رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

قمة التل

سمير أبو الفتوح محمد
تحت شجرة صفصاف جلسنا‏,‏ قال وعيناه شاردتان في الأفق البعيد‏:‏ تجمعت فلولنا بالقرب من جسر الفردان‏,‏ فلول كتيبة مشاة هدها الظمأ والجوع‏,‏ ودوختها بحار من الرمال ضاعت معالمها وتلاشت مسالكها‏,‏ ولم يمل الموت من تعقب أفرادها‏,‏ وكنا نبغي أن نعبر الجسر الي الضفة الأخري للقناة‏,‏ ولكن وجدناه مدمرا‏,‏ ولم نلبث أن وقعنا في قبضة قوة من العدو‏,‏ وأمرنا أفراد تلك القوة بإلقاء سلاحنا‏,‏

 ورفع أيدينا الي أعلي والهتاف باسم شخص لا ندري من يكون, وأظن أنه يدعي حشكول أو فشكول, وقالوا لنا إنهم سيطلقون سراحنا إن نحن هتفنا به, ولما رفض شقيقك منصور أن يفعل أو ثقه أحدهم بحبل, وتولي آخر إفراغ رصاص مدفعه الرشاش في فمه.
...................
أصاب الشلل ساقي أمي حينما بلغها نبأ مقتل شقيقي منصور, وأكد لنا طبيب وحدة القرية الذي جاء لفحص حالتها وكتابة العلاج اللازم لها أن شفاءها سوف يستغرق وقتها وأن علينا أن نتذرع بالصبر, وحاولت جهد طاقتي أن أخفف من حزنها, وازداد قلقي عليها, إذ كلما دخلت عليها حجرتها شهدتها تشخص ببصرها, وتلزم الصمت التام, ولا تطيق قرب الزاد, وإذا ألححت عليها نالت منه شيئا يسيرا, وكثيرا ما شهدتها في منامي وهي تحدقني بعينيها, وتأخذ عيناها في الاتساع حتي تصبحا بحيرتين مملوءتين بدم قان, وتنتابني حالة من الفزع والهذيان, والاختناق, إلي أن ينقض علي طائر ضخم ويحملني الي بعيد, فأصحو من النوم والعرق يتصبب مني.
....................
ذات مساء دخلت علي أمي حجرتها, فإذا بها تناولني صرة نقودها التي ادخرتها لمفاجآت الزمن, وتطلب مني أن أبتاع لها كفنا من دكان سمعان بائع الأكفان ولوازم الموتي, وقالت بصوت واهن إن أصواتا خفية تحدثها بدنو أجلها, وأنها البارحة رأت وهي تكاد تسلم عينيها للنوم, رأت شقيقي منصور يفتح باب حجرتها, ويدخل عليها متهلل الوجه, فرفرت روحها, وانتفض قلبها داخل صدرها, وهمت بأن تحدثه فجذبها من يدها كأنما يستحثها علي ترك الحجرة والانطلاق معه الي عالمه النوراني الرحب, ولم يكن في وسعي إلا أن أنزل علي رغبتها وامتثل لإرادتها, وانصرفت من عندها وأنا أغالب دموعي.
...................
وقفت علي قمة تل مرتفع بجوار حقول قريتنا, وأرهفت السمع علني أقف علي مصدر الصيحات الغامضة التي كانت تصلني في الحقل من آن لآخر, وامتلأ صدري بالهواء المحمل برائحة الزروع الخضراء, وبدت السماء لعيني أكثر زرقة وصفاء وشمس يونيو في عنفوان قوتها, ولمحت عن بعد سحابة رمادية كثيفة قادمة نحوي تتحرك بسرعة, وقلت لنفسي: إن السر يكمن في السحابة, وسرعان ما حجبت عني السحابة صفحة السماء وضوء الشمس, ورأيتها تمطر جرادا فوق الحقول, وقبل أن تنقضي دهشتي رأيته يجرد الحقول من كسائها الأخضر الزاهي, وينتقل إلي حقول قرية أخري مجاورة.
***
لست أدري كيف تسربت إلي أمي أنباء الكارثة التي أحدثها الجراد للحقول, وكان الطبيب قد حذرنا من تأثير مثل هذه الأنباء علي صحتها, وألحت هي علي أن أبيع كفنها لأشتري بثمنه بذورا لأرضنا التي صارت خرابا, وقالت وهي تغمرني بنظراتها التي تفيض حنانا:
نعم, إني أعلم يا ولدي أن من يبذر بعد فوات الميعاد لا يحصد في الغالب سوي الخيبة والندم, فخبرني هل تملك الآن غير أن تضع البذور مرة أخري في الأرض وتتعهدها بالعناية والرعاية من جديد؟! وهل ترضي لنا أن نتسول ما يسد رمقنا ويستر عوراتنا؟! توكل علي الله.
وراقني قولها, وأحسست بأني مقبل علي تجربة لا عهد لي بها, فدعوت الله في سري ألا تكون الظروف معاكسة.
***
اجتاحت البهجة قلبي, وأيقنت أن الكآبة تتأهب لمفارقة دارنا, إذ لا حظ الطبيب أن أمي تستطيع أن تحرك ساقيها, وبشرنا بأنه قد آن لها أن تنهض من رقدتها, فصنعت لها عكازة من أحد فروع شجرة التوت الرابضة أمام دارنا, وبدأت هي تمارس المشي بها فيما حول حجرتها وامتداد الفناء, كما ترعرع الزرع الجديد علي صورة تدعو الي التفاؤل وبذل المزيد من العرق, وإن بدت الظروف لفترة قصيرة غير مواتية للنمو.
..................
أصرت أمي أن تجرب صعود التل المجاور بنفسها وهي متوكئة علي عكازتها, لتحتوي بناظريها كل شبر في أرضنا التي بدا محصولها وفيرا وحان وقت حصاده, وكانت لا تنفك تتمتم بالحمد لفالق الحب والنوي, فأخذت أرقبها وهي تواصل صعودها الحثيث الي القمة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق