ما هو إفطارك المفضل: الإفطار الإنجليزى التقليدى المكون من البيض المقلى والمشروم والبطاطس المحمرة والسجق والفاصوليا البيضاء بالكاتشب والطماطم المشوية وخبز الصويا مع الشاى باللبن أو القهوة؟ أم كورن فليكس من حبوب الشوفان أو الذرة أو القمح مع المكسرات أو الفاكهة أو المرشملو باللبن مع العسل أو السكر؟
الإجابة لن تعكس فقط ذوقك فى الطعام وما إذا كنت تتبع نظام للتخسيس أم لا، بل أيضا انتماؤك الطبقى ووضعك الإقتصادي. كما أن الإجابة يمكن أن تعرضك للضرب فى منطقة "بريك لين" فى شرق لندن إذا سمعها أحد المتظاهرين الذين كانوا يحملون مشاعل وأقنعة خنازير ويحاصرون مطعما جديدا فى المنطقة متخصصا فى تقديم أنواع من الكورن فليكس مستورة من دول مختلفة حول العالم بأسعار تتراوح بين 3.5 و7 جنيهات إسترلينى للطبق الواحد، فى منطقة هى من بين أفقر مناطق لندن، حيث 50% من الأطفال فى حى مثل "تاور هاملت" مثلا يعيشون عند خط الفقر.
لم يدم حصار المقهى طويلا، فقد نفد صبر المتظاهرين وعددهم أكثر من 200 شخص، وبدأوا يقذفون واجهة المحل بالطلاء وهم يهتفون "حثالة"، قبل أن يشعلوا النار فى دمية تمثل رجل شرطة ويبدأون فى الهجوم على محلات أخرى فى المنطقة لا يجمعها سوى أنها كلها جديدة ودخيلة على أحيائهم المتعبة.
بعد قليل جاءت الشرطة لحماية المقهى وإعتقال المتظاهرين، الذين برروا الهجوم بخوفهم على مصير الطرف الشرقى من لندن من "غزو" الطبقات الوسطى، التى يؤدى وجودها فى منطقة ما إلى انتشار تلك المحلات التى تعكس صيحات وموضات جديدة بدءا من المطاعم وحتى الملابس، مرورا بالموسيقي. وتؤدى تدريجيا إلى أرتفاع أسعار كل شيئ فى المنطقة، وتدفع السكان المحليين للمغادرة، وبالتالى تتغير خلال فترة وجيزة التركيبة الإجتماعية والثقافية والاقتصادية والطبقية للمنطقة كلها.
الهجوم على المقهى أثار الكثير من الإنتقادات ليس أقلها أنه أثار ذعر أطفال كانوا مع أسرهم يأكلون الكورن فليكس. لكن أيضا لأن المنطقة باتت مليئة بالبنوك ومحلات الملابس الشهيرة والسوبرماركت الكبيرة وأفرع للشركات الدولية ومراكز اللياقة البدنية، فلماذا ترك كل هذا وتم الهجوم على محل طعام صغير مقارنة بباقى المحال والبنوك التى تغير وجه الطرف الشرقى من لندن؟.
ربما لأن الطعام كان دوما مؤشرا طبقيا. يكفى أن تسأل أى شخص فى لندن ماذا يأكل ومن أين يشترى طعامه كى تعرف إنتماءه الطبقى ووضعه الإقتصادى بطريقة أو بأخرى. فإذا كانت الإجابة هى سوبر ماركت "ويتروز" أو "ماركس اند سبنسر" فهذا يعنى أنه من الشريحة العليا للطبقة الوسطى. وإذا كانت الاجابة "تيسكو" أو "سينسبيري" أو "اسدا" فهذا مؤشر على أنه طبقة وسطى. وإذا كانت الإجابة "ألدي" أو "ايسلاند" أو "ليديل" أو "موريسون" فهذا يعنى أنه من الشريحة الدنيا فى الطبقة الوسطى أو الطبقة العاملة. فعندما أراد وزير الخزانة جورج أوزبورن الدفاع عن الإستقطاعات الكبيرة فى الميزانية، وعلى رأسها استقطاعات الرعاية الإجتماعية ذهب للدفاع عنها أمام مجموعة من العاملين فى "موريسون"، فهم ممثلون لهذه الشريحة الأكثر تضررا من الإستقطاعات والأكثر حاجة إلى الأقناع بضرورتها. فالإنتماء الطبقى ليس مؤشرا إقتصاديا فحسب، بل مؤشر ثقافى أيضا. بعبارة أخرى مثل هذا المقهى بالنسبة للغالبية من سكان شرق لندن ليس فقط مكانا للأكل، بل مكان تدخله لتعيش "نمط حياة" مختلفا ومغايرا يحقق شعورا بالتميز. فهذه الأماكن كما يراها الكثيرون موضات وصيحات ثقافية بالأساس تعبر عن نفسها عبر الطعام. لذلك ليس من الغريب أن تكون أكثر الأتهامات الموجهة للمقهى الذى تم الإعتداء عليه أنه "يهدد هوية المكان"، وليس فقط أن أسعاره ليست فى متناول 90% من السكان المحليين.
طبعا من الصعب إلقاء اللوم على مقهى أو مطعم فى تغيير التركيبة الإجتماعية والإقتصادية لمنطقة ما، ففى النهاية المقهى ليس سببا، بل نتيجة. فالطرف الشرقى من لندن بات اليوم مصدر جذب للبنوك والشركات الكبرى والمطاعم والمراكز الرياضية والإستثمارات العقارية. وكل هذا يجعل المقاهى والمطاعم تتجه إليه بحثا عن الربح والزبائن. ومع وجود عشرات البنوك الدولية والشركات العالمية، بات الزبائن مستثمرين دوليين، ومديرين تنفيذيين ومسؤولى بنوك. وهؤلاء ثقافتهم وذوقهم فى الطعام وقدرتهم الشرائية، تختلف تماما عن سكان المنطقة المحليين.
الإعتداء على المطعم يعكس من جهة "صدمة" السكان المحليين من سرعة التغيير وعجزهم عن وقفه. فالطرف الشرقى من لندن، وهو أقدم مناطق العاصمة التاريخية ويعود للعصور الوسطى ويوجد به بعض أقدم المناطق الأثرية مثل الأسوار الرومانية، كان تاريخيا منطقة عمالية فقيرة ومقرا للحرفيين والتجار.وبسبب وجود نهر التايمز على حوافه، تحول الطرف الشرقى إلى مرفأ للسفن التجارية ومركزا للتوزيع والصناعات اليدوية. كما بات بوتقة للمهاجرين منذ القرن السابع عشر. وبدأت الموجات المتتالية من المهاجرين وأولهم الفرنسيون بإنشاء ضاحية جديدة خارج الأسوار الرومانية، وتبعهم النساجون الأيرلنديون، واليهود الأشكناز، ثم البنجاليون فى القرن العشرين. وقد عمل غالبية هؤلاء المهاجرين فى صناعة الملابس، والصناعات المرتبطة بمرافئ السفن ومنها الشحن وبناء السفن والتوزيع. وأدت وفرة العمالة غير الماهرة إلى تدنى الأجور وسوء الأوضاع فى جميع أنحاء الطرف الشرقى خلال منتصف القرن الثامن عشر، ثم إلى تشكيل نقابات عمالية، وتأسيس حزب العمال، وتكوين حزب شيوعى لأول مرة فى إنجلترا.
بدأ استخدام مصطلح "الطرف الشرقي" بقصد الازدراء أو التحقير فى أواخر القرن التاسع عشر، وذلك بسبب ازدياد عدد سكان المنطقة أجمالا، وزيادة تركيز الفقراء والمهاجرين خصوصا.
وهكذا ظل الطرف الشرقى من لندن منطقة للطبقات العمالية الفقيرة طوال النصف الأول من القرن العشرين. وحتى الخمسينيات والسينيات كان معيار الثراء فى المنطقة هو وضع ستائر على النوافذ. فالبيت الذى فيه ستائر هو أغنى بيت فى الشارع.
لكن منذ الثمانينيات بات الطرف الشرقى مركز جذب هائل للإستثمارات الأجنبية، مما أدى إلى تغيير معالمه الإجتماعية والإقتصادية والثقافية. ومن بين المشروعات التى غيرت معالم شرق لندن منطقة "كنارى وارف" التى باتت مركز المال والأعمال فى لندن، وهى تضم أبراج وناطحات سحاب ومقرات أكبر البنوك والشركات الدولية، أنشئت على أراضى كانت سابقا جزء من الميناء النهرى لشرق لندن. أيضا الملعب الأولمبى العملاق الذى بنى لإستضافة اولمبياد لندن 2012، ومشروعات ناطحات سكنية جديدة تنافس نيويورك. هذه المشروعات وغيرها أدت لأرتفاع هائل فى أسعار شرق لندن، فمثلا مقر بنك "أتش أس بى سي" فى شرق لندن بيع مؤخرا بمبلغ 1.1 مليار جنيه أسترليني. وأسعار التأجير والشراء تضاعفت عدة مرات خلال العقد الماضي، ما أجبر غير القادرين على الخروج من أحياء بعضهم عاش فيها هو وأسرته لأكثر من مئة عام.
ومع التوسع والمشروعات الجديدة، بدأت الأستثمارات الأجنبية تتنافس على شرق لندن، بدءا من الروس والسعوديين، مرورا بالقطريين والإسرائيليين، إلى الصينيين. والنصيحة اليوم لمن معه أموال أن يضعها فى شرق لندن، فالأسعار تتضاعف كل عام.
وأمام قوة رأس المال المتجسدة فى المحلات الكبرى التى غزت المنطقة، بدأت المحلات الصغيرة فى التلاشي، ويتلاشى معها قرون من الخصوصية الثقافية والإجتماعية. فمحلات الذبح الإسلامى اليهودية والمسلمة، ومطاعم الأكل النباتى المفضل لدى البنغال، باتت محاصرة بمطاعم ومحلات عالمية "محايدة ثقافيا وجغرافيا" لا تعكس خصوصية أو مذاق مكان بعينه. هى فقط محلات طعام دولية لها أفرع فى كل مكان، من جاكرتا حتى اوتاوا. ومن دكار حتى القاهرة. ومن نيويورك حتى بكين. ويقول أحد سكان بريك لين:"مجتمعنا تم تمزيقه عبر كبار المستثمرين فى العقارات من الروس والسعوديين والإسرائيليين والقطريين". الخوف من التطهير الثقافى والإجتماعى ربما يكون أذن كلمة السر فى القلق المتزايد لسكان الطرف الشرقى للندن. فما هو على المحك ليس فقط قدرتك على البقاء فى المكان الذى ولدت فيه وبات اليوم فى غير متناول يديك. ما هو على المحك أكبر من ذلك، ذاكرة مجتمعات خلال مئات السنين بمطاعمها وملابسها ورائحة شوارعها وموسيقاها تختفى تدريجيا أمام عينك وتغير علاقتك بالمكان للأبد. فبدلا من أن تتجه صباحا لمقهى "جيمس وأولاده" تطلب أفطارك الأنجليزى المعتاد والقهوة وتسأل عم جيمس عن أحواله والبرد وأداء فريق المنطقة "ويست هام يونايتد" فى الدورى الأنجليزي، ستتجه إلى مقهى "ستارباكس" وتطلب معجنات مع القهوة مع إبتسامة باردة من شخص ليس له أى علاقة بالمنطقة ولم تقابله يوما، وربما يكون حتى من مشجعى تشيلسي، غرب لندن، وذلك بمعايير الطرف الشرقى من لندن، أكبر خيانة لأهل المنطقة.
رابط دائم: