عندما تسلم حسن خطابا يفيد بتعيينه في وزارة الخارجية, كاد يطير فرحا, وقال لنفسه, ليس هناك في الدنيا أفضل من لحظة تحقيق أغلي الأحلام.إن الكثرة الغالبة من زملاء الدراسة بالقرية الرابضة علي شاطئ بحر شبين أو مدينة طنطا, عاصمة المديرية( المحافظة فيما بعد) لم تتصور لنفسها مكانا للعمل خارج مصر, أما هو فقد حلق بأحلام الطموح بعيدا منذ التقي بالعمل عبدالرءوف, الذي عمل طباخا بوزارة الخارجية وعرف طريق العمل بسفارات مصر بالخارج.
أثناء ذلك اللقاء استمع الي حديث عن النظام والنظافة وحسن وصدق التعامل في أوروبا, وعن التقدم وانضباط حركة الحياة والرفاهية التي يعيشها المواطن الأوروبي, بجانب الثقة العالية بالنفس والحرية التي يتنفسها الجميع, وتطرق الحديث الي حكايات السفارات وأسرار العمل بمطابخ السفراء, خاصة ما يتعلق بالحفلات والولائم.
كان يعرف أن عمه يجيد عمله, بل يعد من البارعين في هذا المجال, لذا يمارس سفراء كثيرون ضغوطا من أجل الفوز به ضمن فريق العمل, وقد ضمنت له هذه البراعة الوجود بالخارج خاصة بعدد من العواصم الأوروبية لسنوات طويلة.
كان الحديث طيبا, ولكن حسن تحول كله الي أذن كبيرة عندما بدأ الرجل يتحدث عن مغامراته النسائية, وسواء أكانت هذه الحكايات حقيقية أم من نسج الخيال, فقد استقرت في عمق منطقة الأحلام بداخله, وأسهمت في تحديد اختياراته بالنسبة لمستقبله, وتكررت اللقاءات بعمه, وعاش بكل كيانه في حكاياته.
وقد وجد في هذه الحكايات عالما رائعا وبهيا, وتمني أن يعيشه, كان يسعي لتغيير واقعه كواحد من أبناء القري الذين يعيشون حياة متواضعة تخلو من الأحلام والتطلعات الكبيرة, ووجد فيها الطريق للانتقال الي حياة أكثر يسرا بدلا من الحياة المتقشفة التي يعيشها هو وأسرته, وبجانب أحلام الحياة المختلفة كان يتطلع لمغامرات لا تنتهي في عالم النساء.
وكثيرا ما سأل عمه, عما إذا كان يساعده للعثور علي فرصة عمل بالخارجية, وكانت الإجابة, دائما فلتحصل علي الليسانس أولا, بعدها سنري ما يمكن عمله لتحقيق هذا الهدف.
وكان حسن معروفا بين أقرانه بميله القوي للنساء, وبتعدد علاقاته, وأنه يعيش حالة من العطش لا تعرف الارتواء, وببساطة كان يعرف الطريق إليهن, ويجيد مخاطبتهن ومعاملتهن والتودد إليهن, وبالرغم من قصر قامته, إلا أن وجهه حسن الملامح ويتميز بابتسامة مشرقة لا تغيب عنه أبدا, بجانب تناسق أعضاء الجسم.
ويمكن القول, إنه لم يكن من أصحاب الشخصية القوية, وفي مقابل ذلك كان يتميز بالمرونة والقدرة علي التواؤم مع الغير, ولم يكن أبدا من الذين يصنعون المشاكلات أو يثيرون المتاعب, وبقدر ما كان ذكيا في علاقاته الاجتماعية, فإن هذا الذكاء لم يكن له نفس الحضور طوال سنوات الدراسة, ولأنه عرف مبكرا حقيقة إمكاناته, فإنه لم يسع للتفوق, بل كان يكفيه النجاح, ولم يكن يحزنه أن تخلف عاما أو أكثر خلال سنوات الدراسة.
المهم أنه التحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة, وانغمس في الحياة الجامعية, وحاول أن يوازن بين النشاط الاجتماعي من خلال عضويته بالأسر, وبالأنشطة الثقافية, وأداء واجباته الدراسية, وطوال خمسينيات وستينيات القرن الماضي, كانت هناك حياة جامعية تتسم بالحيوية والانفتاح والنضج والمستوي التعليمي اللائق والمقبول, بجانب علاقات تربط بين الأساتذة والطلاب.
مثل هذه الحياة, أسهمت بشكل فعال في إنضاج شخصيات الطلبة والطالبات, وفتحت لهم مجالات أكثر اتساعا لزيادة حجم معارفهم ومعلوماتهم وخبراتهم.
وتعلم حسن الكثير, ومن خلال الإشتراك في تنظيم الحفلات والرحلات, وجد الطريق لزيادة موارده المالية, فقد كان المبلغ الذي ترسله له الأسرة شهريا أقل من أن يفي بالتزاماته.
ولأنه كان من أصحاب الخط الجميل, فقد رأي أن يستثمر هذه الموهبة لتحقيق دخل يتيح له الاستمرار في الدراسة والإفلات من قبضة ضيق ذات اليد, وذاع صيته في أوساط أصحاب المطابع وشركات الإعلان وغيرهم, وأسهم في ذلك قبوله للمبالغ التي تعطي له دون تذمر أو محاولة للمساومة لزيادتها.
وطوال سنوات الدراسة, لم يغب عنه أبدا حلم العمل بالخارج, حيث الفرصة متاحة لدخل مريح وصحبة لها مذاق آخر, وظل يأمل أن يتمكن عمه من مساعدته للفوز بفرصة بوزارة الخارجية, وأيضا في السفر إلي دولة أوروبية من تلك الدول التي عمل بها وتحدث عن مغامراته وأسراره طوال فترات وجوده هناك, وكانت أحلام الثراء والنساء من أهم الدوافع لاستكمال دراسته, هذا بجانب الرغبة في الانعتاق والخلاص من حياة القرية والانطلاق لمعايشة التقدم والحرية.
وكانت سنواته بالجامعة خليطا من المعاناة والجهد والمعرفة والمتعة, وقد اعتبر هذه السنوات من أجمل سنوات العمر, فقد عرف طعم الإحساس بالمسئولية ومعني اتساع الأفق واكتساب الخبرات.
وتمكن في النهاية من نيل درجة الليسانس, وكتب إلي عمه الذي كان موجودا بالخارج وقتذاك, ليخبره بنجاحه, وبذل عمه جهودا مضنية, وتحدث مع عدد من كبار المسئولين الذين خدم وعمل تحت رئاستهم, ولكن كان المطلوب أن يجتاز حسن مجموعة من الامتحانات التحريرية والشفهية قبل الفوز بفرصة العمل المأمولة.
وها هو أخيرا يتسلم خطاب التعيين بالخارجية, وتنفتح أبواب الأحلام علي اتساعها, ويعيش أياما وهو يضرب بجناحيه في عالم من الأماني, وحاول القلب الذي ينبض فرحا أن يقرأ عالم الغد وما بعد الغد بكل ما فيه من بهاء وضياء, كانت أقدامه مازالت مغروسة في طين القرية, ولكن عالم الأحلام كان أقوي من الواقع ويحمل وعودا بالتغيير إلي الأفضل.
وبدأ بتعجل مرور الأيام بعد أن تسلم العمل فعلا, وضغط علي عمه كثيرا من أجل السفر الي عاصمة أوروبية متميزة, لم يحلم بباريس أو لندن أو روما, فإن مثل تلك العواصم لأصحاب الحظوة, كان يحلم بعاصمة مثل لشبونة أو هلسنكي, أو بأي عاصمة في أوروبا الشرقية مثل بودابست أو وارسو, أي من تلك العواصم التي يقل الطلب عليها.
وبعد مرور ما يقرب من عامين, صدر القرار المرتقب بتعيينه بالبعثة الدبلوماسية بالعاصمة الألبانية تيرانا, وتساءل بينه وبين نفسه, تيرانا؟! ولكنه لم يبتئس, وبدأ يستعد للسفر, كانت المرة الأولي التي يخرج فيها من مصر, وتلقي كثيرا من النصائح, وأنصت للجميع باهتمام.
ويوم السفر اصطحبه عدد من الأقارب والأصدقاء, كان يعتريه القلق, فالطريق إلي تيرانا يمر عبر روما, لقد أخبروه أن زميلا سيكون بانتظاره في المطار, وتساءل, وماذا إذا لم يحضر لأي سبب من الأسباب؟ كيف سيتصرف؟ وعشرات من هذه التساؤلات.
وعاد من تساؤلاته ليتطلع إلي وجوه المسافرين, ثم بدأ يقرأ عددا من التقارير والصحف, وبعد أن هبطت الطائرة, غادر مع المغادرين, وسار مع السائرين, وبعد خطوات رأي من يحمل ورقة مكتوبا عليها اسمه, فانفرجت أساريره, وتنفس بهدوء لأول مرة منذ استقر علي مقعده بالطائرة, وبعد الترحيب وإنهاء الإجراءات, اصطحبه الي الفندق الذي سيقضي فيه ليلته قبل أن يتوجه إلي تيرانا, وقبل أن يصعد الي غرفته, قال له الزميل إنني سأنتظرك في اللوبي لكي نتوجه معا لتناول طعام العشاء, ثم سنقوم معا بجولة بالسيارة في روما.
كان ذلك أكثر مما يتوقع, وان كان قد تمناه في أعماقه.
وخلال العشاء تحدثا طويلا, واستفسر حسن كثيرا عن العمل وطبيعته, وسأله إذا ما كان يعرف شيئا عن تيرانا؟ وطلب منه النصيحة.
وأثناء الجولة السياحية بالسيارة في الشوارع الجميلة للعاصمة روما, مرا بشارع فيا فينيتو فقال له زميله إنه شارع الأناقة والجميلات وشرح له, ان اللاتي يقفن أو يسرن بدلال وبخطي بطيئة, البعض يطلق عليهن قطط شارع فيافينيتو, فقال حسن بتلقائية, أريد قطة, وضحك الاثنان.
بعدها طلب حسن العودة إلي الفندق وهو يضمر شيئا, وبعد أن هبط من السيارة ودخل الفندق, وتأكد أن زميله قد غادر, عاد وخرج من الفندق وطلب من سائق تاكسي أن يذهب به الي شارع فيافينيتو ومن هناك عاد ومعه قطة.
وفي الصباح اصطحبه هذا الزميل الي المطار, ولم ينس قبل أن يودعه أن يرجوه أن يقبل منه هدية قال انها رمزية.
وفي المطار المتواضع للعاصمة تيرانا, كان في استقباله زميل من السفارة, اصطحبه الي فندق دايتي, الفندق الوحيد بالعاصمة الذي تزينه لافتة.. نضم خمسة نجوم.
وأوضح له أنه سيقيم بالفندق الي أن توفر له وزارة الخارجية الألبانية وباقي الجهات الأمنية سكنا خاصا, وخلال الليلة الأولي اكتشف أنه الضيف الوحيد بالفندق, فليس هناك نزلاء غيره, فالبلد لا يرحب بالسياحة ولا يشجعها, ويتشكك في كل الأجانب.
وبدأ عمله في صباح اليوم التالي, وأخذ يتعرف علي الزملاء وعلي ما هو مطلوب منه, وطلب أن يلتقي بنظرائه في الخارجية الألبانية وفي السفارات الأخري الموجودة بتيرانا, وعندما انتقل من الفندق الي الشقة التي خصصوها له, تلقي أكثر من تحذير عن كفاءة وصرامة أجهزة الأمن الألبانية, وأن كل من سيعملون بمسكنه, سيكتبون عن كل ما فعله ومن استقبله تقريرا يوميا, وطلبوا منه ألا يحمل معه أي وثائق عند عودته الي منزله, وألا يتحدث عن أي قضايا أو وجهات نظر لا مع ضيوفه ولا تليفونيا, فأجهزة التسجيل موجودة في كل مكان, وبالمعايشة والتجربة, تعرف علي ماهية الدولة البوليسية, والنظام الديكتاتوري المستبد.
وكان نظام أنور خوجة رئيس الجمهورية ورئيس الحزب والزعيم قد انحاز للثورة الثقافية, التي أطلقها الزعيم الصيني ماو تسي تونج في بداية ستينيات القرن الماضي, وبقدر هذا الانحياز كان الابتعاد عن دائرة الفلك السوفيتي.
في هذا المناخ, واصل العمل, وأبدي همة وكفاءة ملحوظة, ولكنه لم ينس تطلعاته وأشواقه.
وأمام هذه السيطرة الأمنية والرقابة الصارمة, قرر الانتظار.
ووجدت البعثات الدبلوماسية الموجودة بتيرانا أن أفضل الحلول للإفلات من قبضة العزلة والحصار, الاستغراق في تنظيم الحفلات والدعوات الجماعية والفردية لتناول المشروبات أو الطعام, أو حتي لتبادل الحوار والمعلومات, ومن خلال هذه اللقاءات, بدأ مشوار المغامرات, وسرعان ما اشتري سيارة جديدة وحديثة.
وكانت هناك بالضرورة سفريات لعدد من العواصم القريبة مثل بلجراد وأثينا وبودابست, سواء لاستلام السيارات المشتراة أو لإجراء عمليات الصيانة الدورية, أو لشراء المستلزمات المطلوبة للسفارة ولأعضاء البعثة, أو لاستلام المرئيات.
وأبدي رغبة في القيام بعدد من هذه المهام, ورحب باستخدام سيارته عند تكليفه بأي منها, وفعلا سافر إلي هذه العواصم, ومنها زار كثيرا من المدن, ووجد الطريق لتحقيق كل ما أراد, وعرف أن عطشه لا يعرف الارتواء, وخلال وجوده بالعاصمة المجرية لأول مرة, استضافه زميل دراسة كان قد انضم للبعثة الدبلوماسية, واصطحبه لأحد النوادي الليلية الراقية, ولاحظ حسن أن العاملين قد أحسنوا استقبالهما وخدمتهما, وأثناء دفع الحساب لاحظ أن زميله ترك يقشيشا كبيرا, وعند انتهاء مهمته واستعداده للعودة إلي تيرانا, طلب منه زميله أحمد حمل حقيبة في سيارته تخص فاروق زميله في تيرانا, وطلب منه أن تظل في سيارته الي أن يطلبها منه فاروق.
ولم يمانع حسن, بل ورأي في ذلك نوعا من رد الجميل لكرم الضيافة, وطوال الطريق, ظل يتساءل عن سر هذه الحقيبة, ولماذا لا يسلمها لفاروق مباشرة؟.
وبعد وصوله, دعاه فاروق لتناول طعام العشاء معه في منزله, وفي الموعد المحدد كان ينتظره علي باب المنزل, وطلب منه أن يدخل السيارة في الجراج, وبعدما أغلق باب الجراج, أخرج الحقيبة من السيارة وتركها بداخله, واصطحب ضيفه إلي داخل المنزل, بعد أن شكره علي الحضور وعلي حمل الحقيبة, ولم يوضح له شيئا.
وجاء التوضيح في أثناء الزيارة التالية لبودابست, حيث سلمه أحمد ظرفا به قدر لا بأس به من الدولارات, وقال إنه نصيبه من حمل الحقيبة, واستطرد قائلا, إنها كانت عملية بسيطة, ولكنه يستطيع أن يكسب أكثر لو أراد, وفهم حسن أخيرا, ولم يمانع في المشاركة.
وتعددت زياراته, خاصة لفيينا عاصمة النمسا, حيث يترك السيارة في جراج مركز تجاري بعد أن يسلم قائمة بالمشتريات المطلوبة, وبعد عدة أيام, يتوجه الي بودابست الي عنوان محدد سلفا, ويدخل الجراج الذي يجد بابه مفتوحا, ثم يتولي أصحاب المنزل إغلاق الباب, وتفريغ حمولة السيارة.
ولم تكن هناك مشكلة في اجتياز نقاط الجمارك الموجودة علي الحدود, فالسيارة تحمل أرقاما دبلوماسية, كما أن صاحبها وقائدها دبلوماسي, حتي وإن كان مقر عمله تيرانا, وهكذا مع كل مناطق عبور الحدود التي يمر بها خلال تنقلاته, كانت الشبكة التي تقوم بهذا النشاط واحدة من شبكات كثيرة من جنسيات مختلفة, وكل منها تتبع الأساليب الخاصة بها.
وكانت أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي هي مجال عمل هذه الشبكات, أما النشاط فيشمل عملات هذه الدول والمنتجات والسلع التي تفتقدها أسواقها, ويشتد الطلب عليها, بجانب نشاط محموم لتهريب الآثار الموجودة, خاصة بدول أوروبا الشرقية الي الخارج.
ومنذ البداية, عرف حسن أن زميله أحمد هو رئيس الشبكة التي انضم إليها, كما عرف أن المجال الرئيسي لنشاطها هو المجر, بالإضافة الي يوجوسلافيا وألبانيا وتشيكوسلوفاكيا, أما النمسا فكانت المصدر الرئيسي للمنتجات, والسلع, واذا كان الذين ينقلون البضائع المهربة من العاملين بالسفارات, فإن هناك عصابات محلية تقوم بتسلم هذه البضاعة لتوزيعها, ورؤساء هذه العصابات المحلية هم الذين يضعون قائمة المشتريات, ويحددون أسلوب وأماكن التسليم.
وكانت الأرباح وفيرة, وتتيح للجميع أنصبة مجزية.
وانغمس حسن في هذا النشاط بقوة, وذاق طعم المال الوفير, ولم يغب عنه أبدا, أنه كلما زاد رصيده, زاد إحساسه بالأمان من غدر الزمان.
وعلي امتداد ثلاث سنوات, لم يتوقف عن التحليق كفراشة في فضاء أوروبا الشرقية, وبالرغم من عدد المواقف الصعبة والمخاوف من افتضاح أمره في هذه الدولة, أو تلك, فإنه عرف سعادة هائلة, فالمغامرات العاطفية, سلسلة لم تعرف الانقطاع, أما الأموال فتتدفق مع كل عملية يشارك فيها أو يقوم بها.
وحمل له العام الرابع مفاجأة قاسية, فقد اكتشف فجأة أنه مريض, وكان لابد من دخوله مستشفي في العاصمة المجرية, وهناك شخص الأطباء المرض وقالوا له إن كل المؤشرات تدل علي أنه ربما يفقد ذكورته, ونصحوه بالبقاء تحت الرعاية الطبية لفترة طويلة, فربما ينجح العلاج.
وتساءل عن الأسباب, وعن البداية, فأجابوه بصراحة, ان علاقاته امتدت لتشمل بعض المريضات, وأنه ربما نقل المرض لأخريات دون أن يتنبه.
وأصابه احتمال فقدان ذكورته بفزع شديد, وعاني من الاضطراب وعدم التركيز وفقدان الشهية, وكثيرا ما سقط في بئر الاكتئاب, واعترته نوبات من البكاء.
ومن قلب المرارة تساءل: أأنتهي كرجل وأنا في منتصف العقد الثالث؟! وتوجه بالرجاء للأطباء وإدارة المستشفي للاحتفاظ بالأمر سرا, وبين الحين والحين, كان يعترف لنفسه أنها توبة إجبارية, وأنه يواجه عقابا إلهيا علي أخطائه وخطاياه.
وشعر بالندم الشديد, وحاول معالجة نفسه بالاستغفار وقراءة القرآن, وأدرك أن مشروعات الزواج التي خطط لها لم يعد لها مكان, لقد كان يفكر في الزواج زواجا تقليديا بعد عودته الي مصر, وانتهاء فترة عمله بتيرانا, ورأي أن تظل هذه الزوجة بالقاهرة, فلا مكان لها بجواره بالخارج, ولا بأس من بعض الزيارات, واذا ما رزق بأطفال فسيبقون مع أمهم, وسيراعي أن يزورهم بين الحين والحين, أما الحياة الأسرية فستنتظم خلال سنوات العمل بمقر الوزارة بالقاهرة, الي أن يحين دوره للعمل بالخارج, الآن وفي ظل حالته الصحية لا مكان لمشروع الزواج. وخضع للعلاج, وبذل الأطباء جهودا كبيرة لإنقاذه, ووجدوا فيه مريضا مطيعا ومستجيبا لكل التعليمات, وبعد ما يقرب من شهرين, بدأ الأطباء يلوحون بوجود أمل, وكانت الممرضة الجميلة التي تشرف عليه تتابع حالته بما يتجاوز دورها العلاجي, وحاورته طويلا, وشعر معها بدفء الحوار وعمق التعاطف مع حالته, وتوثقت العلاقة بينهما يوما بعد يوم, وليلة بعد ليلة, وأسبوعا بعد أسبوع, وفي نهاية الشهر الثالث, تأكد وهو معها من استعادة الأمل كاملا, واستقرت أوضاعه الصحية, وغادر المستشفي, وقضي فترة للنقاهة مع صديقته الجديدة علي شواطيء بحيرة البالاتون التي لا تبعد كثيرا عن بودابست, وطوال هذه الأسابيع أغرقها بالهدايا التي كان يجيد اختيارها, وعاد الي مقر عمله, وسرعان ما دارت العجلة مثلما كانت تدور من قبل.
وأراد أن يعيش تجربة عاطفية مماثلة لتلك التي كان يعيشها قبل مرضه, وان راعي الوقاية بشكل كامل, ولكن الفشل كان في انتظاره دائما.
وقاده تكرار الفشل الي الاستنتاج, بأن ممرضته وصديقته الجديدة ماريا, هي وحدها الدواء والعلاج والذكورة, واقترب العام الرابع له بالخارج من نهايته, وصدر قرار بعودته الي الديوان العام بالقاهرة, ودارت عجلة الاستعداد للعودة, وكانت المشكلة التي تتطلب حلا, هي الممرضة المجرية ماريا, فهو لا يستطيع أن يعود بدونها, لأنها أهم مصدر للحياة بالنسبة له وللثقة بالنفس, وفي نفس الوقت فإن السلطات المجرية لن تسمح لها بمغادرة المجر, فالمواطنون في الدول الشيوعية محرومون من حرية الانتقال, والزواج منها لا يمثل حلا, فالأمر يتطلب استئذان الوزارة للموافقة علي زواجه من أجنبية, وقد توافق أو لا توافق, وعاني من الأرق وهو يبحث عن حل.
وأخيرا استقر علي خوض تجربة تهريبها, حتي وإن كانت لا تحمل أي وثائق سفر, وفي أثناء شحن العفش, رأي الاحتفاظ بعدد كبير من الحقائب, وكانت خطته أن تنام علي الأرضية الموجودة أمام المقاعد الخلفية, وأن توضع الحقائب من فوقها وفوق المقاعد, وبصورة تخفيها عن الأنظار, وتحفظ لها مساحة محدودة للتحرك والتنفس, وأثناء اجتياز نقاط الحدود, بعدها تعود للجلوس بجواره للاستمتاع بالرحلة, وقضاء عدة ليال بعدد من المدن التي يمرون بها والتردد علي أشهر المطاعم والكافيتريات الموجودة, والتي أصبح من كثرة السفر بها خبيرا.
وتمكن من تنفيذ خطة هروب طويلة تضمنت بعد الخروج من المجر المرور بكل من يوجوسلافيا واليونان وتركيا وسوريا ولبنان.
والآن وصل إلي حيث لا يمكنه مواصلة مشوار تهريب صديقته, أو مشروع زوجته.
وطوال الرحلة لم يتوقف عن التفكير حول ماذا سيفعل بعد أن يصل الي بيروت؟ فالسفر إلي القاهرة جوا أو بحرا مستحيل لأنها لا تحمل أي وثائق سفر, أما برا, فليس هناك طريق يربط بيروت بالقاهرة.
والآن عليه العثور علي إجابة, وكان التساؤل الذي يتردد بداخله باستمرار, لماذا لا يطرق باب السفارة الأمريكية.
ودرس الفكرة ومخاطرها واحتمالاتها, وأخيرا توجه إلي مقر السفارة, وطلب مقابلة أي مسئول خاصة إذا كان مهتما بالمسائل الأمنية, وكلما أغلقت السفارة بابا, طرق بابا آخر, كان يعلم أنهم لن يستجيبوا لمحاولته بمجرد أن يطرق الباب, وحاول بإلحاح, وحكي قصته بالتفصيل أكثر من مرة, وأخيرا تأكدوا من جديته, كان مطلبه الحصول علي جواز سفر لبناني لماريا, وفي المقابل فإنه علي استعداد للتعاون معهم.
وانتقل من مسئول إلي مسئول آخر, الي أن استقر مع من سيقوم بتدريبه علي أعمال التجسس وتزويده بالأجهزة والمعدات المناسبة.
وملأ كل وثائق التعارف التي قدموها إليه, وأجاب عن أسئلتهم واستفساراتهم, وكان صادقا جدا في كل ما قاله وما كتبه, وانتهت مرحلة التدريب, وتسلم جواز السفر المطلوب, وهنا قرر أن يعود وحده أولا للبحث عن مخارج من كل المآزق التي تورط فيها, ولاكتشاف الأرض التي سيقف عليها, ولحساب الخطوة التالية بعد أن أصبح في هذا الموقف الخياني.
واختار العودة بحرا بصحبة سيارته وما بها من حقائب, ولكي تتاح له فرصة التفكير بهدوء.
وقبل الإبحار اتصل تليفونيا ببعض الأصدقاء ليكونوا في انتظاره لحظة الوصول لميناء الإسكندرية, لمساعدته في الإفلات من قبضة البيروقراطية بالميناء وبالخروج بما معه من دولارات, سواء تلك التي جمعها من الاشتراك في عمليات التهريب, أو التي حصل عليها من ضباط المخابرات الأمريكية.
وهو وبالرغم من المبلغ الهائل الذي دفعه للمستشفي من أجل العلاج, فإن ما تبقي معه من ثروة صغيرة كان كثيرا.
وكان من بين من طلبهم صديقه وزميل دراسته عبدالفتاح, الذي اختار الصحافة مهنة له.
وبسرعة وسهولة انتهت الإجراءات وغادر حسن الميناء بما معه من أموال وبسيارته وحقائبه.
ورافقه في الرحلة الي القاهرة, بناء علي طلبه عبدالفتاح, وفي الطريق أخبره بقصة التعاون مع المخابرات الأمريكية, وطلب منه المساعدة لمقابلة مدير المخابرات العامة المصرية, وأوضح له, أنه من الصعب أن يطرق باب هذا الجهاز العتيد ليخبرهم أنه جاسوس يعمل لحساب الأمريكيين, وقال إنه يتطلع للتمتع بحماية من نوع ما تمنحه الإحساس بالاطمئنان الي حسن معاملته.
وأخبره عبدالفتاح أنه لا يعرف أحدا في هذا الجهاز, فقال حسن ولكن رئيس التحرير بالضرورة يعرف, فوعد بأن يفاتحه ويرجوه التدخل.
وانشغل حسن في تسلم العمل بالديوان العام, وفي البحث عن سكن مناسب, وعاش في انتظار ما سوف تسفر عنه جهود صديقه عبدالفتاح, وبعد ما يقرب من15 يوما من الانتظار طلبه عبدالفتاح وأخبره أن رئيس التحرير سيستقبله في الساعة الثامنة من مساء الغد بمكتبه.
وقبل الثامنة مساء, كان في مكتب الرجل, الذي استمع باهتمام شديد لما يرويه حسن, وكانت هناك مجموعة من الاستفسارات, طرحها, لاستكمال الصورة, وقبل نهاية اللقاء وعده بالاتصال بمدير المخابرات, وقبل مرور48 ساعة, كان يقود سيارته في الطرق للقاء المدير الذي لم يكن وحده وهو يستقبل حسن, الذي استفاض وهو يحكي كيف أصبح جاسوسا.
واستمر اللقاء مع المدير لأكثر من ساعة, بدأت جلسة عمل مع فريق من الضباط بالجهاز, كانت مصر تعيش فترة ما بعد نكبة يونيو1967, لذا كانت المهام التي كان عليه أن ينجزها تتعلق بحقيقة أوضاع الرأي العام وجمع كل ما يمكن من معلومات عن القوات المسلحة والتحركات العسكرية وعقد صداقات مع عدد من الضباط والقادة بقدر ما تسمح به الظروف.
وكان من المنطقي أن يمر بمرحلة تدريب, وأن يتولي أمره ضابط مخابرات, ولم ينس حسن أن يسلمهم المبلغ الذي حصل عليه من الأمريكيين, وبالوصول الي هذه العلاقة مع المخابرات العامة, تخلص من إحساسه بالخيانة الذي عاش تحت وطأته منذ بدأ تعاونه مع المخابرات الأمريكية.
وساعدته المخابرات المصرية علي كيفية العمل كجاسوس مزدوج, بكل ما يتطلبه من مهارات وذكاء ويقظة وسرعة بديهة وحسن تصرف, ودارت العجلة, وسافر بعد أسابيع الي بيروت, والتقي بماريا التي عانت من الوحدة لضآلة ما تعرفه من كلمات عربية, ولعدم إجادتها اللغة الانجليزية أو أي لغة أخري غير المجرية.
وكان اللقاء بالأمريكيين ناجحا, فقد كان يحمل معه مجموعة من التقارير الجيدة التي زودته بها المخابرات المصرية, وتلقي تدريبا اضافيا مع شرح لكيفية العمل علي المعدات الجديدة التي زودوه بها, وعاد بزوجته, بعد أن عقد قرانه عليها في بيروت.
واستقرت الأسرة, وتوجه الي السفارة اللبنانية لتسجيل زوجته كمقيمة بالقاهرة, فطلب منه القنصل ترك الجواز والعودة في الغد, وأثناء اللقاء التالي, أشار القنصل الي أن الجواز به خطأ ما, ولم يحاول أن يقول ما هو أكثر.
واستنتج حسن أن الأمريكيين سلموه جوازا معطوبا حتي اذا لم يتعاون بشكل طيب, سيجد نفسه مضطرا للعودة اليهم, ولم يكن هذا الاستنتاج بعيدا عن الواقع.
وعاد الي بيروت, وطلب منهم تسليمه جواز سفر خاليا من الأخطاء, فأخذوا منه جواز السفر الأول, وقالوا له, ان الأمر يتطلب وقتا, وسألوه كيف اكتشف القنصل اللبناني بالقاهرة مثل هذا الخطأ, فأجاب بأنه لا يعلم, ولم يتحدث معه حول هذا الأمر.
وبعد48 ساعة سلموه الجواز الجديد, ومكافأة مالية تقديرا للتقارير التي قدمها, وطلبوا منه المزيد, ومحاولة تجنيد من يستطيع تجنيدهم خاصة من أفراد القوات المسلحة, كما كلفوه بالسفر الي الجبهة وتسجيل ملاحظاته, والتقاط الصور كلما تمكن من ذلك.
وقبل عودته أخبرهم أنه لن يتمكن من السفر الي بيروت لصعوبة الحصول علي إذن بالسفر, وخشية لفت الأنظار وإثارة الشكوك, فتقبلوا الأمر, وطلبوا منه الاعتماد علي الرسائل المشفرة واللاسلكي واستخدام صناديق البريد, سواء في روما أو أثينا, وبدا واضحا في القاهرة من خلال ما يطلبه الأمريكيون من حسن, الأمور التي يهتمون بها, ومدي علاقتها بأمن مصر وأمن القوات المسلحة, ولم يكن من الصعب التعامل باحتراف مع هذه القضية.
وفي القاهرة, وجد القنصل اللبناني, أن جواز السفر الجديد خال من الأخطاء, وبمبني مجمع التحرير, توجه الي مصلحة الجوازات والجنسية, وأنهي إجراءات إقامة للزوجة,. بعد عقد زواج جديد بالشهر العقاري, وأقدم علي خطوة رئيسية أخري لكي تحصل زوجته علي الجنسية المصرية, بسبب الزواج من مصري, وكان الأمر يتطلب تقديم طلب, وبعد المرور بكل الإجراءات, كان عليه وعليها الانتظار عامين الي حين الحصول علي موافقة السلطات المعنية, وإصدار شهادة جنسية, وواكب ذلك إشهار الزوجة إسلامها, مرة في الأزهر, ومرة أخري أمام المسئولين والموثقين, وكان الحصول علي الجنسية يضمن له عدم الحاجة لتجديد جواز السفر اللبناني.
خلال هذه المرحلة تجاوزت ثقته بالنفس كل الحدود المعقولة, وقال لنفسه وهو في حالة من الخيلاء إن الأمهات المصريات لم يلدن مثلك, يا بني ما جابتكش ولادة, ياريت أمك فهيمة وانت تعيش كملك متوج ونجم في ليالي بودابست..!! وآه لو عرفت هذه الأم الفلاحة الطيبة الصبورة أنك لم تترك ناديا ليليا في كل من أثينا وسالونيك وبلجراد وفيينا وبودابست وبراغ لم تتردد عليه, وتسطر علي صفحات الليل مئات المغامرات, لقد عرفت من لذة الحياة أكثر ما عرف هارون الرشيد.
ولما لا يختال عجبا بنفسه, بعد هذا النجاح في عالم التهريب بكل ما يتضمنه من أخطار ورشي واختراق لكل أو لمعظم الأجهزة المسئولة, والفوز بهذه الثروة التي لا يحلم بها أي من أهله, وبعد التعرف علي كل هذا العدد من الجميلات.
ويتوقف أمام تمكنه من تهريب زوجته عبر عدد من الدول الشيوعية المعروفة بصرامة إجراءاتها الأمنية وكفاءة الأجهزة القائمة علي هذا الأمر, بالإضافة الي كل من تركيا وسوريا ولبنان, وأخيرا نجاح خطته في طرق الباب الأمريكي ببيروت.
,ها هو أخيرا يعمل كجاسوس مزدوج مدرب ومؤهل للتلاعب برجال المخابرات الأمريكية.
وأمام الامتلاء بهذا القدر من الغرور, خرج الي شرفة مسكنه, وعندما نظر الي السماء وجد القمر قد اكتمل بدرا, وتنبه الي أن هذا الاكتمال الي نقصان فناوشته المخاوف, ولكنه ومن قبل هذا الاختيال تذكر حاله, فحمد الله علي شفائه من هذا المرض الذي كاد يقضي عليه كذكر, قبل أن يبلغ الثلاثين من العمر, وها هو قد استقرت أوضاعه في مصر هو وزوجته, وقريبا سيصبح أبا.
وعاد ليقول لنفسه بعد أن تراجعت مخاوفه, لقد حققت أكثر مما كنت تتمني, وعليك أن تتطلع لقمم أكثر ارتفاعا.
واقترب موعد حركة التنقلات بوزارة الخارجية, وعبر لمن يعمل تحت قيادتهم عن مخاوفه من نقله للعمل بإحدي دول أوروبا الشرقية, فقد كان يدرك أن أجهزة الأمن المجرية قد اكتشفت هروب ماريا بصحبته, وكل هذه المعلومات وجدت طريقها الي كل المستويات الأمنية بهذه الدول, وطمأنه الجميع, بأنه لن يعمل طوال فترة خدمته بالخارجية بأي من الدول الشيوعية, خلال هذه الفترة, تسلم رسالة من المخابرات الأمريكية تطلب منه الحضور الي بيروت, وتوقع أن يتم تدريبه علي جهاز أو أجهزة جديدة, فقرر السفر.
وبعد وصوله تم ترتيب اللقاء, وكان يعرف من التجارب السابقة أن ضابط المخابرات المسئول عنه, يحضر كل مرة في سيارة مختلفة يقودها بنفسه, ولا تحمل ما يشير الي أنها سيارة دبلوماسية, أما المكان فيجري تغييره دائما.
وأثناء وجوده بالفندق, عرف أن جماعات شيعية مسلحة, بدأت تهاجم أهدافا أمريكية, وتترصد عناصر الأمن بالسفارة الأمريكية, ولكنه لم يعلم بأي صورة أن هذه المجموعات تتابع الضابط المسئول عنه للنيل منه انتقاما لمشاركته في الايقاع بكثير من عناصرهم.
وحضر الرجل في الموعد والمكان المتفق عليه, فصعد الي السيارة, وجلس بجواره, وأثناء السير, اعترضت طريقهما سيارة نقل ضخمة, ومن سيارة أخري كانت متوقفة عند ناصية قريبة, ثم إطلاق صاروخ, أصاب السيارة وأدي الي تفجيرها بمن فيها.
رابط دائم: