، كل جريمتهم أنهم كانوا ضحية خلل أمني فاضح ليضع نهاية مأساوية لموسم سياحي لن تقوم له قائمة قبل عام على الأقل. البعض ذهب الى ان تركيا مقبلة على طوفان ، هذا ما قاله البروفيسور سادات لاتشينار ، فــ" المصائب والكوارث تهطل كالأمطار الشديدة على دولة لا تستمع إلى علمائها وفنانيها ومفكريها بل وتحتقرهم وتزدريهم وتحبسهم " . هذا الكلام وجد من يعضدده ويؤيده فمجرد بيان ندد بالحرب ودعا للسلام ، إلا واستقيظ أهالي " مدينة كوجا آلي " على نفير سيارات الأمن تقتحم السكون وتلقي القبض على عدد من أساتذة الجامعة التي تحتضنها المدينة والتي لا تبعد سوى 60 كيلو مترا عن إسطنبول وهذا فقط كبداية فهناك توجيهات ببدء التحقيقات مع أكثر من 1000 أكاديمي وجيمعهم نعتوا بالخيانة من قبل رئيس الجمهورية.
ويمضي لانشينار قائلا ستشهد البلاد أياما عصيبة في المجالات كافة ، بدءا من الاقتصاد وصولا إلى السياسية ، ثم معربا عن إعتقاده بأن ظل الإعصار أوشك على الوصول إلى " رأسنا بالضبط " ، ومؤشرات ذلك تعكسها العلاقات المتدهورة مع العالم أجمع وعلى رأسه روسيا ، وفشل استراتيجية حكومة أحمد داود أوغلو في مواجهة فعاليات منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية ، ثم السقوط في سوريا ووالتخاذل في العراق، وعلى صعيد الداخل تتزايد الكراهية المتبادلة بين قطاعات الشعب المختلفة نتيجة الاستقطاب الاجتماعي الذي غذاه أهل الحكم خصوصا بعد إنتخابات السابع من يونيه العام الماضي وفيها فقد الحزب الحاكم أغلبيته ، وسط غياب تام لآليات التحذير وغياب التوازن بالدولة بينما تتكدس المشكلات تكدسا ، غير أن المذهل هو أن الشعب لا يكترث لما يحدث في بلاده ، الأمر الذي يجعل المرء يتمني أن يكون أعمي كي لا يري المستقبل الذي يحدق بالدولة.
في السياق نفسه تقدم نازلي اليجاك النائبة السابقة ورفيقة اردوغان في حزب الفضيلة الذي اسسه الراحل نجم الدين اربكان قبل أن ينقلب على الجميع ، صورة مرعبة للحاصل في عدد من مدن جنوب شرق تركيا ، والتي تشهد تردي فادح على مستوى الحياة اليومية ، وهو ما لم تسلط عليه وسائل الإعلام الموالية لاردوغان ، لدرجة وصفها البعض بأنها تقترب في أن تصيح مثل النموذج الممارس ضد الحركة القومية الانفصالية " نمور التاميل " في سريلانكا، إنه دمار شامل لا يفرق بين المدني أو الإرهابي ، ونقلت عن مراقبين قولهم أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تأسيس أجواء الإستقرار والطمأنينة والسلام على كل هذا القدر من الدماء والدموع ذلك لأن الآلام والصدمات المتراكمة لا تجلب إلا الخلافات وليس الوحدة والتعاون.
المفارقة أن واحدا من أشهر الإعلامين مقدمي برامج التوك وهو بايزيد أوزتوك ، تم إستدعاؤه من قبل النائب العام بإسطنبول للتحقيق معه ، فيما نسب ضده من إتهامات وذلك لأنه سمح بإتصال تليفوني في برنامجه الذي بث من خلال شبكة D مع مشاهدة تعيش في بلدة سور التاريخية التابعة لمدينة ديار بكر ذات الغالبية الكردية جنوب شرق الاناضول ، وخلاله قالت كلام اعتبره المدعي العام الجمهوري تحريض على الفتنة وتشجيع الانفصال ، وكان على مقدم البرنامج أن يوقف الاتصال وهو ما لم يحدث بل أنه علق بما يفهم أنه متعاطف مع المواطنة التي شكت من سوء الاحوال المعيشية والامنية في بلدتها التي صارت يسكنها الموت والخراب.
رابط دائم: