رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الأهرام فى العيد المائة والأربعين
شموس "الأهرام" تشرق فى سماء الصحافة المصرية
عن الأهرام..التاريخ والجغرافيا..الأستاذ محمد حسنين هيكل يتحدث: قيمة الأهرام الحقيقية أنه مستمر فى الصدور بانتظام 140 عاما

آجرى الحوار: محمد عبد الهادى علام _ عـزت إبراهيـم ــ محمـد إبراهيـم الدسـوقى _ أحمـد عـاطف ــ محمـد أبوالفضل ــ هانى عسـل
تشرق شمس اليوم الأول من العام الحادى والأربعين بعد المائة على المبنى العريق فى شارع الجلاء بوسط القاهرة، الذى يحتضن مسيرة صحيفة عملاقة وتاريخا حافلاً عبر من القرن التاسع عشر إلى القرن الحادى والعشرين فى رحلة أسطورية لمطبوعة حفرت بحروف من نور مكانتها فى الصحافة المصرية والعربية والعالمية ، وتحمل شمس يوم السابع والعشرين من ديسمبر من كل عام دفئا خاصا فى حياة "الأهراميين"

فهو تاريخ وضع اللبنة الأولى فى عمر مؤسسة رسخت مكانتها فى الحياة العامة المصرية كعنوان للمصداقية والرصانة والخبر الصادق، وأكملت العنوان الناصع بتحولها عبر عقود متتالية إلى منارة للثقافة والمعرفة والتنوير على يد مبدعين كبار قلما يجتمعوا تحت سقف واحد، ولم يكن هناك سوى "الأهرام" القادر على لعب هذا الدور فى الحياة العامة المصرية. ربما لم يخطط المؤسسان سليم وبشارة تقلا بأن يكون للأهرام تلك المكانة الرفيعة فى التاريخ المصرى المعاصر، لكنهما بالتأكيد عندما تخيرا الاسم العتيد ليتصدر الصفحة الأولى كانا يعلمان أن القيمة فى الأهرامات فى أنها باقية فى مواجهة عواصف الزمن، وأنها من رموز قليلة لا يمكن أن تتوارى أو تختفي.. وكانت الصحيفة من اللحظة الأولى صادقة فى وعدها..

ذهبت أسرة تحرير "الأهرام" إلى الأستاذ محمد حسنين هيكل فى مكتبه من أجل أن نعرف المزيد من التفاصيل المدهشة عن حياة الصحيفة من مرحلة النشأة والتطور إلى المرحلة الذهبية الفريدة التى قادها عميد الصحافة المصرية باقتدار، فرفع الأهرام إلى مصاف الصحف الكبرى فى العالم، وأجلسها على عرش من التاريخ والجغرافيا لا تنازعها فيه صحيفة أخرى فى العالم العربى والشرق الأوسط. يقول الأستاذ هيكل فى حواره معنا اليوم إن قيمة الأهرام الحقيقية فى دوام صدوره بانتظام مدة ١٤٠ عاما، وفى قيمة البشر الذين أعطوا المؤسسة العريقة وضمنوا بقاءها، ويرمى الأستاذ ببصره إلى المبنى العملاق فى شارع الجلاء فيقول إنه فكر فى إنشاء المبنى لأنه «لا يوجد تاريخ بدون جغرافيا». من التاريخ إلى صناعة الجغرافيا يطوف الأستاذ هيكل بالحالة الفريدة للأهرام من كواليس بعيدة فى أروقة المبنى القديم فى شارع مظلوم إلى واقع الصحافة المصرية والعالمية فى يومنا هذا.. ويرى الأستاذ هيكل أن المهمة المستمرة للصحيفة هى تقديم الأخبار وشرحها وتحليلها، ولا يوجد شيء رابع مهما تطور الزمن وتداعت علينا التكنولوجيا الحديثة، وهو سر بقاء صحف كبرى بحجم الأهرام بعيدا عن التوقعات المتوهمة.. رحلة الأستاذ محمد حسنين هيكل تروى الكثير عن الأهرام والأهراميين وجيل المؤسسين وجيل رواد الفكر والثقافة والفن والتنوير والسياسيين والزعماء، صعودا وهبوطا، ويبقى أن نسمع منه بعضا من صفحات التاريخ العظيم:

وإلى نص الحوار:




                     هيكل خلال حواره مع ممثلين لأسرة تحرير الأهرام

 

نريد شهادة الأستاذ هيكل على عملية التأسيس الثانى للأهرام، بعد أن تسلمت الجريدة فى ظل أوضاع سياسية واقتصادية صعبة، ونريد أن نعرف : كيف استطعت قيادة الأهرام ليصبح واحدا من بين أفضل عشر صحف فى العالم؟ وكيف انتقل الأهرام من مجرد جريدة فى مبنى بشارع مظلوم إلى هذه المؤسسة الضخمة؟


الأستاذ هيكل : استغرقت فترة شهر فى التفكير فى مسألة انتقالى من الأخبار إلى الأهرام، وذلك لكى أفكر فى أوضاع الأهرام أولا، ولهذا الغرض، طلبت ملفات من الأهرام، وعندما حضرت أول اجتماع لمجلس إدارة الأهرام، كانت لدى فكرة بناء بيت جديد للأهرام، لأن المبنى الذى كان الأهرام يصدر منه كان فى الأساس منزل قنصل إيطاليا بالقاهرة، وكان يقع فى وسط المدينة، ولم يكن هذا المبنى مهيئا على الإطلاق ليكون مقر الجريدة، لكن تم ترتيب أشياء فيه ليكون كذلك، مثل استغلال الـ"بدورم"، لوضع الماكينات الجديدة، وفى أول اجتماع عرفت أنه لابد أن يكون هناك مقر جديد للأهرام، لأنه كان من المهم وجود الجريدة فى مكان واحد، صحيح من الممكن أن يكون لها فروع، ولكن الجزء الأساسى منها يجب أن يكون فى مكان واحد، فقلت فى هذا الاجتماع إننا لا يمكن أن نصنع تاريخا بدون جغرافيا، ولكنى وجدت مشكلة أمامى فى الاجتماع هي: "بأى لغة سنتحدث"، فقد كانت المفاجأة أن أعضاء مجلس إدارة الأهرام كلهم - باستثناء على الشمسى باشا - لم يكن بينهم من يتحدث العربية، فكانت من بينهم مدام رينيه تقلا، وهى سيدة ممتازة، ولكنها لا تتكلم العربية، وكذلك ريمون شميل، العضو المنتدب، فريد شقير المدير العام للتوزيع والإعلانات، وحتى نعوم بحرى كان يتكلم العربية، ولكن "عربى مكسر"، فبمجرد ما قلت لهم "تاريخ وجغرافيا"، مدام تقلا قالت بالفرنسية "لم أفهم"، وحاولت أن أشرح لها ما أقصده.

ويواصل الأستاذ هيكل حديثه قائلا :

يعني، أقدم جريدة فى العالم العربى أعضاء مجلس إدارتها لم يكونوا يتكلمون العربية، فكان الاتفاق على أن أقدم لهم تقريرا بالإنجليزية، وبالفعل، كان التقرير الأول للأهرام بالإنجليزية، وكان هذا تحديا كبيرا أمامي، إذ كيف يقرأ أصحاب الجريدة هذه الجريدة؟ ولكن الشهادة لله أنهم كانوا مستعدين لتقبل الفكرة، وأنا أيضا لم تكن لدى طلبات كثيرة، وأذكر أن مدام تقلا قالت لى : "مسيو هيكل: نريدك أن تنجح ولكن بصراحة لا نستطيع استثمار اموال جديدة فى الأهرام فقد خسرنا بما فيه الكفاية" .. وأخيرا اتفقوا على زيادة 10 آلاف جنيه شهريا فى ميزانيته لمدة ستة أشهر فقط، مع إمكانية تطوير ما أريده وتعيين محررين جدد إذا تحققت أرباح كافية، وكانت هذه هى البداية فى الأهرام.

ويصمت الأستاذ برهة ثم يقول : .. أعتقد أننا لابد أن نسلم بأن هؤلاء الناس حافظوا على الأهرام، وقيمة الأهرام الحقيقية الآن أنه مستمر منذ 140 عاما، ويصدر بانتظام، ومستمر فى الصدور، وهى ظاهرة فريدة فى الصحافة، وجزء كبير من الفضل فى ذلك يعود لجبرائيل تقلا، وكانت قضية الأهرام وقتها إن توزيعه كان 68 ألف نسخة فقط، وكان يفقد قراء كثيرين، وبالتالي، يمكن أقول أن وضعه فى ذلك الوقت كان مزعجا، وهنا أقول إن الأهرام يفقد قراء بقدر ما يفقد من أرواح، أقصد من ينشر نعيه فى الأهرام بصفحة الوفيات.... شوف كام واحد ماتوا، تعرف نقص قراؤه كام، فهؤلاء كانوا وراء الاستمرار، ولكن الجريدة كانت تخسر، ومدام تقلا كانت ترفض مواصلة الخسائر، ولم تكن تريد سحب أموال من بنك صباغ الذى ورثوه فى لبنان وتوجيهها للأهرام.



وكان على الشمسى باشا عضو مجلس الإدارة المنتدب فى فترة من الفترات، وهو الذى جاء ليتحدث معى بشأن انضمامى إلى الأهرام، وهو أيضا صاحب مغامرة الدفاع عنى فى موضوع السن، فهذه النقطة كانت تمثل مشكلة كبيرة جدا، وذات يوم، التقيت مع الشمسى باشا فى نادى الجزيرة، وكان رأيه أن أنتقل إلى الأهرام بأى شكل، وعرضوا على أولا أن أعمل بجانب عزيز ميرزا والصاوى (أحمد الصاوى محمد)، ولكنى رفضت، فسألنى الشمسى عن السبب، فأجبته بأن فيه مثل بالعربى يقول "المركب اللى فيه ريسين تغرق"، ولو سنكون ثلاثة فسنغرق غرقا شديدا، وأنا "مبسوط" فى أخبار اليوم، ولكن على الشمسى لم يكن راضيا عن استمرارى فى أخبار اليوم، وذات يوم وجدته يسألنى : "عمرك كام سنة بالضبط"؟ فقلت له 30 سنة و4 أشهر تقريبا، فمن الواضح أن أعضاء مجلس إدارة الأهرام وقتها اندهشوا من صغر سني.

ويواصل الأستاذ حديثه قائلا :

وبدأت أدرس الموضوع بالفعل لعدة لأسباب، أهمها أننى كنت أود الرحيل بالفعل من أخبار اليوم، ولكن على الشمسى كان محقا عندما قال لى إننى مهما فعلت فى الأخبار، فسوف أبقى الرجل الثالث هناك بعد مصطفى وعلى أمين، والحقيقة أن مصطفى وعلى كانا صحفيين "كويسين جدا"، ولكنهم مشكلتهم الكبيرة كانت فى أنهم يتنافسون مع أى محرر يعمل لديهم، فلو أحضر محرر مثلا أى خبر لم يصل إليه مصطفى، كان الأخير يضرب بقبضة يده على المكتب ويقول على الخبر "لأ .. كذب"! .. ولكنه ذات مرة ارتكب خطأ مروعا، فقد كانت هناك وقتها مفاوضات بين اللورد ستان جيت مع صدقى باشا هنا فى القاهرة، وكتبت خبرا يفيد بأن اللورد ستان جيت سيسافر فى إجازة خارج مصر، سيذهب إلى إنجلترا أولا لمدة ثلاثة أسابيع، ثم سيمضى إجازة فى قبرص، وهذا معناه أن المفاوضات ستتوقف، وهذا ما كان لايعرفه مصطفى أمين، وكان حاضرا وقتها كامل الشناوى وعلى أمين، ولأن مصطفى أمين كان مهتما بالمنافسة، فقد كانت لديه مشكلة وهو أنه لا يمكن أن يتصور أن أى محرر يمكن أن يحصل على خبر ليس عنده، ووقتها من الممكن أن يغضب ويتشاجر معه، وأذكر وقتها أن مصطفى عندما قرأ الخبر وجدته يمسك بالقلم الأزرق ويشطب على الخبر بالكامل، وقال لى بغضب "ده الخبر بتاعك"، وسألنى : "مين اللى قال لك؟"، فأجبته قائلا : ليس من المفترض أن أفصح عن مصدري، ولكنى متأكد من صحته، وعلى أى حال، لكن طالما سألتنى عن المصدر، والأمر تحرج لهذه الدرجة، إذن، على الشمسى هو الذى قال لى ذلك، ووقتها ارتكب مصطفى أمين غلطة عمره، عندما قال لى : "ما رأيك يا حضرة المخبر العظيم أننى سألت على الشمسي، فأكد لى أنه لم يدل لك بهذه المعلومة؟ قلت له : "إنت أول مرة تعرف منى إن اللى قاللى على الشمسي؟ إذا كنت أنا لسة اللى قايل لك دلوقتى إن مصدره الشمسي!"..

والشهادة لله إن على أمين انتفض لحظتها وقال له "جرى إيه يا مصطفى .. إيه ده"؟، وانطلق خلفى هو وكامل الشناوى لأننى كنت عاوز أمشي"، المهم أن على الشمسى هو الذى تحدث معى من أجل الانتقال إلى الأهرام، وعلى الشمسى كان محافظا للبنك المركزى وقتها، وكان عضوا فى مجلس إدارة الأهرام، وهو سياسى قديم من المنشئين الأول لحزب الوفد مع سعد زغلول، ولكنه "اختلف" مع الوفد الخناقة الشهيرة التى أطلق عليها اسم "خناقة ستة ونص" لأنه كان هناك سبعة أعضاء مختلفين مع بعضهم البعض، وعلى الشمسى كان قصيرا، ولذلك أطلق عليها محمد التابعى وصحف أخرى "خناقة ستة ونص".



الأهرام : أستاذ هيكل، لدى مجيئك إلى الأهرام، كان متوسط أعمار الصحفيين العاملين فى الجريدة فى الخمسينيات، وحضرتك كنت فى الثلاثين، ومع ذلك، قررت إجراء تغيير شامل فى محررى الجريدة، فقمت فى عام 1958 بضم خريجين جدد من الكليات الجامعية، وكتبت أسماءهم فى كتابك "بين الصحافة والسياسة"، وبدأت رحلة طويلة للتحديث فى الأهرام، فكيف بدأت هذه الرحلة؟

الأستاذ هيكل : المنشئون الأوائل للأهرام كانوا صحفيين حقيقيين، أما الجيل الثانى فكانوا قد ورثوا الصحافة، وهناك فارق كبير بين المنتسبين والوارثين ، فمثلا، بشاره تقلا كان ينظر للأهرام الذى يملكه على أنه "درة التاج" عنده، ولكنهم فى النهاية كانوا مهتمين بجريدة لا يقرأونها، وكانت تحقق خسائر، فقد كان هناك شبه اتجاه بأن "العيلة" لا تريد أن تنفق أموالا على الجريدة، وكانوا قد ورثوا فى ذلك الوقت بنك صباغ فى لبنان، وهذا البنك كان هو الأولوية الأساسية، أما على الشمسى فكان ضد إغلاق الأهرام، وقال "لا يمكن"، وطلب منهم أن يجربوا محاولة تجديده، وفى النهاية، مجلس الإدارة لم يكن مقتنعا كثيرا أن يأتى رئيس تحرير عمره 30 عاما.



الأهرام : إذن، كيف جاء موضوع الاستعانة بالشباب؟

الأستاذ هيكل : انتقلت إلى الأهرام عام 1957، ولم يكن متاحا أمامى تعيين أحد، لأنهم اتفقوا على عدم وجود رغبة فى إنفاق أى أموال، وأقصى شيء وعدوا به هو زيادة ما يصرف للأهرام إلى 10 آلاف جنيه شهريا لمدة ستة شهور، ولكن ما حدث أن الأهرام نجح فى نهاية سنة 1957 فى تغطية مصاريفه بالفعل، بل وبدلا من أن نخسر، ربحنا 71 ألف جنيه، وكان هذا معناه أن هناك تغييرا قد حدث.



ويواصل الأستاذ حديثه: جئنا بـ50 شابا من خريجى وخريجات الجامعات، ووقتها الأجور كانت معقولة، وكان نجاحى أنهم جاءوا بالفعل، ولكن غيرهم أرسلته من الأخبار قبلى وهم على حمدى الجمال، وتوفيق بحري، وكمال الملاخ، كل واحد منهم تولى موقعا، وكمال الملاخ تحديدا كان لديه مشروع عمل للصفحة الأخيرة، وهؤلاء ذهبوا إلى الأهرام قبلى بشهر.



الأهرام : بالتأكيد كانت مغامرة بالنسبة لك، ولكن، بالنسبة للعاملين فى الوسط الصحفي، كيف رأيت رد فعلهم؟

الأستاذ هيكل : أول شيء أنهم كانوا متعاونين معى فى كل الأمور الأساسية مثل التوزيع والمرتبات، وكان الأهرام يتمتع بالسمعة الجيدة، ولكن أصحابه لم يكونوا مستعدين لإنفاق المزيد عليه، وكان على الشمسى هو صاحب الرهان الأصلى على صحفى شاب، وأظن أنهم لم يكونوا يتوقعون الكثير من هذه التجربة، ومثلا، بشارة تقلا جاء إلى فى اليوم التالى لحضورى إلى الأهرام وسألنى "الأهرام بكرة طالع إزاي"، قلت له أنا عاوز الأهرام يطلع بكرة زى ما طلع إمبارح، لأننا كنا وقتها نوزع 68 ألف نسخة، وكنا نريد الحفاظ على القراء الموجودين بالفعل، الأوفياء للأهرام، ولم أكن أريد أن أسبب أى قلق للقاريء الموجود بالفعل، قبل أن أكسب أى قاريء جديد، فلم أكن أريد عمل انقلابات، مش الكلمات اللى تقال مثل "ثوب قشيب" ولا حاجة من دي، وهناك بعض الصحف التى تقرأ أولا بقصد المعرفة، وفى مرحلة لاحقة، تصبح قراءتها عادة، وبعد ذلك يمكن أن تصل إلى مرحلة الإدمان، وأنا كنت أريد حقا أن أصل إلى مرحلة إدمان القارئ للأهرام، بحيث يقرأه كل يوم.

ولكن المشكلة الكبرى كانت فى ضرورة العمل بالمحررين الموجودين لديك بالفعل، على الأقل فى أول ستة أشهر، كان منهم أفراد لديهم قابلية لأن يتحركوا إلى الأمام، وكان من بينهم مثلا أحمد نافع، الذى كان مركونا، وأيضا كمال نجيب، فعندما أحس هؤلاء بوجود شهية لتطوير الجريدة بدأوا يعملون بجد، وأول شيء فكرنا فيه وقتها أن المكان القديم لا يصلح، ومن هنا جاء التفكير فى المكان الجديد، وبدأنا نتكلم فى فكرة أنه "لا يوجد تاريخ بدون جغرافيا".


                         الأستاذ مع الحكيم وجان بول سارتر



الأهرام : هل تشاورت مع أحد بشأن انتقالك للأهرام مثلا مع صديقك الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى ذلك الوقت؟

الأستاذ هيكل : لا، أخبرته بعدها، بعد اتفاقى معهم، وأذكر أنه عندما تم إنشاء جريدة الجمهورية، كان فى ذهن عبد الناصر طوال الوقت أننى المرشح لإدارتها، ولكنى قدمت اعتذاري... وعندما سألنى عما إذا كنت سعيدا فى الأخبار، فأجبته بالإيجاب، ووقتها كنت سعيدا بالفعل، ولكن وقتها لم يكن ممكنا أن أعمل فى الجمهورية مع صلاح سالم كرئيس مجلس إدارة، وبعده جاء أنور السادات أيضا كرئيس لمجلس الإدارة، فقلت له إننى أفضل أن أعمل مع صحفيين محترفين، وعندما ذهبت للأهرام قال لى "بقى ما تروحش الجمهورية وأنا صاحبها، وتروح للأهرام وأصحابه تقلا"؟ فقلت له لست أنت صاحب الجمهورية، فلو كان الأمر هكذا لأصبح لدى كلام آخر، والموجود فى الجمهورية أحد المفوضين من قبل مجلس قيادة الثورة، وكان صلاح سالم، وأنا لا أريد العمل مع مفوضين، ولكن أريد العمل مع صحفيين فقط.

ولكنه لم يكن متقبلا لذلك وقتها، ولم يكن موافقا، وحذرنى من أن الجيل القديم فى الأهرام سيسببون لى مشاكل، فطمأنته بالقول إن كل ما يريده هؤلاء هو أن يروا جريدتهم تنجح، وأنا أتصور إمكانية أن نبذل الجهد سويا لكى ننجح "ها يتعبونى ليه"؟

الأهرام : أستاذ هيكل.. فى الفترة من 1975 وحتى تأميم الصحافة 1960 ما الذى اختلف فى علاقة الأهرام بالسلطة السياسية .. قبل وبعد؟

الأستاذ هيكل : خلى بالك، لما بتقول تأميم بتلغى حاجة مهمة أعتقد كان لى دور فيها، فأنت لم تخضع للتأميم، المعركة الكبرى التى كانت موجودة فى ذلك الوقت كانت بين تأميم الصحافة وبين شيء آخر سميناه تنظيم الصحافة، وكان لدينا إصرار على ذلك، وأنا فخور به، لأن التنظيم معناه أن ملكية الأصول بالجريدة بما فيها المطابع تصبح للعاملين بها، ولن تؤمم، أنا أتحدث عن الأصول... التأميم معناه أن كل شيء فى الجريدة حتى أصغر ماكينة لن تكون ملكك، بل ستصبح مملوكة للدولة، ومعظم الناس يخلط بين التأميم والتنظيم، والتنظيم هو ما أفاد الصحافة المصرية بالفعل، فلو كنا قد أممنا بالمعنى التقليدي، لما استقام الأمر، ولذلك، كان السبب فى كل المشكلات التى حدثت فى الصحف الأخرى أنهم اعتبروا أنهم خضعوا للتأميم، وأنهم أصبحوا مندوبين لصاحب رأس المال، ولكن المفهوم الأفضل أنه تم تنظيمها لصالح كل العاملين فى المؤسسة، وبالتالى لا توجد سيطرة من أحد عليها.

ويستطرد الأستاذ:

فى قانون تنظيم الصحافة، كنت أريد أن تكون علاقتنا بالنظام واضحة، وعلى أساس مكتوب، فما هى المرجعية، المرجعية هى أن الرخصة تكون ملكا للاتحاد الاشتراكي، هذا صحيح، وأن تكون ملكية كل أصول الجريدة لمجموع العاملين بها، والسياسة التى التزم بها فى ذلك الوقت هى ما ينص عليه الدستور والميثاق، وأنا أعتبر هذا من أفضل الأشياء التى قدمتها كخدمة لمهنة الصحافة، التنظيم وليس التأميم، فالاتحاد الاشتراكى يملك الرخصة، والصحفى يدير وأنا مثلا كنت مستعدا لتقديم مقابل مادى للرخصة، ودفعنا له بالفعل هذا المقابل لمدة سنتين، ولكن بعدها توقفنا.



                هيكل يشرح لناصر والسادات خطوات انتاج الأهرام

 


والفارق بين تنظيم شيء وتأميمه قضية كبيرة، وإلا لكان الاتحاد الاشتراكى قد "طاح" فى كل شيء وقتها، الاتحاد الاشتراكى لم تكن له علاقة بي، ولكن علاقتى فقط كانت بالميثاق والدستور.

الأهرام : هل لهذا السبب، كتبت تسع نقاط عبارة عن فلسفتك للتغيير ونشرتها فى الأهرام وقتها، وكان من بينها التصرف على أساس ملكية الجماهير للصحافة وليس ملكية مجموعة من الأفراد يجلسون فى الاتحاد القومي، ماذا كنت تقصد بذلك؟

الأستاذ هيكل : بوضوح، لكى أحدد طبيعة العلاقة بيننا وبين الاتحاد الاشتراكي، أو الاتحاد القومى وقتها، وهى كما قلت : هو يملك الرخصة، وأنا أؤجر منه هذه الرخصة... فالجريدة فى النهاية للعاملين بها، وليس له، هذا هو الفارق، لو كان تأميما صريحا لم يكن من الممكن أن نتخلص من تدخل الاتحاد الاشتراكي، لكننا فضلنا التنظيم، بمعنى أن المهنة تنظم نفسها.



الأهرام : هذه الصيغة ربما ساعدت فى حماية الأهرام من مشكلات كثيرة، ولكن فى الصحف الأخرى مثل الأخبار والجمهورية، أعتقد أن الوضع لم يكن سهلا، هل الفارق هنا هو وجود حضرتك فى الأهرام؟

الأستاذ هيكل : تستطيع أن تقول إننى استطعت أن أضع مشاكل المهنة أمام عبد الناصر، ولكن كان رأيى بوضوح يقوم على أساس أنه لا يجب ألا يتدخل الاتحاد الاشتراكى عندى طالما أنا ملتزم بالدستور والميثاق، لأنه لو تدخل حكوميا لفقد قيمته بالكامل، وقد عانينا بالفعل بعد صدور قانون تنظيم الصحافة من أن الناس فى الخارج تصوروا أن هناك تأميما، وأن هناك تدخلا كاملا فى شئون الصحافة، وكانوا يعتقدون أن كل رأى أكتبه هو أمر متفق عليه.



الأهرام : هل يمكن القول إن رؤساء التحرير فى الصحف الأخرى فى ذلك الوقت هم الذين أمموا الصحافة؟ هل تصرفاتهم هى التى أممت الصحافة؟

الأستاذ هيكل : ما حدث هو أن المندوبين اخترقوا الصحف، مثلما أصبح عضوا من مجلس قيادة الثورة وهو صلاح سالم مشرفا على الجمهورية، فلماذا يذهب، وماذا تنتظر منه أن يفعل؟ بالتأكيد ذهب لكى يعطى الأوامر، وهو لا يعرف المهنة، ويريد تأييدا فجا، بينما الأصل أن تقول لى أن أفعل كما أريد، وبعد ذلك يمكن أن تلومنى على أى شيء، فقد قبلت الالتزام بالدستور وبالمهنة.. ويمكنك أن تحاسبنى إذا خرجت عن هذه الحدود، أما عدا ذلك، فلا سلطة لك علي، إلا إذا جئت إليك طالبا مالا، فأنا لا أطلب مساعدات، وكما قلت، فالأهرام بعد ستة أشهر من التجربة الجديدة حقق أرباحا قدرها 71 ألف جنيه، وفى السنة التى تليها تحققت أرباح بلغت مليونا، وهكذا، فمتى إذن تتدخل الدولة فى عملك؟... تتدخل عندما تمد يدك إليها وتطلب منها شيئا، والدليل على ذلك أنه عندما اشتكى على صبرى الأهرام للرئيس، أجابه عبد الناصر قائلا : والله، هيكل لم يطلب منى شيئا على الإطلاق، ولا يوجد مليم واحد دخل الأهرام من الدولة، حتى فى الفترة الأولى.

ولكى أكون عادلا، فأولئك الذين كانوا موجودين منذ أيام تقلا ومدير الإعلانات وقت تنظيم الصحافة كانوا من أحسن الناس، لكن كانوا ناقصين دعم، الذى كان مهتما أكثر من غيره هو جبرائيل باشا، ولكن بعد وفاته، لم يعد أحد مهتما، وأنطون باشا كان مهتما بـ "تصحيح المادة التحريرية" أكثر، لكن جبرائيل كان مهتما بالإدارة، وأنطون باشا اعتاد على الحضور إلى مقر الجريدة فى الساعة الخامسة بعد الظهر، وكان يرتدى الأكمام السوداء، وتأتى إليه بروفات الجريدة، وطالما أن رئيس التحرير يذهب إلى مقر الجريدة الساعة الخامسة، فهذا معناه أن الجريدة تكون قد تشكلت بالفعل، وأنا أتصور أن رئيس التحرير يجب أن يكون أول شخص يذهب إلى الجريدة، لأن هيئة التحرير لابد أن تأتى إليه وهو موجود، ويكون لديه تصور لما سيفعله فى الجريدة التى ستصدر فى اليوم التالي.



وكان يوجد قبلى ناس أكفاء موجودون فى الجريدة، ولكن كانوا جميعا فى حاجة لمن يوظف كفاءتهم... لقد استمروا أوفياء للأهرام، وبعد ذلك يمكن أن تستعين بالشباب طبعا لتحدث حيوية فى الجريدة، فلا يوجد شيء يتغير بمغامرة، ولكن كل شيء يجب أن يتغير تدريجيا، لا يوجد شيء اسمه إحداث انقلاب فى جريدة كبيرة كالأهرام، ولم يحدث هذا فى أى جريدة كبيرة أخرى على مستوى العالم، لا يحدث هذا مثلا فى اللوموند.



الأهرام : كم كان عدد الصحفيين وقتها؟



الأستاذ هيكل : 58 صحفيا تقريبا. والإعلانات كانت خارج هذا العدد، وكان بها عدد أكبر من ذلك، لأن الأهرام لديه كنز فى الواقع يستطيع أى رئيس تحرير الاعتماد عليه، وهو: الوفيات والإعلانات المبوبة، فالوفيات كانت قوية جدا، والفضل فيها يعود لجبرائيل تقلا، فقد كان يريد أن يقنع الناس بفكرة أن من لا ينشر اسمه فى الأهرام، لا يصبح متوفيا، وكان تفكيره خلاقا، وعلى الرغم من أننى لم أعمل معه، فإننى شاهدته كثيرا وهو يعمل، وكان أحيانا يأتى إلى الجريدة فجرا بـ "السموكينج" وينزل إلى المطبعة، وعلى الرغم من أن البعض يرى أن هذا لا يكون مفيدا، فإن فكرته هو أنه كان يريد أن يطمئن، وكان نجيب كنعان هو الذى يقوم بتجهيز البروفات له لينظر فيها.


 

         اجتماع مجلس تحرير الاهرام بقيادة هيكل بمبنى مظلوم



الأهرام : إذن، قمت بالتطوير من اليوم الأول؟

الأستاذ هيكل : ليس من اليوم الأول، بل إن أول شيء أردت القيام به هو ألا يهرب منى قارئ الأهرام القديم، لأن الأهرام لو أصبح عادة عند الناس، لا يجب أن أربك القارئ وما اعتاد عليه.

وكانت هناك عناصر جيدة قبل أن أحضر إلى الأهرام، مثل كمال نجيب ونجيب كنعان وممدوح طه، وهؤلاء كانوا فى حاجة فقط إلى بعض التشجيع إلى أن تبدأ فى الاستعانة بمحررين جدد، وبعد ذلك، أحضرنا خمسين محررا، وكان منهم صحفيون متميزون.

لقد كانت تجربة مثيرة، وعدد كبير منهم ظهروا، وأذكر أنه فى أول شهر لى هناك، كان لدى نجيب كنعان معيار واحد فقط فى العمل، وهو أن أنطون باشا لم يكن يفعل هذا، وذات مرة، قلت له: اسمع أنطون باشا مات وأنا المسئول، ولا أحب أعمل الحاجات المسرحية دي... هلكنى أنطون باشا، ودى مشكلة الجرايد القديمة، مش فى الأهرام بس، حتى التايمز كان فيها كده، دينيس هاملتون كان دائما يشكو لى من أن مدير التحرير عنده يقول له إن ويليام هيلى لم يكن يفعل هكذا، فأنطون باشا كان رجلا مداوما بصرامة.

إذن، الأهرام أصيب مع الأسف الشديد بحالة تصلب شرايين بعد جبرائيل تقلا، فجاء أنطون باشا، وبعده جاء عزيز ميرزا والصاوي، وعندما صدرت جريدة المصرى عام 1936 كان هذا تحديا للأهرام، وكذلك الأخبار كان تحديا كبيرا، وكان يجب للأهرام أن يتغير، وينافس، ولكن بدون أن يغير طابعه، لأن هناك تصورا مستمرا أنه لكى تكون جادا يجب ألا تكون جذابا.



الأهرام : الفترة التى كنت موجودا فيها على رأس الأهرام شهدت نقلة نوعية ومهنية على أعلى مستوى، السؤال هنا من شقين : الأول : كيف كان تأثير النقلة التى حدثت فى وجودك على آليات المنافسة مع الصحف الأخرى بعد أن أصبح للأهرام شكل متميز عن باقى الصحف، بمعنى آخر، كيف كانت باقى الصحف المصرية الأخرى تتنافس مع الأهرام؟ والشق الثانى : كنت حريصا على الانفتاح على العالم الخارجى والتواصل معه، وعلى الاستفادة من التجارب الموجودة فى العالم، كيف أثر ذلك على مستوى الأهرام؟

الأستاذ هيكل : الصحافة فى العالم كله لها معايير لا أحد يستطيع أن يتجاوزها، فأنا فى حاجة إلى قارئ جيد كل يوم، وأستطيع أن أطمئن لوجوده معى بشكل أكبر، وأن تكون علاقته معى إجمالا علاقة ثابتة فى حياته، لا أن يشترى الجريدة اليوم وينسانى غدا، وكانت قضيتى دائما هى : كيف يمكن أن أصل بالقارئ إلى أن تكون علاقته بالجريدة ليست مجرد عادة، ولكن عادة مفيدة تنتقل إلى إدمان، أى أن يرى الجريدة ويجد فيها فائدة لحياته، فهاذ كان الهدف منذ البداية، ولكى أكون عادلا، هذا الأمر استغرق منى وقتا طويلا، وشارك فى صنعه أشخاص كثيرون.

فمثلا هنرى بحرى قام بدور كبير جدا فى الأهرام، لأنه استطاع أن يقوم بعمل توضيب الجريدة كما طلبته منه بالضبط، وكنت قد طلبت منه شكلا للصفحة الأولى يجمع بين القديم والجديد معا، وهذا تحد مزعج، وكنت فى حاجة بالفعل إلى شكل جديد يدفع أى قارئ إلى الإقبال عليه، وأظن أننا قمنا بأشياء أخرى مهمة، مثل أن تأتى بتوفيق الحكيم ولويس عوض ونجيب محفوظ وحسين فوزى ليكتبوا فى الأهرام، فهذا يصب فى صالح التحرير، ويمنحه حيوية وسمعة ومكانة، وكنت أريد ممن يمسك بالجريدة أن يجد فيها كل ما له قيمة فى الحياة الثقافية المصرية، وكانت هناك مدارس كثيرة أيضا، حسين فوزى مثلا كان "قضية"، وتوفيق الحكيم كان كذلك، ولويس عوض كان "مشكلة"، فكمية التنوع فى الأهرام فى ذلك الوقت كانت كبيرة جدا.




الأهرام : وهل كانت مهمة ترويضهم - إذا جاز التعبير - سهلة عليك .. أقصد بعد أن استعنت بقامات كبيرة جدا، كيف كان التوفيق فيما بينهم بما يصل لتحقيق مصلحة الأهرام؟

الأستاذ هيكل : إذا نظرت إلى الصحافة فى العالم كله ستجد أنها مهنة لها قواعد ثابتة، وأعتقد أننا استفدنا جدا من تجربة لوموند فى فرنسا وكانت التجربة الأفضل بالنسبة لى مزيجا من اللوموند والتايمز والتلجراف، ففى ذلك الوقت كنا نقدم خليطا من نماذج موجودة، ولم نكن نخترع، ولكن يوجد جزء كنا نضيفه سواء بالاختراع أو بالتجربة، وكنا نرى المعمول به على مستوى المهنة فى العالم ونأخذه بأهتمام، ولكن ما فعلناه فى ذلك الوقت بشكل جيد للغاية بالفعل هو أننا كانت تربطنا صلات مباشرة وعضوية مع كل صحف العالم، ومن بينها التايمز مثلا، أو التلجراف، ولا أنسى أبدا إطراء دينيس هاملتون رئيس مجلس إدارة التايمز الذى لم أسمع إطراء مثله، فقد علمت أنه بعد ما كان معنا فى الأهرام، ذهب إلى بلاده وقال فى إجتماع مع محرريه : من أراد أن يتعلم التواضع فليذهب إلى مصر ليرى ما تفعله الأهرام، وشعرت وقتها بأن كلامه كان رائعا، ومن روى لى هذه الحكاية كان تيد هوتشكينز محرر القسم الخارجى فى التايمز، وقال لى وقتها إن هاملتون أعطانا درسا عن الأهرام.

وأظن أن هذه القصة إجابة عن سؤالك، وهكذا، فإن مستوى المهنة كله فى العالم أمامك، ولا توجد مهنة فى الدنيا تعمل بشكل مكشوف مثل الصحف، لأنك تريد أن تصل إلى الجميع دائما، فكيف يمكن أن تصل إلى الجميع حقا إذا لم تكن منفتحا على الجميع، والحق أننا يجب أن نشهد بأنه كانت فى ذلك الوقت تجارب، فكانت هناك صحف مهمة جدا، وكانت تجدد نفسها، مثل صحيفة يوميورى شيمبون اليابانية التى عملت على التوازى تقريبا على صعيد انتقال ملكيتها مع تقديم عمل جيد وتطوير نفسها، والتايمز أيضا قامت بعمل جيد وانتقلت ملكيتها إلى تومسون، واختاروا هاملتون رئيسا لمجلس الإدارة ، فالصحافة فى العالم كله كانت تتطور فى ذلك الوقت، والسبب أن الحرب العالمية الثانية كانت قد انتهت، وكان لزاما تغيير شكل الصحافة فى العالم كله، وليس عندنا فحسب، فكانت الصحافة فى العالم تنتقل من قصص الحرب إلى قصص أخرى ذات طابع مختلف.




الأهرام : فى إطار الحديث عن الانفتاح على الصحافة العالمية، وجدنا أن المنافسة بين الصحافة المكتوبة والوسائل التكنولوجية الحديثة أثرت كثيرا على الصحافة المكتوبة لفترة، ثم بدأت تجارب النشر الإليكترونى للصحف تواجه إخفاقات فى بعض الدول، فى ظل هذه التغيرات، ما هى رؤيتك لمستقبل الصحافة المكتوبة؟

الأستاذ هيكل : فى بداية الثورة الإليكترونية، كل الناس "اتخضت" على الصحافة المكتوبة، وأذكر أننا ناقشنا هذا الموضوع فى الأهرام مع رئيس تحرير اللوموند، فى الاتصالات والتواصل بالصحافة فى الخارج يجب أن تكون موجودة، وطبعا سياسة البلد وقتها كانت تساعد على ذلك، لأن سياسة مصر كانت بشكل أو بآخر تقود العالم الثالث فى آسيا وأفريقيا، وكان يوجد تشجيع لهذا الدور، لا أقصد التشجيع المادي، ولكن تشجيع للصحافة بشكل عام، فمثلا عندما كان يأتى ضيف مثل رئيس تحرير اللوموند ليزور مصر، كان عبد الناصر يلتقى به فى أول يوم لوصوله، وكذلك، الهندى كرانجيا، وهاملتون، ووالتر ليبمان وجيمس رستون، وربما كان من باب الصدفة أنه كانت لدينا قدرة على الوصول إلى رئيس الدولة وقتها، ولكن فى أى حال، فلا يعقل بأى حال من الأحوال أن يزور رئيس تحرير اللوموند أو التايمز مصر مثلا، ولا يقابله رئيس الدولة، ولذلك، أعتقد بأن جزءا كبيرا من نجاحنا فى ذلك الوقت هو أن الأهرام كان جزءا من الحركة العالمية، فلا أحد يعمل بمفرده، وكله يجب أن يعمل على أساس أنه جزء من مجتمع عالمى للإعلام، وبعد ذلك، مكانة البلد كلها تراجعت بشكل أو بآخر، ويجب أن نسلم بهذا لظروف كثيرة جدا، بعكس الفترة التى كنت فيها، لأننا كنا محظوظين بوجودنا فى قلب العالم الثالث.




الأهرام : كيف استطعت أن تجعل من الأهرام صحيفة رسمية وغير رسمية فى وقت واحد، وصحيفة ذات مصداقية شعبية أيضا؟

الأستاذ هيكل : شعار صحيفة نيويورك تايمز فى ذلك الوقت كان واضحا، وهو : Newspaper is a newspaper، يعنى ورقة أخبار، وإذا قدمت صحيفة لشيء آخر غير الأخبار، فهذا كلام فارغ، لأن كل الناس فى حاجة لمعرفة الأخبار، الرأى "على عينى وراسي"، لكن المشكلة عندكم فى المقام الأول هى إما غلبة التوجيه السياسى وإما غلبة الرأي، وهذا غير صحيح فى رأيي، فأول شيء يجب الاهتمام به هو الأخبار، وأى جرنال قائم على الأخبار، يعنى أولا : الخبر، وثانيا : شرح هذا الخبر بما فيه من تفاصيل وتحليل، وثالثا إمكانية التعليق عليه، ولا يوجد شيء رابع.



الأهرام : ولكن، فى ظل الثورة التكنولوجية التى نعيشها، وفى وجود الإنترنت، يبدو الخبر بالنسبة للصحافة الورقية غير ذى أولوية، لأنها غير قادرة على المنافسة مع سرعة الوسائل الحديثة؟.

الأـستاذ هيكل : أنت لا تستطيع التنافس مع ظاهر الخبر، لأنه متاح فى الوكالات والإذاعات والصحف الأخرى، ولكن فى حقيقة الأمر، يجب عليك أن تذهب إلى حيث لا تستطيع الكاميرا أن تذهب، إلى عقل المصادر، إلى تفاصيل الخبر... من قال ماذا، وفى أى وقت، وبأى وجه، وبأى إشارة، وبأى حميمية، هذه هى تفاصيل الخبر، ثم تحليل الخبر، ثم التعليق عليه، فهذا هو أساس تميزك عن أى وسيلة أخرى، والورقة المكتوبة لا تزال هى الشيء الثابت الذى تستطيع أن ترجع إليها، بينما التليفزيون يقدم صورة عابرة مرت عليك وذهبت، وهذا ما يمنحنا ضمانا لاستمرار الصحافة الورقية، كما أنها استفادت أيضا من الوسائل الجديدة، أكثر مما تأثرت، لأنها قد تفتح الباب أمام ممكن تفتح الباب لتحليل الخبر، ولذلك لاحظت شيئا غريبا هو أن كل الصحف التى تعتمد على "الكواليتي"، أو جودة العمل، ارتفعت أسهمها، بينما تلك التى تعتمد فقط على الإثارة تراجعت... الـ"ميل" مثلا نزلت من 5٫5 مليون إلى 2٫3 مليون نسخة، بينما التايمز زادت عما كانت عليه، والتلجراف هى النموذج الرائع لزيادة التوزيع نتيجة زيادة الجودة.

ويكمل الأستاذ:

السياسة هنا لعبت دورا كبيرا، كل الدول ليس لديها استعداد لدعم الصحافة، وقيمتك الأساسية أن تستغنى عن الدولة، وإذا كنت تريد الاستقلال عن سياسة الحكومة، يجب عليك أن تعتمد على نفسك، فلا يمكن أن تتوجه إلى الدولة لتأخذ منها، ثم تنتقدها، فأول شيء مطلوب من الجريدة هو الاستغناء، الاستغناء المالى عن الدولة، وكذلك الاستغناء عن طلب الإعفاءات، والقضية هنا هى : من يحتاج الآخر أكثر؟ فلابد للصحافة أن تشعر الدولة بأنها هى التى تحتاج إلى الصحافة، ومهما كان لدى الدولة تليفزيون يؤثر، فهو فى النهاية يؤثر فى المزاج العام سريعا، بينما الصحافة تؤثر فى الاتجاه العام، وتولد قناعات لدى الناس، عبر الإلحاح على أفكار معينة، بعكس التليفزيون ذى التأثير السطحي، فما زال للكلمة المكتوبة زخم، ويمكن العودة إليها فى أى وقت.

وهنا أقول إن هناك من كان يخشى على الصحافة الورقية من التليفزيون، ولكنى لم أكن أشعر بنفس القلق مثل آخرين، ولذلك، فقد وضعت فى الأهرام كتابا مثل توفيق الحكيم وحسين فوزى ولويس عوض لكى تثبت اعتياد ودخول الناس للأهرام بأن تضع لهم القيم الثقافية والفكرية والفنية التى لا يمكن منافستها، بجانب الأخبار التى يمكن المنافسة فيها، فلا يوجد لدينا اثنان مثل توفيق الحكيم، أو اثنان مثل حسين فوزي، أو اثنان مثل أحمد بهاء الدين، فهم أشبه بالمسامير التى تثبت بها القاريء.



الأهرام : ارتبط الأهرام منذ نشأته بالإعلانات، واستمر هذا حتى الآن، فكيف كانت نظرتك للإعلان، وللعلاقة بين الإعلانات والتحرير فى الفترة التى توليت فيها الأهرام لمدة 16 عاما ونصف العام؟



الأستاذ هيكل : الأهرام كان به ميزة واحدة لا تتوافر لغيره من الصحف، وهى ميزة استطاع جبرائيل تقلا أن يثبتها، وهى الوفيات والإعلانات المبوبة، وبالنسبة للوفيات، أعتقد بأنها من أهم الأمور التى أنجزها تقلا فى الأهرام، لأنها تستجيب لاحتياجات كثيرة جدا موجودة فى المجتمع المصري، فكل منا يريد أن يعرف "ده قريب مين وابن خال مين"، ومن تنبه إلى ذلك كان جبرائيل تقلا، رغم أنه لم يكن صحفيا محترفا، ولكنه كان يذهب إلى فرنسا باستمرار، وكان منزله فى مكان غريب، يقع أمام مبنى جريدة اللوموند مباشرة، وكانت لديه مصالح كثيرة للغاية، ولكن الأهرام كان من الأشياء المميزة بين مصالحه كلها، بعكس أنطون باشا، فأنطون أعطى الأهرام احتراما، وكان مكتبه يشهد كل مساء التقاء جميع السياسيين فى مصر، وكان المكتب أشبه بالمقهى الذى يمكن أن ترى فيه كل الشخصيات.

وهناك أمر آخر، وهو أن التوزيع يمكن أن يقل مثلما حدث بالفعل، ولكن الطلب كان دائما واضحا فى عدد قراء النسخة الواحدة، وهذه تعد من أهم المؤشرات، فالتوزيع وحده ليس هو المهم، ولكن أيضا عدد قراء النسخة الواحدة، لأن هذه هى الطاقة القرائية التى تستطيع أن تبلغها، فالنسخة الواحدة يمكن أن يقرؤها الناس عند الحلاق أو على المقهى، دون أن يشتروها، وفى بعض الأوقات يكون هناك 8 قراء للنسخة الواحدة، وهو ما يعنى أن التوزيع لو 100 ألف نسخة فهذا يعنى أن هناك 800 ألف فرد مستعد لشراء الجريدة لو توافرت ظروف معينة، وهذا هو المخزن الذى تلجأ إليه، فكيف يمكن أن تحوله من مجرد قاريء إلى قاريء ومشتر فى آن واحد.



الأهرام : أستاذ هيكل، لك تجربة رائدة فى إرسال عدد من صحفيى الأهرام إلى دول كثيرة فى الخارج؟ ما هو العائد الصحفى والمعنوى والسياسى الذى تحقق من جراء هذه السياسة فى ذلك الوقت؟



الأستاذ هيكل : عائد كبير جدا، لكن انتبهوا.. سياسة المكاتب كلها انتهت بالنسبة لكل صحافة العالم، وليس بالنسبة لنا فقط، وجميعنا أصبح فى حاجة إلى الصحفى المتحرك، والقضية الأساسية الآن هى كيف تجعل لجريدتك وجودا ثابتا فى كل مكان بدون أن يكون هناك رسوخ فى المكان، أنا كانت لى رغبة فى الصحفى المتحرك، أى ينتقل من مصر، ليغطى الأحداث، ولكنى اكتشفت عندما تسلمت رئاسة تحرير الأهرام أن مكاتب الأهرام مهمة لأنها كانت بتخدم مدام تقلا، وكانت لدينا فى باريس مثلا شقة فى الشانزليزيه أمام مقهى "فوكيت"، وكانت جميلة وفسيحة، وفى غيابها كان المراسل لايذهب المكتب، فى وجودها، لم يكن يقترب منها.




الأهرام : هل كنت تتصور أن تعود إلى الأهرام من جديد؟

الأستاذ هيكل : أبدا .. لست من أنصار الوجود فى مكان رحلت عنه، وقد تصالحت مع السادات بعد فترة، وقال لى "اتفضل ارجع الأهرام"، قلت له "مش راجع الأهرام"، وهوه اتخض، وكان سيد مرعى معانا، وكنا فى ميت أبو الكوم، وكان السادات متصور إن كل القتال والخناقة كلها إنى أرجع الأهرام، واعتذرت لأن التاريخ لايكرر نفسه ودوراته فى المرة الأولى هى القاعدة دواما والعودة مرة أخرى مهانة يصعب قبولها ولو عدت إليها فأنت شبح باهت لما كنته ذات يوم، لأنك ستظل خائفا من أى وشاية ومن كل همسة، وستبقى قلقا، وطالما أنها حدثت معك مرة، فمن الممكن أن تحدث مرة تانية، لذلك، إذا خرجت من مكان لا تفكر فى العودة له، وإلا سترجع شبحا غير موجود بقوة كما كنت، ومن الممكن أن تعود بأى صورة أخرى، ككتابة مقال من خارج الجريدة.



الأهرام : السنوات الخمس التى أعقبت خروجك من الأهرام شهدت حالة اضطراب...

الأستاذ هيكل : طبيعى بعد أن استمررت رئيسا للتحرير لمدة 17 سنة أن يتأثر كل شيء، وذلك بعد أن خرجت مجموعة القيم والنظم التى كانت تحكم المكان.



الأهرام : ما هى اللحظات الأكثر حرجا من 1957 إلى 1974، فترة توليك رئاسة تحرير الأهرام؟

الأستاذ هيكل : كان فيه باستمرار عنصر محرج طوال الوقت، وهو علاقتنا بالاتحاد الاشتراكي، وأنا أعتقد بأنها علاقة كانت تسبب لجمال عبد الناصر حرجا شديدا، لأن على صبرى كان موجودا فى الاتحاد الاشتراكي، وأنا موجود فى الأهرام، واحنا الاتنين قريبين منه على نحو ما، هو من ناحية التنظيم، وأنا قريب من الناحية التانية، ولم أسمح للاتحاد بالاقتراب من الأهرام رغم أنه كان متغلغلا فى كل الصحف، وأذكر جيدا وهذا ثابت عندكم فى المحاضر أننى قلت لهم إنى أعرف 17 محررا على صلات بجهات خارجية، وأعطيتهم مهلة ثلاثة أشهر لكل تنقطع هذه العلاقة، وكان لدى الوثائق الخاصة بهم، وقلت وقتها "مش عاوز مندوبين من هذه الجهات لدى الأهرام، ولكن أريد مندوبين للأهرام فى هذه الجهات".

وأتذكر موقفا حدث من سعد زايد محافظ القاهرة الأسبق، حيث كان قد قام ذات مرة بطرد فؤاد سعد محرر الأهرام من المحافظة، وقلت وقتها "مش ها نبعت مندوب تانى للمحافظة"، و"مش ها ننشر حاجة عن المحافظة ولا اسم المحافظ"، والمحافظ لم يتعامل مع هذا الأمر بجدية فى باديء الأمر، ولكن عندما وجدنا نطبق ذلك بجدية، ولم ينشر له الأهرام أى خبر لمدة أسبوعين أو ثلاثة، ذهب إلى الرئيس ليشكو له، فقلت للرئيس إن السبب هو أن المحافظ قال لمندوب الأهرام فؤاد سعد لا تحضر إلى المحافظة وأهانه، فأى سلطة تجعله يفعل ذلك؟ وهنا أذكر حكاية للملكة فيكتوريا، ففى إحدى المرات، تعرض قنصل بريطانيا للخطف والقتل فى بوليفيا، فجمعت الملكة مستشاريها، وكان من بينهم دزرائيلي، وقالت إن أسطول بريطانيا يجب أن يضرب بوليفيا، فأصيب مستشاروها بالحيرة، وقالوا لها "يا جلالة الملكة .. بوليفيا ليس لها شاطيء على الخريطة" (دولة داخلية)، فجاءت الملكة بالخريطة وبمقص، وقامت بقص بوليفيا من على الخريطة، وقالت:

No more Bolivia، أى لن تكون هناك بوليفيا بعد اليوم! وما فعلناه أننا قلنا إن محافظة القاهرة غير موجودة طالما بقى فيها سعد زايد، وبعد ذلك، جاء ليعتذر، واعتذر لفؤاد سعد أمام نفس الموظفين الذين أهانه أمامهم، قد رفضت أن يعتذر له فى حجرة لا تجمع سواهما.



الأهرام : هذه الأيام يكمل الأهرام 140 عاما على إنشائه .. كيف ترى الأهرام بعد 140 سنة، وماذا تتمنى له؟

الأستاذ هيكل : أولا، هناك معجزة البقاء لمدة 140 عاما، وهذه يشهد لها كل الناس بأمانة، سواء أجادوا أو لم يستطيعوا، فتشهد لهم أنهم حافظوا على وجود الأهرام، ولا يوجد أى جريدة فى العالم العربى كله أكمل هذه المدة، أما ثانيا، فأنا أعتقد بأن كثيرين ممن عملوا فى الأهرام نجحوا فى ترسيخ فكرة أن الأهرام احتياج يومى لدى الناس، وبالتالى ضمنوا له البقاء، وكل هذه المحاولات عملت للأهرام طابعا خاصا، يعنى رغم أن فيه ناس تعسفوا فيها زى نجيب كنعان مثلا، فلازم نسلم إن ده كان فيه جانب إيجابي، لأنه حافظ على حد أدنى من مستوى الأهرام، وحتى فى مرحلة الجمود احتفظ الأهرام بشيء ما، وأصبح كل من يأتى يستطيع أن يبنى على ما فات، فيجد لديه جريدة لها سمعة وقدر معين من المصداقية، وإذا جئت وعززت هذه السمعة بما يليق بها وإذا عززتها بزيادات أو إضافات أخرى، ستنجز أشياء رائعة، فالمؤسسات على خلاف البشر، كلما ازدادت عراقتها كلما ازدادت قوة.



الأهرام : .. القاريء العربى : لأى درجة كان يشغلك، وكيف كان يصل الأهرام للجمهور العربي؟

الأستاذ هيكل : باستمرار كان لدينا أصول تاريخية تساعد على ذلك، لأن أصول مؤسسى الأهرام كانت من الشام، وبالتالى كان لدينا جمهور بالفعل فى مكان آخر خارج مصر، وإذا تابعت حركة اشتراكات الأهرام فى الخارج، فستجد أنه كان لدينا الكثير من الاشتراكات من جانب عرب المهجر من سوريين ولبنانيين، أى أن التأثير موجود منذ الساعة التى ولد فيها الأهرام، وهذا من حظ الأهرام، أن يكون المنشيء الأساسى له من الشام، وأن يكون العمود المؤثر فى التحرير هو مصر، فالأهرام بذلك نجحت فى الجمع بين الإثنين، وهذه صيغة عبقرية لم تحدث من قبل فى أى مكان آخر، لأن الأخبار بالدرجة الأولى كانت جريدة مصرية، والمقطم كانت لديها نفس الميزة، لكن لم تحقق شيئا، وكنا جريدة "القطرين" كما قال خليل مطران، أى مصر والشام.



الأهرام : كيف ترى السنوات المقبلة للأهرام، وبماذا تنصح؟

الأستاذ هيكل : لا أحب أن أنصح بشيء، فلابد أن تجارى كل عصر، وميزة الجريدة أنها "سجل" للعصر الذى تعيشه، فلابد أن تتأقلم باستمرار مع ما حولك، وأن تكون موجودا ومتعايشا، وأى جرنال هو ظاهرة مواكبة لعصره لا يبتعد عن العصر، ولا يسبقه أيضا، بل يستطيع أن يتوقع أو يتنبأ بناء على شواهد، ولكن "جرنال مالوش دعوة بمجتمعه ما ينفعش"... ولهذا "المقطم" اندثر تماما، لماذا؟ لأنه بقى على حالته التى كان عليها أيام عائلة نمر، وميزة الأهرام الحقيقية أن جبرائيل تقلا كان فى الثلاثينيات عندما جاء إلى الأهرام بدأ سياسة التمصير، وجبرائيل تقلا فى رأيى كان من معالم الأهرام.

الأهرام : أخيرا الأستاذ هيكل .. كيف تتعامل مع النقد الذى قد يوجه إليك؟ هل تهتم بمتابعته؟

الأستاذ هيكل (ضاحكا) : فيه نقد وفيه شتيمة، للأسف احنا فى مصر ما نعرفش ننقد النقد بمعنى التقييم، إنت أمامك إما مشاغبات أو شتائم.... ولم يحدث أن نجح أحد فى أن يستدرجنى لكى أرد أبدا، ودائما أدعه يقول ما يريده، فلست معنيا به، أو قد أقرؤه وأراه، لكن أعتبر أنه لا يخصني، والله لو كان الكلام عن الأستاذ هيكل أقول : يبقى ده بيتكلم عن الأستاذ هيكل مش أنا!.

ولا أظن أن هناك أحدا فى تاريخ الصحافة المصرية كلها تعرض للمدح كما مدحت أو للشتم كما شتمت، لكن طبائع السياسة فى العالم الثالث وطبائع المصالح والأجواء نفسها الموجودة، وتخلف الحياة السياسية، كلها أمور لا تجعل هناك فرصة للخلاف فى الرأي، وأحيانا لا أجد من يخالفنى فى الرأي، ولكن الكلام كله يكون فى زاوية واحدة، فيقال هذا رجل سيىء، يا أخى بلاش صفات، قل لى لماذا أنت مختلف معي، وفى أى النقاط بالضبط، لكن الشتائم لا تضايقني!.



الأهرام : هناك حالة "الكوزموبوليتان" فى مصر منذ بداية القرن العشرين، كيف أثرت على الصحافة؟

الأستاذ هيكل : أنا معترض على "الكوزموبوليتان"، لأنها تساوى "بزرميط"!.... اصنع خليطا ثقافيا كما تريد، ولكن أخطر شيء فى الجريدة هو أن تصنع كوزموبوليتان، فبهذا تنفصل عن قاعدتك الأساسية، وأنت بذلك تتحدث تقريبا عن مجتمع "المنافي" الموجود فى كل بلد، ولكننى أتكلم عن العنصر الأجنبى المقيم فى البلد، فهو جزء من التركيبة الوطنية، وحدث فى مرحلة معينة، واقتضته أوضاع معينة، هو أن مؤسسى الأهرام جاءوا فى خدمة بلاط محمد علي، زى شقير الكبير، كان باشكاتب إسماعيل باشا.



الأهرام : من هو الشخص الذى كنت مهتما بأن تعرف رأيه فيما تكتبه؟

الأستاذ هيكل : القارئ... أنا بالدرجة الأولى مش كاتب، ولكن "ريبورتر" - صحفى - لأن هذا المسمى مختلف تماما، فالكاتب يقوم بكتابة فكرة معينة مترسخة وموجودة، ويعبر عنها باستمرار، ولكن الصحفى يجرى وراء الأحداث طوال الوقت، وأعتقد أنه لكى تكون لنا فائدة، لابد أن نكون صحفيين، أى نكون مواكبين للأحداث، فلا يمكن أن أعبر عن رأيى فقط، وإذا أردت أن أعبر عن رأيي، فالأفضل لى أن أعبر عنه فى مكان آخر بالجريدة، فى صفحة رأى أو فى أى شيء آخر، ولكن الباقى كله يجب أن يكون أخبارا، والعالم كله كان متجها فى ذلك الوقت فى هذا الطريق، ونيويورك تايمز سبقتنا كلنا بشعار "ذا نيوز ذات فيت تو برينت"، أى كل الأخبار التى يمكن طباعتها، والخطأ الذى يرتكبه البعض هنا وفى العالم أيضا هو أنهم ينسون أحيانا أن الجريدة عبارة عن ورقة أخبار، وبدون أخبار، لا توجد جريدة، ضع ما تشاء من الآراء، لن تكون مقروءا، وأهم شيء فى رأى أى صحفى أن يكون معبرا عن تيار أكبر منه، وليس عن نفسه فقط، والقضية قضية أنك يجب أن تأخذ الأخبار بالدرجة الأولى، وتفكك معانيها بالنسبة لقارئك، ثم تعلق كيفما تشاء.

والوجه الآخر للجهد الذى تقوم به هو كشوفات التوزيع، وآخر شيء كنت أقوم به فى نهاية كل يوم هو الاطلاع على كشف التوزيع، لأعرف فى أى المناطق ارتفع توزيع الجريدة، وفى أى المناطق لم نسجل القدر الكافى من التوزيع، فمن الممكن أن يأتى لى أى شخص ليقول لى إن مقالك جيد أو "مش بطال"، ولكن من هو الحكم فى النهاية؟ إنه القاريء، ويمكنك هنا أن تقيس بمعيار أو بمعيارين، فالتوزيع أولا، ورد الفعل عما تنشره ثانيا، وهو ما يتضح سواء فى تعليقات الآخرين أو فى تعليقات الإذاعات أو الصحف الأخرى مثلا، أو فى آراء السياسيين فيما تريد أن تقوله، يعنى ما هو رد الفعل الذى يحدثه رأيك يوميا؟



الأهرام : ما هو أكثر ما كان يميز مقالك "بصراحة"، وهل كانت لك طقوس عند كتابته؟

الأستاذ هيكل : أهم شىء فى مقال "بصراحة" هو الطابع الإخبارى فيه، فلم أكن أكتب فيه رأيي، ففى المقالات، أنت تقوم أحيانا بالتعليق على شيء غير موجود لديك، أى تعلق على خبر قد لا يكون عندك، ولكن إذا كان عندك الخبر، فالخبر والتعليق موجودان وموصولان ببعضهما البعض، فهنا تكون لديك ميزة، وميزة "بصراحة" أننى لم أكن أكتب رأيى فقط، ولا أعلق على أحداث جارية، ولكن ميزته أنك تقرأ فيه جديدا، ولابد أن أعترف بأنه فى ذلك الوقت، كانت الدولة أهم منتج للأخبار، كانت منتجا حقيقيا للأخبار، وفى أيامنا هذه، ألتمس العذر لرؤساء التحرير، إذ كيف يصدرون الصحف والدولة لا تفعل شيئا، بينما المفروض أن تكون هى المنشيء الحقيقى للأخبار، يعنى ما هو المطلوب منى مثلا لكى أصنع خبرا؟ أن أقتل شخصا مثلا؟! لابد أن يكون هناك مجتمع نشيط ومتحرك لكى أنقل ما يدور فيه، لكن فى مجتمع نائم وخامل لا يوجد فيه شيء يتحرك، ماذا يمكننى أن أفعل؟



الأهرام : حولت الأهرام من جريدة عريقة إلى مؤسسة حديثة ومتطورة وبها مراكز بحثية ..

الأستاذ هيكل : كان هذا موجود فى العالم كله وقتها، وإذا نظرت إلى الفريق الموجود وقتها فى الأهرام، فستجد أننى أولا عند تولى المهمة، احتفظت بالموجودين، وأخطر شيء يمكن أن تفعله الصحف هو أن تفصلها عن تاريخها، ادعمها كما تشاء، ولكن احتفظ بعناصرها الأصلية فيها، احتفظ بالقارئ القديم، فهذا القديم هو من الذى أعطاك ولاءه، وهو الجدير بالرعاية.

ويسترسل الأستاذ هيكل قائلا :

كانت هناك ميزة فى جمال عبد الناصر، وهو ما تلاحظونه عندكم فى أرشيف الأهرام، ستجد أخبارا مكتوبا عليها "كتب المحرر السياسي" بخط عبد الناصر نفسه، وهذا رئيس دولة فاهم، وكان يكتب "علم مندوب الأهرام"ويرسلها لى ، وكانت فى حاجة إلى بعض التصليحات فقط، وهى أخبار كان يراها ضرورية ويرسلها إلي، وعندما لم يجدني، كان يتحدث مع نوال المحلاوى (سكرتيرة الأستاذ)، وكان مهتما بالأهرام، لأنه فى كل بلد فى الدنيا توجد جريدة رائدة بشكل ما، وهو كان يشعر بأن بالأهرام بها هذه الصفة، مثلما كانت التايمز رائدة فى وقت من الأوقات، ولكن الآن التلجراف هى الرائدة...



الأهرام : هل كنت محظوظا بوجود عبد الناصر، أم أن عبد الناصر هو الذى كان محظوظا بوجودك؟

الأستاذ هيكل (مبتسما) : كل منا كان محظوظا بالآخر، وهذا كان مرهونا بشيء واحد، قدرتك على أن تكون مفيدا، وأن تكون "مستغنيا"، وأن يكون لديك جريدة قادرة على النجاح بدون دعم الدولة، فالأهرام كان محظوظا لأن جبرائيل تقلا صنع من الإعلانات المبوبة والوفيات حدا أدنى من الدخل الثابت للأهرام يمكن الاعتماد عليه، وهو أمر لا تجده متوافرا فى أى مكان آخر فى مصر، ولذلك، كل التقدير لجبرائيل تقلا، فقد كان مدركا لأن الوفيات والمبوبة تلبى حاجة يومية، وأنها دخل ثابت تستطيع ضمانه يوميا وأنت مطمئن.


 

 


الأهرام : توليت فى فترة رئاسة مجلس إدارة الأهرام ورئاسة التحرير فى وقت واحد، لكنك كنت تحبذ الحديث عن نفسك على أنك رئيس للتحرير. ولم تضع أسمك على الترويسة؟

الأستاذ هيكل : لم أضع اسمى كرئيس مجلس الإدارة على الترويسة مطلقا. لأن رئيس مجلس الإدارة مسئول بالدرجة الأولى عن كل العملية الإنتاجية للجريدة، بما فيها الجزء الصناعى والجزء التجاري، أما رئيس التحرير فهو مسئول عن الجزء المتعلق بالمهنة مباشرة، وأعتقد أنه لابد من الفصل بين الاثنتين، لأن ما يراه رئيس التحرير قد يتعارض مع المصلحة الإعلانية، والمصلحة المالية مهمة جدا أيضا، ولكن إذا خدشت سمعة الجريدة ضاعت الدنيا، فهنا أنت فى حاجة إلى خطوط فاصلة واضحة، بمعنى أنه إذا كانت هناك أمور متعددة ومصالح مشتركة بين إصدارات متعددة يصبح هذا من اختصاص رئيس مجلس الإدارة، ولكن الجريدة تمثل وحدة قائمة بذاتها، ومستقلة، وتحدث الكثير من الخناقات لهذا السبب، يعنى مثلا عبد الله عبد البارى كانت لديه مصلحة مع «المقاولون العرب» باستمرار، وعثمان أحمد عثمان كان أهم معلن، وكان يتصور أنه يملكك، ولكن فى كل الأحوال، هذا لا ينبغى أن يكون على حساب التحرير، وهنا يوجد شيء مهم، فبقدر ما يجب على رئيس التحرير أن يكون صارما فى هذا الإطار، عليه أيضا أن يكون مرنا، لأن هناك مصلحة فى أن تأتى إعلانات، فلا يجب التعسف وقطع باب الإعلان عن الجريدة، فحاجة الجريدة للإعلان ليست فى حاجة إلى شرح، كما أن المعلن له مصلحة أيضا بالتأكيد.... فنحن هنا فى علاقة شديدة الالتباس، وكل إدارة فى الدنيا هدفها دفع هذه العلاقات الملتبسة.



الأهرام : ولكن كيف تغلبت على هذا الالتباس؟

الأستاذ هيكل : بوضع الخطوط الواضحة بين ما هو إعلان وما هو تحرير، فإذا طلب أحد منك إعلانا مكتوبا، عليك أن تضع عليه عبارة موضوع إعلانى أو تسجيلي، وبقدر ما تستطيع أن تفصل تفصل، لأن لو تداخل الاثنان، فسيضر كل منهما الآخر.



الأهرام : ماذا كان شعورك عندما تركت الأهرام؟ وكيف تعاملت مع خلافك مع الرئيس السادات فى تلك الفترة؟

الأستاذ هيكل : يجب أن تتعامل باحترافية، وحسب قناعاتك أنت، بحيث إذا تعارض الأمران، ولم تستطع التوفيق بينهما، عليك أن ترحل، وفى اليوم الذى خرجت فيه من الأهرام تحدث معى كمال نجيب عن قرار إعفائي، وكان عندنا ميتران ضيفا معى فى القاهرة، وذهبت معه إلى أنور السادات، وعندما عاد إلى باريس، عرف بإقالتي، فقال مندهشا : لقد تركت هيكل فى القاهرة وودعنى وهو رئيس للتحرير، وفور وصولى إلى باريس علمت بإقالته!.

لكن، فى يوم صدور القرار، جاءنى جلال الحمامصى وقال لى إننا لا يمكن أن نقبل هذا القرار بسهولة، وسألنى كيف تقبل هذا الأمر، وأين حق المهنة؟ فقلت له "يعنى أعمل إيه يعنى .. ما دام فيه قانون، وأنا ارتضيت به يبقى خلاص .. الجرنال فيه اتحاد اشتراكى اللى بيملك الجرنال .. والسادات هو رئيس الاتحاد الاشتراكى وصاحب العمل .. وده يقوللى اطلع .. وهو صاحب العمل"، فقلت للحمامصى إن الأمر مش فوضى ولو فعلت ذلك لكنت أضحوكة، فالموضوع ليس موضوع كرامة، لأن هناك حقائق.
 

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق
  • 1
    قبطان عادل على محمد
    2015/12/27 09:11
    0-
    3+

    ذكريات منذ الطفوله فى الحمسنيات الى الان
    اذكر فى 1950 كنت فى 7 من عمرى وكان جدى يجلس على باب المنزل بكرسى من الساعه 8 صباحا حيث يحضر له باب الصحف جريدته الاهرام واظن ان سعر الجريده كان 5 مليم (5مليمكانت تشترى كيس كبير من اللب والحمس ولبسدانى يكفى 3 اطفال ) المهم وصلت الى سن 14 سنه وكان الاهرام من الصعب الحصول على الطبعه الاولى وننتظر الطبعه الثانيه يوم الجمعه ونتطلع الى كتابه الاستاذ على صفحتين وهى بصراحه فى الجمعه اصدر الاهرام عدد ملاحق الثقافيه المراه الرياضه بحيث يكفى متابعه جريده الجمعه على مدى الاسبوع لم يكن فى مصر زات الزمن غير الراديو والصحف كان معظم هذا الجيل يتناقشون على مدى الاسبوع على موضوعات الاهرام اى كانت واذكر ان الاهرام كان سباق عند نشر نتيجه الثانويه العامه كانت ايام شكرا لللاهرام على مدى 73 سنه ومازلت اتابع القرائه ولا سواه
    البريد الالكترونى
    الاسم
    عنوان التعليق
    التعليق