مراكز الأبحاث عكفت منذ غداة هجمات باريس على فك لغز طالما حيًر الجميع :
إذا كان منفذو الهجمات معروفين بالاسم ضمن قوائم مشتبه بهم ، فلماذا يتحركون بأريحية عبر الحدود الاوروبية ليضربوا ضربتهم سواء فى باريس أو مدريد أو لندن ؟ ويمكن للمراقب أن يوجز ما خلصت اليه أطنان التحليلات والدراسات والتوصيات فى عاملين اثنين أساسيين : عدم وجود مؤسسة أمنية ذات صلاحيات قوية على مستوى القارة العجوز تتولى مهمة العمل المخابراتى بصلاحيات حقيقية وغياب تبادل المعلومات بشكل جماعى بين دول الاتحاد الاوروبى كمنظومة واحدة واكتفاء الاعضاء الثمانية والعشرين بالتنسيق الثنائى . وفى هذا السياق ، تم طرح العديد من الأفكار للحل و التى تسير فى اتجاهين الأول يتمثل فى اصلاح واعادة هيكلة المؤسسة القائمة حاليا وهى اليورو بول " الشرطة الاوروبية " ومنحها صلاحيات واسعة عبر مشروع قرار مقدم لكل من البرلمان والمجلس الاوروبيين ،بينما يعتمد الاتجاه الثانى على خلق جهاز مخابرات جديد تماما. والملاحظ فى الاتجاهين أنهما لم يتجاوزا " العقدة الأمريكية " حيث تطل واشنطن باعتبارها النموذج المثالى امنيا لحكومات أوروبا، فبينما يريد البعض تطوير جهاز اليورو بول ليصبح النسخة الاوروبية من جهاز مكتب التحقيقات الفيدرالى " إف بى آى "، يريد أصحاب الاتجاه الثانى استنساخ نموذج وكالة المخابرات الأمريكية " سى آى إيه " !
مدير اليورو بول روب وينرايت قال فى اعتراف مدو أن أجهزة المخابرات الأوروبية تعانى من " ثقب أسود " فى قاعدة بياناتها فيما يتعلق بأنشطة الجيل الجديد من الجهاديين ، مشيرا الى أن المعلومات المتوافرة عن " المقاتلين الأجانب "- على سبيل المثال - لاتغطى سوى ألفى عنصر ، وهو نصف عدد من يحملون الجنسيات الأوروبية و بات من المؤكد انخراطهم فى جبهات القتال بسوريا والعراق . وتعهد وينرايت فى تصريحات نقلتها عنه صحيفة " بولتيكو " الأسبوعية بتحسين مستوى التنسيق و تبادل المعلومات بين مختلف الأجهزة الأمنية بالقارة العجوز لمواجهة خطر التهديدات الإرهابية بشكل أكثر فعالية .
وهنا نشير الى نشأة جهاز اليور بول فى عام ألف وتسعمائة واربع وتسعين كمجرد وحدة شرطية للتنسيق الأمنى بين دول الاتحاد الأوروبى فى مجال مكافحة المخدرات ، ثم سرعان ما أصبح النسخة الأوروبية من مكتب التحقيقات الفيدرالى الأمريكى " إف بى آى " و يختص بمكافحة الجريمة المنظمة والانشطة الارهابية حسب رؤية المستشار الألمانى هلموت كول بمطلع التسعينيات من القرن الماضى .
وبحسب خبراء أمنيين ، فإن المشكلة الأساسية التى يعانى منها هذا الجهاز هو ضعف سلطاته فيما يتعلق بحق الملاحقة والاعتقال و تحوله على مدار ربع قرن الى مجرد عنوان كبير بلا مضمون ، حيث تتعامل معه معظم دول أعضاء الاتحاد الاوروبى الثمانية والعشرين باعتباره مجرد وحدة للتنسيق المعلوماتى وتعارض مقترحات قديمة بتوسيع دوره خشية أن يؤثر ذلك على السيادة الوطنية للدول. وفى هذا السياق كشف جيل دى كروتشوف منسق مكافحة الارهاب بالمجلس الاوروبى - احد هئيات الاتحاد الاوروبى المختصة بوضع سياسات عامة للاتحاد - أن هجمات باريس الأخيرة كشفت عن العديد من أوجه الفشل فى التعاون المخابراتى الاوروبى حيث لا يتم تبادل المعلومات المتعلقة بالمقاتلين الأجانب سوى بين خمس دول فقط من اجمالى الدول الاعضاء بالاتحاد الأوروبى !
ويرى خبراء أمنيون بعضهم خدم سابقا بأجهزة مخابرات مثل الفرنسى أرنود دنجان - العضو الحالى بالبرلمان الأوروبى - ان الدعوة الى انشاء وكالة مخابرات مركزية على مستوى اوروبا قد لا يُكتب لها النجاح بسبب طابعها الموسمى حيث تظهر فى عقب كل هجوم ارهابى يقع على الأراضى الأوروبية كرد فعل انفعالى ومؤقت أكثر منها استراتيجية مخططة ومدروسة كما حدث بعد هجمات " شارلى ابدو " بباريس . ويشير هؤلاء الى أن الخلاف بين الدول الاعضاء فى الاتحاد الاوروبى حول " تعريف الارهاب " و«تعريف المقاتلين الأجانب» يكون بمثابة الصخرة التى تصطدم بها أى محاولة أوروبية لانشاء وكالة من هذا النوع، فضلا عما تعنيه تلك الوكالة من التنازل عن بعض مقومات السيادة الوطنية وهو ما يلقى معارضة شديدة من بعض الدول .
وبدا لافتا دخول الاتحاد الأوروبى بقوة على خط الجدل من خلال الدعوة التى أطلقها ديمترس أفراموبولس مسئول الهجرة و المواطنة و الشئون الداخلية بالمفوضية الأوروبية - الذراع التنفيذية للاتحاد - لانشاء وكالة موحدة " تعزز من قدراتنا على مواجهة نوع غير تقليدى من التحديات الأمنية التى لم يسبق لها مثيل " .
وكان بعض القادة الذين تخوض بلدانهم مواجهات مباشرة ضد خلايا متطرفة على أراضيها أظهروا حماسا شديدا للفكرة مثل رئيس الوزراء البلجيكى شارل ميشال الذى أكد " أننا أصبحنا فى أمس الحاجة أكثر من أى وقت مضى إلى وكالة من هذا النوع تكون بمثابة سى آى إيه أوروبية لتفادى ثغرات التنسيق الأمنى الموجودة بيننا حاليا " ، بينما تبدى باريس التى شهدت الشهر الماضى هجمات دموية بتوقيع تنظيم " داعش " حذرا فى التعاطى مع الفكرة ظهر فى لقاء جمع وزير الداخلية الفرنسى برنار كازانوف مع شارل ميشال مؤخرا .
ولا تخفى برلين التى تعد من أكبر العواصم اسهاما فى ميزانية الاتحاد الاوربى رفضها لمقترح انشاء الوكالة المركزية حيث يؤكد وزير الداخلية الألمانى انه من الأفضل تحسين مستوى التنسيق الامنى بين الأجهزة القائمة بالفعل ، بدلا من اهدار الطاقة فى انشاء جهاز جديد " ينتقص من سيادتنا الوطنية " على حد تعبيره .