وقد دأبت السلطة الفلسطينية ووزارة أوقافها ومفتيها على مناداة العرب والمسلمين فى الآونة الأخيرة لزيارة القدس المحتلة، مؤكدين أنها واجبة دينياً وأخلاقياً، ونادى الوفد الفلسطينى المشارك فى أعمال المؤتمر العالمى لدار الإفتاء المصرية، والمؤتمر الدولى الخامس والعشرين للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية والذى عقد مؤخرا بمدينة الأقصر بشد الرحال إلى الأقصى، مؤكدا أن الزيارة تأكيد للحق العربى والإسلامى فى المدينة المقدسة وتعزيز لصمود الشعب الفلسطينى ورفع لمعنوياته ودعم لرباطه فى أرضه ومقدساته؟
كما صدرت فتوى رسمية لمجمع الفقه الإسلامى فى دورته التى عقدت مؤخرا بالكويت تؤكد أن زيارة القدس وهى تحت الاحتلال جائزة، وفتوى مماثلة لمنظمة التعاون الإسلامى ورابطة الجامعات الإسلامية وعلماء القدس تطالب العرب والمسلمين بشد الرحال إلى المسجد الأقصى، وزيارة المدينة المقدسة للحفاظ على الهوية الإسلامية وحماية المدينة المقدسة من إسرائيل.
عدد من الجانب الآخر صدر تحريم لزيارة القدس من أعلى الهيئات والشخصيات الإسلامية حتى لا تكون تطبيعا مع المحتل أو تمثل اعترافا بوجوده فى القدس الشريف؟ وما الفائدة التى يمكن أن تتحقق من تلك الزيارات للحفاظ على هوية القدس؟
وإذا كان الدكتور على جمعة، مفتى الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء والذى سبق له زيارة القدس، قال إن دعم أهل القدس والفلسطينيين يجب ألا يتوقف على الشعارات، ويرى أن زيارته للقدس العام قبل الماضى مبادرة لإعادة النظر فى قضية القدس ورسالة إلى جميع المجامع الفقهية يطالبهم فيها بالبدء الفورى فى إعادة تقييم ودراسة الموقف الشرعى والرأى الحالى للفتاوى والآراء المتعلقة بكل أشكال الدعم لمنع تهويد القدس والحفاظ على المقدسات الإسلامية، فلماذا لا تبادر الهيئات الدينية فى الدول العربية والإسلامية بإنهاء هذا الخلاف والجدل الفقهى بإصدار فتوى موحدة حول مشروعية الزيارة أو تحريمها؟!
الدكتور يوسف إدعيس، وزير الأوقاف والشئون الدينية بفلسطين، دعا فى أثناء زيارته إلى نقابة الأشراف، الأمتين العربية والإسلامية إلى شد الرحال للمسجد الأقصى المبارك من أجل دعم الفلسطينيين فى نضالهم فى مقاومة الاحتلال. واستنكر الهجمات واقتحامات المستوطنين لمقدساتنا وعلى رأسها المسجد الأقصى والجرائم المستمرة التى ترتكب فى حق شعبنا . وقال الوزير إن فلسطين قيادة وشعباً تدعو لمصر وشعبها أن يحفظهم الله من كل مكروه وسوء لأن فى قوة مصر قوة لنا.
من جانبه يقول الشيخ محمد حسين، مفتى القدس الشريف، إن الاحتلال لا ينفى عن مدينة القدس كونها مدينة إسلامية، ولم ينقل عن أحد من علماء المسلمين على مر التاريخ أنه أفتى بالمنع من زيارة المسجد الأقصى الشريف حتى لو كان تحت الاحتلال، والقول بالمنع إنما هو فتاوى سياسية لتنفيذ أجندات خاصة، وليست فتاوى دينية، والرابح الوحيد منها هى إسرائيل، وقد بادرنا فى مجلس الإفتاء بفلسطين منذ أثير هذا الأمر إعلاميا فى عام 2012، بإصدار فتوى بجواز زيارة القدس حتى ولو كانت تحت الاحتلال؛ فكل الأدلة الشرعية تدل على ذلك. ولقد قلنا مرارا وتكرارا إن هناك فتوى نبوية واضحة من النبى صلى الله عليه وسلـم بزيارة القدس، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِد: المَسْجِدِ الحَرَام، وَمَسْجِدِى هَذَا، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى) متفق عليه، وقد كان القدس الشريف تحت الاحتلال الرومانى حينما قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم ذلك.
وأوضح مفتى القدس، أن الفتوى التى أوصى بها العلماء بعدم تحريم زيارة المسجد الأقصى، تأتى فى الاتجاه الصحيح لمساندة المقدسيين ودعم الأقصى المبارك الذى يتعرض لظروف صعبة وانتهاكات إسرائيلية متواصلة. فالعلماء المسلمون قد قرروا فى مؤتمر «الطريق إلى القدس» الذى عقد فى عمان، رفع الحرج عمن يزور المسجد الأقصى ضمن ضوابط واضحة ومعينة تراعى أن تكون زيارة المسجد بقصد مساعدة القائمين والمرابطين فيه، وأن تكون بعيدة عن أى مظهر من مظاهر التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلى وأن تكون بنية تثبيت الهوية العربية والإسلامية لهذه الأرض، والقضية واضحة ألا يحدث أى تطبيع مع الاحتلال، الأمر الذى كان محل تخوف من قبل كثير من العلماء الذين ناقشوا هذه القضية، وهذه الفتوى تعتبر أيضا دعما سياسيا للمواطنين فى المدينة المقدسة، وهذا القرار يشعر أبناء القدس بأن لهم إخوة من المسلمين يشدون الرحال إلى المسجد لزيارتهم. وحول زيارة الدكتور على جمعة للقدس، وما حققته من نتائج يقول مفتى القدس: كانت زيارة مباركة من عالم كبير، ولقد لاقت قبولا واسعا من شعب فلسطين، إلا قليلا ممن لهم سياسات خاصة بهم، ونسأل الله أن يجزيه خيرا على هذه الزيارة، وأن تكون قدوة يقتدى بها الناس من بعده، وكل يوم نستقبل المئات من رعايا الدول الإسلامية فضلا عن الشخصيات العامة فى الوطن العربي. وطالب كل من يستطيع من المسلمين زيارة المسجد الأقصى بأن يفعل، فإن فى ذلك أكبر الدعم لنا ولشعبنا ولقضيتنا.
زيارة روحانية ننتظرها منكم
من جانبه أكد الدكتور ماهر خضير، رئيس المحكمة الشرعية بفلسطين وعضو هيئة العلماء والدعاة بالقدس، أن التوصية التى انتهى اليها مؤتمر الآثار الإسلامية الذى عقد بجامعة القاهرة تحت رعاية رابطة الجامعات الإسلامية بعقد مؤتمر بالقدس للمحافظة على المسجد الأقصى وعمارته وحمايته من الانتهاكات الإسرائيلية الحالية ومحاولة تقسيمه زمنيا ومكانيا والسيطرة عليه ومنع المسلمين من الدخول إليه، ونثمن قرار المؤتمر بالعمل على حماية التراث الإسلامى فى القدس والمسجد الأقصى بكامله والذى يتضمن 144 دونما. ودعا خضير المسلمين إلى تنفيذ وتطبيق قرار مجمع الفقه الإسلامى الدولى الذى يدعو إلى شد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك ومدينة القدس، مؤكداً أن أهل فلسطين فى أمس الحاجة لزيارة المسلمين لهذه الأماكن المقدسة، وأن الله أمرنا بهذه الزيارة الروحانية العظيمة، التى ترفع الدرجات وذكرها النبى صلى الله عليه وسلم فى حديثه الشهير.
شد الرحال تشرفا وتبركا
ويقول الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر ، إنه لا توجد مؤاخذات من النواحى العملية سواء للمسلمين أو المسيحيين على زيارة القدس، أما فى الأمور الاجتماعية فهناك علاقات ومعاهدات بين الدولة المصرية والكيان الصهيونى الإسرائيلى. ولا يوجد حظر دينى على الذهاب للقدس أو الأقصى، وقال إن النبى صلى الله عليه وسلم ظل بالكعبة ما يجاوز 53 سنة وكان المسجد الحرام فى قبضة قريش الوثنية وعرج به من بيت المقدس وكان فى ولاية السلطة البيزنطية، فرجال الدين وعلماء الإسلام لا يوجد أدنى حظر عليهم فى الشرائع السماوية فى زيارة المعالم الدينية وتفقد أحوالها طالما لا يوجد نهى شرعى. وأضاف: إنه من المقرر شرعا أنه لا يحكم على شيء بحكم تكليفى (واجب، مندوب، حرام، مكروه، مباح) إلا بنص شرعى من آية قرآنية محكمة، أو سُنة نبوية صحيحة، أو إجماع معتبر، والأصل فى الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل معتمد معتبر ومسألة زيارة الأماكن فى غير حكم المسلمين فلا مانع حيث لا مانع، حتى لو كانت الأماكن لمسلمين واحتلها غاصبون كالأراضى الفلسطينية وما يماثلها من أماكن فى مناطق فى العالم المعاصر، وزيارة المسجد الأقصى ومكانة القدس الشريف، ومزارات أخرى، ومعالم دينية لا حرج فى القدوم إليها وإن كانت تحت الاحتلال الصهيوني، ولا يعد هذا - كما يتعلل مانعون - تطبيعا مع العدو الإسرائيلي، لأن المعقول على فرض صحته لا يناهض المنصوص الشرعي، فزيارة السجين ليست رضا مودة لسجانه!. وقد تواترت وتوافرت أدلة نصية وعقلية على مشروعية زيارة فلسطين بما فيها من مزارات فمن ذلك: أخرج الشيخان - البخارى ومسلم - بسندهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدى هذا، والمسجد الأقصى» ووجه الدلالة: جعل الشرع المطهر المسجد الأقصى أحد ثلاثة مساجد تشد إليها الرحال، وأيضا حدوث معجزة الإسراء بدءًا من مكة وهى تحت السيطرة القرشية الوثنية، و «المعراج» والقدس تحت الحكم الروماني، كما أن أداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمرة القضاء فى ذى القعدة سنة 7 هجرية ومكة والمسجد الحرام قيد الهيمنة القرشية الأصنامية الشركية، وزيارة صحابة أخيار لمكة وهى تحت السيطرة القرشية الشركية مثل زيارة عثمان بن عفان - رضى الله عنه - لها وقت صلح الحديبية. أما عدم طوافه بالبيت الحرام وقتها تقديرا منه لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة - رضى الله عنهم- الذين أحصروا وقتها عن البيت الحرام، ولما حصل اجتياح القرامطة لمكة ونزعهم للحجر الأسود من مكانه سنوات، فإن المسلمين لم يمتنعوا عن أداء المناسك للحج والعمرة.
مؤازرة أهل فلسطين
وأضاف، أنه من المقرر شرعا أنه «إذا كانت المصلحة فثم شرع الله» ومؤازرة أهل فلسطين بالقدس وغيرها وتفقد أحوالهم على أرض الواقع، ومشاورتهم ومناصحتهم، وتكثير أعدادهم ضد الاحتلال الصهيونى والعدوان الإسرائيلي، كل ذلك مصالح شرعية معتبرة، والأصل فى الأشياء الإباحة ، وزيارة مقدسات الإسلام (المسجد الأقصى) ومعالم ومزارات كلها بركات (باركنا حوله) من القربات التى يحض عليها الشرع المطهر، ودعاوى هجر المسجد الأقصى والقدس خالية من هذه الأدلة والأصول الشرعية المعتمدة.