وبرغم ضيق ذات اليد، فإنه أصر على تعليمنا، ورفض أن يخرج أحدنا لمساعدته فى الزراعة، وأنا ترتيبى الرابع فى الأولاد، ولم ألتحق بأى دروس خصوصية، وكان الجميع يحسدون والدى علينا ويضربون بنا المثل فى الأدب والتدين والتفوق، وكانت أمى تساعد أبى فى الحقل، وكم كان سعيدا بى عندما ألحقونى بمسابقات أوائل الطلبة، ولما دخلت الصف الأول الثانوي، فوجئت عند عودتى من المدرسة ذات يوم بوجود عدد كبير من أهل القرية فى البيت، وكانت الصدمة القاسية أنه مات، وسقطت أمى على الأرض مغشيا عليها، ونقلوها الى المستشفي، وعشنا أياما يصعب وصفها، وبعد عودتها الى المنزل، كانت دائما تذكر اسم أبى وتقول «ياربى كيف سأدبر حال ثمانية أطفال»، فتجمعنا حولها، وأصبحنا يدا واحدة، نذهب الى مدارسنا فى الصباح، ونعمل معا فى فلاحة الأرض بعد الظهر، وفى المساء نذاكر دروسنا، وعندما ظهرت نتيجة الثانوية العامة حصلت على المركز الأول، وبكت أمى من الفرحة، والتحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، وتخرجت فيها ثم تخرج إخوتى فى كليات أخري، وتزوجت البنتان، وجاءنى خطاب لتعيينى محاسبا فى المستشفى القريب من بلدتنا، ولكنى رفضته فى البداية، ثم نصحنى معارفى بقبوله ثم بعد فترة أقرر ما أشاء اذا جاءتنى فرصة أفضل، وبالفعل أحببت عملى وتمسكت به، وتزوج أخوتى الأكبر مني، ولما جاء دورى فى الزواج أشارت أمى علىّ بأن أتزوج ابنة خالتي، لكنى وجدتها غير مناسبة لى إذ أنها غير متعلمة من جهة، ولأن أباها تاجر كبير ومعروف من ناحية أخري، واذا تزوجتها سأعانى الأمرين لأنها أفضل منى ماديا.
وتصادف فى ذلك الوقت أننى تعرفت على فتاة متوسطة الجمال تعمل فى المستشفى وحاصلة على بكالوريوس تمريض، وشعرت نحوها بإحساس جميل، وتملك حبها قلبي، ووجدتها تبادلنى الإحساس نفسه، وتعلقت بها جدا، وصارت قصة حب معروفة للجميع، وأجدهم يتحدثون عنها فى محيط العمل وخارجه، ويقولون إنها أكبر منى بثلاث سنوات، وهى بالفعل كذلك، لكنى لم أشعر بهذا الفارق ولم أعطه أدنى اهتمام، وعندما فاتحت أمى فى الزواج منها، اشتعلت المشكلات فى بيتنا الهاديء، وثارت ضدى ثورة عارمة، وقالت لى إنها «ستغضب علىّ الى يوم الدين لو تزوجت هذه الفتاة»، ووقف الجميع فى صف أمي، واستنكروا أن أتزوج بممرضة أكبر مني، وأنا «نوارة العائلة» كما يقولون.
ودخلت معهم فى حرب صعبة دفاعا عن حبي، واستمررت شهورا بين «المحايلة»، والاقناع والبكاء لأمى الى أن ظفرت بموافقتها، وخطبت فتاتى وتزوجتها خلال أسبوع واحد فقط فى شقة بالبيت نفسه، ورزقنا الله بتوأم عمره الآن ثمانى سنوات، والحق أن زوجتى تحملت «مناوشات» أمي، وساندتنى ماديا، وشيئا فشيئا صارتا صديقتين، وشاء القدر أن أحصل على عقد عمل فى السعودية، وبعد فترة قصيرة جاءتنى زوجتى وابني، والتحقت هى بمستشفى شهير فى الرياض، وعملت أنا بشركة مقاولات، وسددت ديونى واشتريت منزلا مكونا من أربعة أدوار فى مدينة قريبة من قريتنا، وبعثت لأمى بتأشيرة حج وعمرة، ولك أن تتخيل اللحظة التى وقعت فيها عينا أمى على الكعبة، إذ راحت تبكى وهى تبتهل الى الله بالدعاء لنا، ودعت لزوجتى وقالت لها: انت ابنتي، وقد عمت الفرحة بيت العائلة، واننى من خلال رسالتى أقول لأمى «لقد أديت رسالتك نحونا على أكمل وجه، وربنا يعطيك الصحة والعافية»، وأقول لزوجتي: «أنت حياتي، جزاك الله خيرا عنا».. ولعل رسالتى تقرؤها كل أم فتترك ابنها يخطط حياته كما يريد، وشكرا لك.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لقد عرفت الطريق الصحيح منذ البداية فساندك الله، وسدد خطاك على طريق الدراسة فالعمل، ثم الزواج والنجاح فى الحياة، وما اتخذته من منهج صحيح فى مسيرتك هو الذى ساعدك على تخطى الصعاب، إذ حرصت على الفوز بموافقة أمك على زواجك من الفتاة التى أحببتها، ولم تبال بكلام البعض عن فارق السن أو أنها تعمل ممرضة، فهذه «النظرة الخاطئة» تفسد كثيرا من الزيجات الناجحة، وأحسب أن إيمانك بقدراتك، وثقتك فيمن ارتبطت بها، وحرصك على التقارب المادى والثقافى والاجتماعى بينكما، هى أبرز العوامل التى هيأت لزيجتك النجاح، وإننى أحيى والدتك على كفاحها الرائع الذى تستحق عنه أن تكون أما مثالية، وليت الجميع يتخذون تجربتك الجميلة فى الزواج منهجا يسيرون عليه، وفقك الله وسدد خطاك.