ما الذي جعل الموسيقي الأوروبية تؤثر كل هذا التأثير علي الموسيقي المصرية؟ لقد اجتاحت الموسيقي الأوروبية كل مكان وبعثرت وشتتت كل الموسيقات الوطنية خارج أوروبا!
ومصر التي لم تخضع في حياتها لمؤثرات اجنبية إلا بعد تعديلها وإعادة تركيبها عادت تخضع الان للتأثير الموسيقي الاوروبي دون قيد أو شرط! تخضع لكل ما يهب علينا من اوروبا والغرب! لقد أخذت مصر تقلد السيمفونية الأوروبية وتدعي إنها تؤلف السيمفونيات! ثم الأوبرات والكونشرتات والقصيد السيمفوني والمتتالية والصونات والروندو والافتتاحية والأتيود وكل ما يبدو انيقا من منتجات الموسيقي السيمفونية الاوروبية! وراحت مصر بعد ذلك تستدير لناحية أخري وتأخذ نمط الأغاني الأوروبية الخفيفة من رومبا وسامبا ومامبو وكانتري وفاشون وتانجو وميتال.
.......................................................................
تأخذ للتقليد الأعمي موسيقي الزنوج الجاز الاوروبية الأمريكية! ثم تنتهي من كل هذا وتلتفت للمسرحية الاوروبية الراقصة الباليه وتقلدها تقليدا وتدعي ان لها حقا باليه مصري! بل وتذهب لاتخاذ الفرقة الاوروبية الأوركسترا السيمفوني بكاملها ما يعني انها تتبني نظام النغم الاوروبي السلالم الموسيقية الاوروبية بكامله.. ولا تترك الايقاعات الأوروبية واللاتينية كالسالسا, الروك آندرول, الفالس, الفوكس تروت, المارش, التشاتشا, البوليرو.. وتوغل في تورطها وتغالي في مد يدها لتشد الي التخت وياللغرابة الآلات الكهربائية الأوروبية كالاورج والجيتار وغير الكهربائية كالبيانو والأكورديون والفيولونسيل! حتي ليبدو في النهاية وكأنها لم تترك شيئا سوي العازف الأوروبي نفسه!
لم تستطع موسيقي تركيا التي احتلت مصر ثلاثة قرون ونيف أن تفعل كل هذا! لم تستطع موسيقي انجلترا والتي استعمرت مصر سبعين عاما, ولا موسيقي فرنسا زمن بونابرت.. لا الغصب الإغريقي استطاع عبر ثلاثمائة عام323-31 ق م ولا الروماني عبر سبعمائة عام31 ق م-641 م. نعم.. بذلت إنجلترا جهدها لتترك آثارا موسيقية غائرة وكذلك فرنسا.. أما تركيا العثمانية اللحوح فقد ظلت تبث ألحانها حتي تحركت بالفعل أجزاء من إيقاعاتنا المصرية وتقلبت أطراف من انغامنا( أي من مقاماتنا) وربما تبدل شيء من طرق تأليفنا( أي من قوالبنا الموسيقية) ولكن- وفي نهاية كل مؤثراتهم- كانت النتيجة تدفع لخلق نوع جديد من التأليف المصري.. أي كانت تحرك فحسب المياه الفنية المصرية.
إن أعمدة النشاط الموسيقي المصري أو أركانه الرئيسية( لا يقوم عمل موسيقي إلا بتوفرها كلها) هي الأربعة:
الايقاع/ المقام النغم/ الآلات الموسيقية- طرق التأليف القوالب. وليس هناك تأثير موسيقي أجنبي يمكن أن يجري في مصر( أو في أي بلد) مادام لم يمس ركنا من الاركان الوطنية الاربعة. وبلد من البلاد لن يتأثر طالما بقي إيقاعه, مقامه, آلاته, قوالبه دون تغير وفائدة أو خطر أي تأثير إنما تتحدد وفقا لما فعله في الأركان. وفي الواقع لم يبدل استعمار كان جوهر ركن من الأركان المصرية, وعلي العكس تماما جري كل شيء فقد اختفت وذهبت عن مصر علي سبيل المثال تراتيل الآلهة اليونانية وانشاد الكورس المسرحي الإغريقي ولم تستقر بمصر أي من قوالبهم التي اصطحبوها.. ذابت كذلك أناشيد النصر الرومانية وتلاشت إيقاعات الإغريق والرومان( إيقاعات: الايامب, التروخي, الداكتيل, الانابست, البايون...) وبدورها الآلات الموسيقية التي اصطحبوها:( الليرا/ الاولوس/ صفارة الرعاة/ الطبول والالات النحاسية العسكرية...).
وعندما راحت الدولة العثمانية المظلمة تبذل جهدها لتتمصر قوالبها البشرف/ السماعي/ اللونجا/ الدولاب وترسل فرقها الموسيقية تقدمهم في كل ناحية مصرية.. قام في وجههم محمد عثمان19001855 مؤسس المدرسة الموسيقية المصرية المعاصرة وقاطع قوالبهم الموسيقية مقاطعة وصلت حد هجرانها وعدم التأليف في أي منها.. ولا لمرة واحدة, وليتبعه في ذلك كبيرنا وأبونا سيد درويش فلا يضع هو الآخر مقطوعة واحدة تركية القالب! وفي الواقع العملي لا يبقي في ذاكرة اليوم من قوالب الموسيقي التركية سوي نموذج واحد لونجا رياض لمؤلف واحد هو رياض السنباطي! اما عن آلات تركيا الموسيقية والتي لاحت هنا وهناك مثل السنطور, البزق, فقد ذهبت عن مصر هي الاخري بعد ان قاطعتها رؤوس التطور المصري: محمد عثمان, سيد درويش, القصبجي, السنباطي, عبد الوهاب. وضاعت إيقاعاتهم هي الأخري ولم يبق منها شيء يذكر.
والآن وبعد كل هذا الاستقلال الفني المصري تلوح هناك معالم أخري.. معالم تناقض تاريخنا هذا.. معالم من غير صلبنا.. تثير الحزن والقلق.. هي ذلك التأثير الاوروبي الجامح الذي اجتاح كل شيء بينما وقفت الموسيقي المصرية أمامه تستسلم في صمت لكل استبدال وإحلال وإزاحة.
لقد انسحبت بسبب مزاحمة الموسيقي الأوروبية أغلب مقاماتنا( أي نظام ونوع النغم المستخدم) مثل: الدلنشين, الحسيني, العراق, السيكاه, النوي أثر.. لتستقر بديلا عنها سلالم أوروبا( أي نظام ونوع النغم)! وكذلك انسحبت ايقاعاتنا الوطنية مثل الملفوف, الوحدة الكبيرة, الشنبر الحلبي, المدور, السماعي, الدور الهندي.. لتستقر بديلا عنها إيقاعات أوروبا, كما راحت تنسحب ببطء آلاتنا الوطنية مثل القانون, الناي, الرق, الدف.. بل وتنزوي قوالب التأليف المصرية- كلها: القصيد, النشيد, الطقطوقة, التقاسيم, الحوار, وتختفي كما اختفت قبلها قوالب: الموال, الموشح, التحميلة.. أي تذوب الان أركان موسيقانا الوطنية الأربعة الايقاعات, المقامات, الآلات الموسيقية, القوالب!!
واليوم وبعد ثورة يناير لا يلوح هناك سوي المزيد من تأثير أوروبا والذي من نتائجه يظهر راب, أوكا وأورتيجا وشحتة وكاريكا, وجاز دار الأوبرا وحديقة الأزهر( نمط اسماعيل الحكيم وفتحي خليل), سيمفونيات المعاهد الأكاديمية( أعمال جمال عبد الرحيم, يوسف جريس, كامل الرمالي...) والتي لا يسمعها أحد ولا يفهمها إن سمعها, تظهر أغاني الجيتار( والالات الأوروبية) ما بعد الثورة( أغاني عايدة الأيوبي وعزيز الشافعي وأمير عيد المجيد) تلك المسطحة تماما, منقطعة الصلة بماضي وحاضر الفن الوطني! كما تلوح موسيقات تصويرية مرتكزة علي آلات الأوركسترا الأوروبي. لاشك.. إن الموسيقي المصرية تعاني الان آزمة تطور كبيرة ولذلك تخضع لكل هذا التأثير! وما من شك في أن الخروج من الازمة والدخول الي التطور مجددا لن يأتي إلا إنطلاقا من الإرث المصري الخاص: من القوالب التسعة المعاصرة لبلادنا عزفا وغناء:
الموال و الموشح والقصيد و التقاسيم و التحميلة و الطقطوقة و الدور و النشيد و الحوار الغنائي.
رابط دائم: