وضع بطاقته في الآلة المعلقة علي حائط تشبه مكنة الصراف الآلي, خلف مبني إحدي المؤسسات العامة, وأسقط جنيها معدنيا في فتحة صغيرة في جنب الآلة. وضغط زرا فوقها.
ظهر علي شاشة الآلة علي التوالي: بالعربي, وبالإنجليزي, بلغة أخري. ضغط الزر المحاذي للعربي, فظهر علي الشاشة: سبب طلب الاعتذار, وتحت هذه العبارة في توال: سياسي, اقتصادي, ثقافي, عاطفي, إنساني, أسباب أخري.
حار قليلا.. بين السياسي والاقتصادي, ولبرهة لم يستبعد الثقافي. ثم حسم أمره وضغط علي الزر المحاذي للاقتصادي.
ظهرت علي الشاشة كلمة: حدث, وتحتها علي التوالي: في ماض بعيد, في ماض قريب. في ماض وما زال مستمرا, في الحاضر. ضغط زر الخيار الثالث, فظهر علي الشاشة: البصمة. بعد وضع مقدمة سبابة يده اليمني, قرأ علي الشاشة: خذ البطاقة وانتظر.
برزت حافة البطاقة التي تشبه بطاقة الرقم القومي. وبينما ينظر إلي الفتحة العريضة, أسفل الآلة في لهفة, دق قلبه بعنف لسهوه عن جذب البطاقة, فكثيرا ما سمع من الناس, أن التأخر في جذبها, يجعل الآلة تبتلعها, وليستعيدها لابد من السفر إلي العاصمة, لتقديم طلب في المركز الرئيسي للاعتذارات, مشفوعا بصورة من محضر الشرطة بالواقعة, وسوف يخضع هناك في الهيئة- لـ: س و جـ عن سبب ما حدث. سحب البطاقة بسرعة, وقرأ علي الشاشة: أنت علي وشك الحصول علي اعتذار: أعد المحاولة.
دخل الوقت في غبشة المساء, وكان واقفا من العصر في الطابور, حتي حان دوره. آثر أن يستريح قليلا في مقهي غير بعيد, بانت لافتته, المكتوب عليها مقهي علي وشك تحيط بها مصابيح صغيرة ملونة, تومض وتنطفئ. وبالمرة مر علي مطعم كل وانتظر واشتري شقتين من الفول والطعمية, حتي لا يشرب شايه علي لحم بطنه.
وظل مؤرقا طوال الليل, يستعرض في ذهنه المستندات التي تقدم بها للحصول علي اعتذار. ربما يكون أحدها غير مستوف لتوقيع أو ختم. نهض مبكرا, واستقل الحافلة في طريقه إلي المركز الإقليمي لهيئة الاعتذارات. وحمد الله لأنه لم يستجب لخاطرة ألمت به بالأمس, أن يجرب الضغط علي زر الخيار السياسي في محاولة جديدة, فسبق أن أخبره أحد المتعاملين مع الآلة, أن أحدهم غير خياره, فظنت الآلة الحساسة جدا أنه مدع وابتلعت بطاقته.
توجه إلي حجرة الخبراء المنتدبين من مفوضية العدل, للتسهيل علي المواطنين, في الاستشارة, والاستفسار, دون أية رسوم, قابله الخبير ببشاشة, وأشار إلي كرسي أمام مكتبه, جلس وشرع في الكلام, وكان لم يلتقط أنفاسه, فطلب منه التريث وأنه هنا لخدمته.
عندما علم الخبير بما حدث سأله عن اسمه فقال:
- حليم عابدين
أحضر ملفه, وراجع مستنداته. لفت نظره مستند, أخذ يتفحصه. وبعد أن كاد قلب حليم يطب, رفع رأسه وقال:
- هذا المستند عليه ختم النسر, وليس ختم صقر قريش وأردف كأنه يعتذر:
- كيف سهوت عن ذلك.. ؟!
وحين هم بالانصراف, استمهله الخبير, وحرر جوابا لتسهيل مهمة المواطن, أعطاه له معقبا:
- حتي لا يضايقوك هناك.
لم يجد حليم الكلمات المناسبة لشكره, فتمتم وعيناه تقطران خجلا.
بعد إنجاز المستند, ذهب إلي الآلة, وأخذ يضغط علي الأزرار متفائلا. حملق في الشاشة غير مصدق:
أنت علي وشك, أعد المحاولة. أعادها ربما يكون قد ضغط علي خيار خاطئ, ولما قرأ الجملة نفسها, نظر إلي ساعته, لم تتجاوز الثانية بعد الظهر, موعد انصراف الموظفين, استقل تاكسيا اختصارا للوقت.
التقاه الخبير ببشاشته المعهودة وقال:
- مسائل بسيطة نلقاها دوما وتحل بإذن الله.
وراجع ملفه. وحين دقق في المستند نفسه, لاك حليم في خاطره, ألا يكون تغيير الختم هو السبب. فما هو مطلوب عنه الاعتذار حدث أيام استخدام النسر, فهل سيتعين عليه عمل مستندين, واحد عن مدة النسر, وآخر عن مدة الصقر.؟!.. وكيف سيعثر علي نسر الآن.. ؟!
أنقذه الخبير من حيرته عندما قال:
- الختم ليس واضحا.
استرد حليم لونه المخطوف وقال:
- بسيطة.
نهض الخبير وسلم عليه, وشيعه بالقول:
- إن شاء الله موفق.
وحتي لا يترك حليم شيئا للصدف, اشتري ختامة جديدة, فعادة ما تكون الختامة في معظم المؤسسات الرسمية متهرئة, لا ينشع حبرها. وحين ناولها للموظف المختص, عازما إهداءها له بعد الانتهاء, ضحك المختص وقال: هذه حبرها أزرق..!!
وأشار إلي ختامة علي مكتبه قماشتها سوداء, وحبرها أسود, تضايق حليم من غفلته, واستمر المختص:
- سأحرر مستندا آخر, ولكن عذرا ستدفع رسما جديدا.
ونظر إلي ساعته وأردف: تجاوزت الساعة الثانية عشرة, موعد إغلاق الخزانة. لا تقلق.. سأحرر لك حافظة الدفع الآن لتكون جاهزة غدا فلا تتعطل.
في الصباح حصل حليم علي المستند, وأسرع إلي الآلة, فقد أخبره الخبير أنها ثوان ويبلغها الكمبيوتر.
طالع علي الشاشة:( العملية ناجحة) اسحب البطاقة وانتظر. نظر إلي الفتحة العريضة, فلم تنزل شهادة الاعتذار. أقنع نفسه, أنها مسألة وقت, وحمد الله أنه انتقل إلي الفئة الجديدة. عرج علي مقهي( علي وشك) وأسر لأصدقائه بترقيته. سأله أحدهم:
- هل ستظل في مجموعتك( علي وشك) أم ستنضم إلي مجموعة( عملية ناجحة).
كانوا قد قسموا أنفسهم واختاروا من المجموعة الأولي زميلين يلعبان في مواجهة, زميلين من المجموعة الثانية,( الدمينو), ويتغير الزميلان في حالة الخسارة.
وقبل أن ينصرفوا دخل صديق ولوح بصحيفة في يده, وقال: جدل كثير حول الصقر, لأنه ينظر إلي اليمين, ورد رئيس هيئة الاعتذارات أنه حقا ينظر إلي اليمين علي الختم, لكن بعد الختم ينظر إلي اليسار.
اعترض أحد الكتاب, أن الصقر الذي ينظر إلي ناحيتين في وقت واحد, عمل غير أخلاقي.
وتعجب الرئيس من التشكيك في توجه الهيئة, التي ما أنشئت إلا لراحة المواطنين, وأتاحت الآلات في الشوارع علي نفقتها لتمكين أي مواطن من الحصول علي اعتذار, حتي لو كان العهد الحاضر غير مسئول عن سببه, يدفعها الحس القومي.. فالنفس الراضية تقبل علي العمل.. وتزيد الناتج.. وأليس في هذا تحقيق للتنمية المستدامة.. ؟!
وعلق حليم: سيعطلنا هذا النقاش.
رد الصديق:
- حسم رئيس الهيئة الأمر. واعتمد صقرا ينظر إلي الأمام. هلل المجتمعون في المقهي..
ولم تمض أيام, حتي أعلن عن مسابقة بين الفنانين التشكيليين لتقديم نموذج بالشكل الجديد, وشكلت لجنة للفحص من أساتذة كلية الفنون الجميلة. ومنعا لإهدار الوقت أمر رئيس الهيئة بعمل مناقصة لتصنيع الختم, فور انتهاء عمل اللجنة.
جدد حليم أوراقه, وأسرع إلي الآلة مبكرا, قبل أن يطول الطابور, بعد انصراف العاملين من مؤسساتهم. وحف به أسف, لأنه لم ينتظر أصدقاءه, فصحبتهم تخفف من سأم وقفتهم. لكن معظمهم استنفد إجازاته, وآخرون ضيقوا عليهم, فأصبح تزويغهم قبل موعد الانصراف صعبا, ولم يعودوا يأتون إلا بعد انصرافهم وتناول غدائهم, وشكر الظروف التي تمكنه من الحضور مبكرا. فصاحب المخبز الذي يعمل به, ينظر له بإكبار, لأنه حاصل علي مؤهل عال, ولأنه يعمل بدأب كباقي العمال, في صناعة الخبز الفينو وأبي ضفيرة والمحلب والقرص المحشوة بالعجوة والملبن. ولكنه طبعا لا يستأذن إلا بعد عمل طريحة تكفي الزبائن فترة الضحي.
اقترب من الآلة. لمح إعلانا في جوارها, أزال دهشته من انصراف النفر القليل الذي حضر, بسرعة.
وهو في طريقه إلي المقهي, قرر من باب التغيير, أن يذهب إلي مقهي( عملية ناجحة) علي مقربة.
جلس بالقرب من التليفزيون, وإذا بالمذيعة تعلن عن إذاعة بيان مهم بعد قليل.
اقترب كثير من الحضور بكراسيهم من التليفزيون المعلق علي الحائط. وتوقف لاعبو الطاولة عن خبط القشاط علي صفحتها.
وظهر علي الشاشة وجه مذيع رصين من قارئي نشرات الأخبار, وقال: أيها المواطنون.. تعددت الشكاوي من تنوع آلات الاعتذار. بعضها من طراز قديم, وأخري أزرارها انمحي المكتوب عليها. وثمة آلات حديثة تختلف أزرارها ومعطياتها عن القديمة. وقد أفاد المفوض القانوني أن هذا الوضع لا يساوي بين المواطنين ولا يراعي ذوي الاحتياجات الخاصة, وأية شهادات ستصدر سيشوبها عوار دستوري. لذلك قرر رئيس الهيئة العامة للاعتذارات وقف العمل بالآلات مؤقتا, وأمر بتركيب آلات جديدة موحدة, يقف المواطنون أمامها سواسية. وقد وافق رئيس المفوضية العليا, باستيرادها من دولة مشهود لها في مجال الصناعات الألكترونية والبرمجيات, بعد إمدادها بالنموذج الذي وضعه مهندسونا.
عمت الحضور غبطة, لا حد لها. ولم يمض وقت كثير, حتي أعلنت وسائل الإعلام عن وصول الدفعة الأولي من الآلات الجديدة. وشرعت الأقلام تتحدث عن مزاياها المبتكرة, وذكرت جريدة واسعة الانتشار, يعدها المراقبون, لسان حال المفوضية العليا, أن دولا أخري علمت بأمر هذه الآلات, فقررت تعميمها بين شعبوها, وأثنت الجريدة علي بلدنا, التي تعلم العالم دائما.
ولم تدخر هيئة الاعتذارات جهدا, في سرعة تركيب الآلات الجديدة, ورجت المواطنين التريث في استخدامها, حتي تصل باقي الدفعات, فلا تكون هناك ميزة استخدام مبكر لأحد دون آخر.
ونشرت الجرائد بعض مقالات تطالب بتخصيص آلات للرجال وأخري للنساء, تلافيا لأي تحرش في الطوابير المختلطة. ورفض رئيس الهيئة الاستجابة, معلنا في شجاعة, أن صقرنا ينظر إلي الأمام, ولن نحيد عن مبادئنا وننظر إلي الخلف. وعما تردد عن تصنيع الآلات في بلد آخر, غير المعلن عنه, اشتهر برخص بضاعته وسرعة تلفها, لأنها تقليد للعلامات الأصلية, قال إن تحقيقا يجري الآن, ستعلن نتيجته بكل شفافية, فور الانتهاء منه.
خفت حدة هذه الضجة, وبرزت آراء, تستنكر وقوف الذكور أمام آلة, هي بطبيعتها مؤنثة.
والأدهي أن يضغطوا بأصابعهم داخلها, وحتي لا ينفرد رئيس الهيئة بالقرار, أرسل يستطلع الرأي من مفوضية الفتوي.
بعد عدة أيام أفادت بجواز استخدام الذكور للآلة, شريطة أن يكون المستخدم علي بعد نصف متر منها, وهذا يسمح بمد ذراعه. وأوصت بتعديل الأزرار, فيكون استعمالها بالجذب إلي الخارج. رحبت الهيئة بالفتوي وأهابت بالمواطنين مراعاة ضمائرهم في حفظ المسافة, حتي لا تضطر لتعيين مراقبين.
وانتظم الناس في الطوابير, دون حدوث أية مخالفة, وتغنت الجرائد بالتقدم والحضارة.
وترقي كثيرون إلي مرتبة( عملية ناجحة). ولما تأخر انزلاق الشهادات, احتشد الناس أمام مبني هيئة الاعتذارات.
وبادر رئيسها بالنزول إليهم, وتوجهت عدسات التصوير الصحفي والتليفزيوني نحوه, وبان بقامته الطويلة, يقف باعتداد, وجهه يبتسم بثقة, وبانت شفتاه أكثر احمرارا, وعيناه أكثر سوادا بين جفونه, وحرك رأسه يمينا وشمالا, يتهيأ للحديث, فبنانت حزوز رقبته سمراء. ومر بيده علي شعره المسترسل, الممشط إلي الخلف في رعاية كريم يمنع تهوشه.
وطمأن الحشد.. فثمة علامات إيجابية.. فهو سعيد بإقبال الشباب والنساء وتساءل.. أليس هذا حراكا اجتماعيا محمودا, يدفع باتجاه التنمية المستدامة, كما أسلفنا القول.
وأضاف أن تأخير الحصول علي شهادات الاعتذار, لا يدعو إلي القلق. فقد اكتشف أحد الخبراء, أن الحبر الذي سيستخدم في كتابة الشهادات يمكن إزالته. فهل نسمح لأي مدع بمسح اسم صاحب الشهادة وكتابة اسمه, والتباهي بتعليقها في برواز في بيته, ويوهم الجميع أن بلده استرضته.
وأطمئنكم أننا أرسنا بالفعل إلي مصانع الحبر العالمية, وحتي لا يضيع الوقت سدي في انتظار الحبر المأمول, سنكثف الحملات للقضاء علي السوق السوداء, التي انتشرت مؤخرا, وتبيع مستندات مضروبة.
ضحك المحتشدون لاستخدامه كلمة( مضروبة), واطمأن هو علي رباط عنقه, وعبست ملامحه وهو يقول:
- لقد بلغت القحة ببعضهم حد إصدار شهادات( مضروبة) أيضا. عاود الحضور الضحك.. وانتظر حتي صمتوا وقال:- وهذه الشهادات تقدم لأهل العروس عند الزواج لادعاء تقدير كاذب.
وزف إلي الحاضرين استجابة الهيئة, لرأي من المفوضية القانونية, يجيز لأحفاد الراحلين تقديم طلبات للحصول علي شهادات اعتذار لهم. وتمهل قليلا, قبل أن يضيف: وهل كنا نتقاعس عن رد اعتبار الآباء والأجداد.. ؟! ولوح بكلتا يديه مودعا..
وتلبية لنداءات من الهيئة رددتها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية, انتظمت الطوابير.. واستجاب حليم لرجاء أصدقائه ورافقهم إلي الطابور, بعد أن عزف عن ذلك فترة, خاصة بعد أن نقلوا إليه نفي رئيس الهيئة, لما تناقله الناس في الأسواق والمؤسسات المختلفة, إنه والعاملين معه سوف يطالبون باعتذار, لما لحقهم من سخرية بعض المتحدثين في القنوات الفضائية انقاد حليم لأصدقائه وإن لم يغادره الشك. وسأل:
- ولماذا لم تعلن نتيجة التحقيق الشفاف.. ؟!
رد أحدهم ضاحكا: لا يوجد ورق شفاف في السوق.
ضغط حليم الأزرار في انتباه شديد, ولما لم تنزلق الشهادة, حدس خطبا في مستند براءة السيرة الذاتية, وإذا ذهب إلي مفوضية السير الذاتية, فلن يطلعوه علي شيء, فأعمالهم سرية, ويرسلون البراءات عبر الكمبيوتر إلي آلات صرف الاعتذارات مباشرة, وغشيه ندم لعدم استجابته لوعد رئيس الهيئة بإعطاء اعتذار عام, لا يستدعي براءة سيرة ذاتية, وليته ما انساق وراء المتحذلقين, الذين طالبوا باعتذارات خاصة, لم تكن مطروحة- وقتها- لترضية المواطنين إنسانيا.
ذهب حليم إلي الخبير, ليغير هوية اعتذاره, من خاص إلي عام. سأله عن السبب, فقال:- سأرفع قضية للمطالبة بحق في إرث.
قال الخبير:
- آه.. ربما يكون خصمك قد اشتم الخبر.. وتقدم بشكوي ضدك.. وفي هذه الحالة يسحب اعتماد براءة سيرتك الذاتية إلي حين.. وهذا ما نخشاه. وسواء حدث ذلك أم لا فمجرد رفع قضية باسمك سيعلق مستند السيرة, والفصل في القضايا يستغرق سنوات.. وإذا كسب خصمك القضية- لاقدر الله- سيوقف العمل بمستند البراءة الحالي.
قال حليم:
- وعد رئيس الهيئة بالاستغناء عن المستند في حالة طلب الاعتذار العام.
مال الخبير بكرسيه إلي الخلف, ونظر إليه بإمعان, وقال:
- لا تضع نفسك تحت رحمة وعد ما زال علي المحك.
اربدت سحنة حليم, وبرزت حزوز في وجهه قاتمة, ودخل رأسه بين كتفيه, وزاد نحافة, واختزل عوده.
قال الخبير:
- وكما تعلم فالاعتذار, كما نص قانون إصداره, لا يصلح دليل إثبات أو نفي في أية قضية, ولا يجيز أي تعويض مادي.
رد حليم:
- أعلم.. لكن القاضي لاشك سيتأثر نفسيا, فيقدره ويتعاطف معه.
قال الخبير: علي أية حال.. لا أنصحك بالتغيير.
قام حليم, وشكره علي سعه صدره.
وأسرع إلي الطابور.. يريد رؤية عملية ناجحة ليتأكد أن مستند السيرة ما زال ساريا.. وتسارعت دقات قلبه.. وهو يمرق بصعوبة بين الباعة الذين يزحمون الطريق. ينادون علي بضاعتهم.. كتيبات بها تعليمات تشغيل الآلات الجديدة, والمستندات الواجب تقديمها, وقيمة الرسوم المقدرة, وباعة آخرون يعلنون عن شقق طعمية وفول.. وآخرون وضعوا علي ترابيزات صغيرة صناديق زجاجية بها أرغفة فينو وعلب لانشون وبلوبيف وجبن وطماطم وخيار. وعطل مسيرة حليم شرطي يدفع مقعدا بعجلتين كبيرتين عليه معوق, إلي مكان الآلة, وحين تقدم نافد الصبر, اعترضه جندي يأخذ بيد امرأة مسنة, أوقفها في أول الطابور, وعاد بسرعة إلي جوار الآلة. وصل إلي الآلة, ورأي عملية ناجحة علي الشاشة. زال قلقه, وفي طريقه إلي المقهي, نخر السوس عروق رقبته الطويلة, وفروة شعره بلون تفل الشاي, منساب إلي الأمام دون تمشيط.
كان الرواد يتحلقون حول شاشة التليفزيون, ولم يلبث المذيع أن توجه بنداء مهم: أفاد بعض الفقهاء أنه لا يجوز للمرأة أن تجذب زرا إلي الخارج بعموده الحديدي الذي يصله بالآلة, ومنعا لأية شبهة. فقد استقر الرأي, أن تظهر علي شاشة الآلة, فور الوقوف أمامها, كلمتا رجالي وحريمي. وبمجرد لمس إحداهما بالإصبع, تتغير طريقة عمل الأزرار, إلي الجذب للرجال, والضغط للحريم. وحتي لا يخالف أحد ضميره, كما سبق أن حدث للأسف- بالنسبة لحفظ المسافة بين المستخدم والآلة, والاضطرار لتعيين رجال شرطة للمراقبة, ستضاف إلي مهمتهم رقابة الوضع المستحدث. ونتوجه بنداء إلي المواطنين لإرجاء استخدام الآلات, حتي يتم التعديل الجديد.
رابط دائم: