رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

ارتحال

محمد قطب
‏..‏ لم تقرر أين تقضي يومها؟تخشي أن تظل حبيسة البيت‏,‏ تطل من النافذة‏,‏ تسترخي علي مقعد في الشرفة‏,‏ تراقب العصافير‏,‏ وأفراخ اليمام‏..‏

تشعر بالملل يعصر قلبها, فتنهض, تدور في حركة مرتبكة.. تغير أماكن المقاعد, والمناضد, والسجاد, ولوحات الحائط, وأغصان البامبو. وصورة زوجها.
.. انتزعت الصورة, تملت في ملامحه, وعينيه المنطفئتين, وتسريحة شعره, وذقنه المدببة, وشفته الرفيعة.. وارتجفت.
تحيا مع صورة باردة, وملساء.
تحسرت علي رجلها الذي قل تواجده في البيت, وسكب برودته في الأركان, وفوق الفراش.. وتساءلت هل تستطيع أن تميز صوته بعد هذا الصمت الطويل؟!
.. وحيدة مع أشياء فقدت بهجتها..
انصرف الأحبة, والأصدقاء, عاشوا حياتهم.. ولم يعد لي أحد ألجأ إليه.. أخرجت النفوس أهواء ها, فانكشفوا..
لم تشفع لهم لحية, أو صداقة, أو قرابة, أو زمالة.. تركوا أعينهم وألسنتهم في مناورة الغواية.. فأبعدوني..
ألجأ إلي مظهري المصطنع أداري به قلقا يعتريني, يجب أن أبدو في عيون الآخرين متماسكة.. وأنني لم أترك بعد بؤرتي التي تجذب البعض, وتشدهم إلي ومضها.. الذي أخشي أن يخفت, ويشحب.
.. هل أنا قادرة علي الفعل.. في ظل الوحدة وغياب الرجل؟ وهل أبدو كمن يمخر في الماء ويمسك بالدفة.. لكن إلي متي؟!.
.. تجدد الحياة سنة كونية,
والماء يأسن إن توقف,
والتنوع سبب للتغيير, وتدريب للعقل والحس..
لم يعد في وسعها إذن, أن تحبس نفسها لتغير أو تبدل في أشيائها.. الآن عليها أن تخرج وتذهب إلي مكان تصافح فيه الوجوه, والخضرة, والزهور والأرض الخضراء.
في هذا اليوم الخريفي يحسن ارتياد النادي, والسير في التراك التماسا لنشاط غائب.
.. السبت هو اليوم المفضل لرواد النادي, ستجد المقاعد ملأي, وحمام السباحة يصطخب بالصغار, والكبار يجلسون علي مقربة من الحمام, يراقبونهم, ويحتسون شرابهم.
ستمر عليهم كالعادة, تحيي من تعرف, وتخطو في رهافة, وتجتاز حدائق الأشجار والأزهار وجلساءها, وستمرق مبتسمة وتتوقف أمام شجرة الياسمين.. تقطف ياسمينة, تمررها علي الأنف سيصلها الهواء معطرا, وسيأتيها بروائح الأحبة.
من يدري؟
.. سري نشاط خفي في جسدها أنعشها, وأجري الدم في وجهها فنهضت وارتدت ثيابا تلائم التريض في التراك.
.. حين ولجت الباب, تسبقها بسمتها, وهلتها.. بالغ رجل الأمن في تحيتها.. تعودت أن تنفح أفراد الأمن ببعض المال وتعودت منهم الترحيب والاحتفاء.. معارفها يحتفون بها أيضا, ليس لأنها تنوب عنهم في تحمل قيمة المشروبات غالباـ وإنما لأنهم آنسوا فيها صحبة مبهجة.
هي نفسها تتساءل عن سر هذه البهجة التي تكون فيها وهي معهم.. لا يكف لسانها عن الحديث.. وهو الأخرس في البيت!.
.. لكنها بمجرد أن تفارقهم وتغادر النادي يداهمها هذا الذي لا يفارقها.. الشعور بالوحدة.
.. تخاطرت في مشيتها, وراحت عيناها ترقبان الشجر والزهور والمقاعد, والتندات, وتجمعات الصحبة, والعائلات. زاحمتها روائح تأتي من محال الأكل, والكافيهات, هفت نفسها إلي البقلاوة وصوابع زينب, جري ريقها علي( هبو) الكفتة المشوية.
أخذها الجمال, والخضرة, والشجر المهندم والزهور الناضرة, وأجلسها بجوار شجرة تزهو بزنابقها وزهورها البيضاء.
مدت يدها وعبثت بزنبقة ناجمة, قطفت واحدة وقربتها من أنفها.. وخدها وشفتيها, وأذنها.. وارتجفت.. اعتدلت, فتحت حقيبتها, أخرجت علبة المناديل.. سحبت منديلا لفت فيه الزنبقة.. أغلقت الحقيبة وأدارت عينها.
.. حين مرقت العين صادتها.
كانت المرأة ترتدي ثيابا سوداء, تقتعد الكرسي وتمد ساقيها, تحرك قدميها المنفلتتين من الحذاء, لمحت عصا مسنودة إلي مقعد بجوارها. علي الطاولة فنجان قهوة, وكوب ماء, وكتاب وحقيبتها.
لاحظت منذ أن تنبهت لها أن يدها لم تمتد إلي فنجان القهوة, يبدو أنها نسيته في غمرة الحديث في الموبايل.. امرأة متقدمة في السن, تضع نظارة سوداء تجور علي وجهها, تقبض بيدها علي المحمول,.. ظلت تتحدث طويلا, حتي أنساها البن والماء.
تابعت حركة الأصابع وتبدل الملامح, ولملمة الثوب واستواء البدن.
.. تنهدت وتهيأت للقيام.
هي مثلي تبحث عمن يشغل وقتها ويكسر رتابة يومها.. ربما يساعدني السن في الحركة والتنقل, واقتناص لحظة فرح شحيحة.
.. كان المكان الذي تجلس فيه السيدة قريبا من حمام السباحة الذي كان وقتها هادئا لا أحد فيه.
وتقدمت نحوها..
لفت انتباهها مجلة7 أيام, وجريدة المصري اليوم, لحظة اقترابها كانت السيدة قد أنهت مكالمتها, ووضعت محمولها أمامها.
توقفت أمامها, وبدت كأنما تبحث عن شيء ما, أدارت عينيها علي التندات الخشبية, والمقاعد, وأصص الزهور والرياحين..
.. فردت جسمها فاستقام وأظهر جماله.
قالت في نبرة خافتة:
ـ تسمحي لي.. أجلس
رفعت السيدة رأسها وتأملتها وردت في حنو
ـ تفضلي
ـ وقبل أن تجلس بجوار طاولة أخري بادرتها مبتسمة
- غيرك لا يستأذن.. فشكرا
.. داخلها هاجس أن الثوب الأسود الذي ترتديه السيدة يحمل حزنا موصولا, ويعلن عنه, وأن العصا تشير إلي تعب في الساق أو القدم.. ودت لو تحادثها, أو تقترب منها..
أسعفها قدوم عاملة الكافيه, فانتهزت الفرصة وعرضت علي السيدة أن تشاركها مشروبا ساخنا.
رمقتها السيدة في ود وأشارت إلي فنجان القهوة.
.. تحدثت معها عن القراءة, والاستمتاع بالوقت, والتردد علي النادي, والقيام بالرحلات في صحبة الأعضاء.. ومدحت حيويتها التي تبدو عليها.
سعدت السيدة من حديثها, وقالت كأنما تريد أن تزيل اللبس.
جئت لأدفع الاشتراك.
أخرجت أوراقا, لمحت كارنيه النادي وصورة لرجل يرتدي ملابس عسكرية.
ـ لماذا لم يأت معك؟
ـ من؟
ـ زوجك.
مدت السيدة يدها, ولامست نظارتها.
لاحظت رعشة تمشي علي وجهها وتغضن ملامحه.
ـ الله يرحمه.
ـ شدي حيلك.. منذ متي؟.
ـ من خمس سنوات.
ـ وتداومين علي( السواد) من يومها.
ـ أخذ معه شوقي إلي الدنيا.
.. أرادت أن تلون في الحديث قليلا, وتصرف اهتمام السيدة بعيدا عن الألم.. فأشارت إلي إعلان النادي عن رحلات إلي الساحل الشمالي.
النادي يقيم رحلة إلي مارينا
خذي أسرتك, وغيري جو.
تنهدت السيدة وصمتت.
ـ هل لا تزالين تعملين
مرت بيدها علي غلاف المجلة ووضعت إصبعها علي رقم7
ـ علي المعاش من سبع سنوات.. وأنت
ـ لا أعمل.
.. حدقت فيها السيدة وأمعنت.
ـ خسارة, ستضيقين بالفراغ.
وابتسمت وأشارت إلي يدها
ـ أري خاتم الزواج في يدك
تنهدت هي الأخري وقالت:
ـ رفض أن أعمل
ـ من؟
وتابعت في نبرة حزينة, لم يغب عن السيدة معناها.
ـ اكتفي بعمله.. وتركني.
صمتت ولم تكمل عبارتها فأكملت الأخري
ـ للفراغ.. والوحدة.
مدت السيدة رأسها, وحركت يدها, ولمست المحمول, والجريدة ونظرت إليها في ود وحنان:
ـ تدللي, تزيني, وتجملي, وأقبلي عليه
أغمسي كلامك في العسل.. واطلبي العمل
لا تزالين صغيرة.. ولن يرفض حين أراه
وخرجت منها آهة ممطوطة تنبهت لها السيدة
ألا ترينه.
ـ دائم السفر.
لا تحدثيني عن السفر.
.. قبضت بيدها علي الفنجان ونظرت في رسومه, وخطوطه كأنما تستقرئها.. حجبت النظارة السوداء بؤبؤ العين, ودمعا يترقرق..
خشيت أن تكون قد نكأت جرحا لدي السيدة فأسرعت تطلب ليمونا, وينسونا.. وتريثت حتي تهدأ.
أخرجت منديلا ومشت علي وجهها.
ـ سافر إلي إيطاليا.
وغام صوتها وهي تتابع
ـ ابني ضاقت به الحال, ترك أولاده ورحل.. منذ عام ونحن في كمد.
.. رفعت رأسها, واستمعت لصوت عصفورة تقف علي غصن قريب.
وتعقبتها وهي تطير من فنن إلي آخر, ثم تهوي بجناحيها إلي الأرض.. تدس منقارها, تتنطط. ثم تطير ثانية.
ـ كان متحمسا لثورة25 يناير.
ـ من؟
ـ ابني.
فردت جسمها, وأخذت نفسا عميقا وأخرجته.
ـ شارك في الوقوف, والتظاهر, واعتصم
كان يحلم بمصر جديدة, خالية من الفساد,
وهتف عيش وحرية وعدالة اجتماعية.
لمحت غضبة تطل من العينين, فحاولت أن تشغلها لكنها تابعت حديثها بنبرة عالية.
ـ صدمنا بالفوضي تعم البلاد, والاحتراب كل يوم بين الناس
تلفتت إلي القريبين منهما تقيس رد الفعل وقالت في أسي.
ـ نتيجة مؤسفة.
مدت السيدة يدها وصوبت سبابتها إلي الفراغ كأنما تفقأ عينا تتلصص عليها.
ـ كل يوم يتساقط القتلي والمصابون
استوت علي المقعد, مدت ساقيها وقالت وهي تحدق فيها.
ـ زاد الإرهاب وانتشر الخوف.
لملمت ذراعيها ووسدتهما صدرها النحيل.
كان ابني يعمل في شركة سياحية,
استغنت عن العمالة, ونقلت نشاطها إلي بلد آخر.
السياحة تأثرت بالثورة.
لم يستطع مواجهة ما حدث.. هو وأسرته.
توقفت عن الحديث ورمقتها في زهو وقالت: لي حفيدان في الثانوي والإعدادي.
نطقت السيدة في حدة كأنما تقدم شهادتها.
انطفأت الأنوار, وسدت الطرق.
جاءت الثورة فأفقدته وظيفته وخربت البيت.
دمعت عيناها واختلط صوتها بنواح: سافر ككل الشباب الذين يضيق بهم الوطن.
إلي أين؟
إيطاليا.
ترك زوجته وولديه علي أمل أن يستدعيهم ولولا أن والده ترك وديعة صغيرة في البنك ما استطعنا ترتيب حياتنا.
.. أخرجت السيدة من حقيبتها رسالة وأبرزتها, وحركتها بين أصابعها. ثم أودعتها ثانية في الحقيبة.
أرسل لي الرسالة.. يقول فيها إن عمله لا يدر عليه دخلا, وأن الغربة تأكل قلبه والحنين يقتله.
ونظرت إلي أعالي الشجرة التي تظلهما, لم تثرها الزنابق أو زهور الياسمين التي تملأ المكان وقالت في غضب واجم. فرقتنا الثورة.
حاولت أن تهدئ من غضبها وتبث فيها أملا تحتاجه
هو قادر علي مواجهة حياته الجديدة.
.. ولجها قلق طارئ لم يطرأ علي بالها وتساءلت: أيمكن أن يحدث لزوجها ما حدث لغيره؟, هل تتأثر أعماله ويتعرض إلي مشاكل مالية؟ هل يأتي يوم يفاجئها فيه باضطراره للسفر أو نقل نشاطه إلي مكان آخر؟
.. رأت السيدة في عينيها تهويما فنقرت بإصبعها علي الطاولة حتي تخرجها من حالتها.
ـ لا تذهبي بعيدا
وابتسمت وهي تقول لها.
ـ لا تنسي نصائحي واقتربي من زوجك..
وجمعت أشياءها, واتكأت علي حافة المقعد, نهضت سريعة وساعدتها, وضعت المجلة والجريدة تحت إبطها, واستندت علي عصاها, واستقام جسدها إلا من انحناءة عند الكتف.
عرضت علي السيدة أن تصاحبها فاعتذرت بأن سكنها قريب, وأنها ستستقل التاكسي بعد أن تلتقي بصديقتها.
.. حين نظرت إليها كأنها تستفهم! بادرت السيدة.. أن صديقتها تنتظرها في الحديقة القريبة من المدخل..
تألمت وهي تراها تسير بتؤدة, وتنقل خطوها في تثاقل.
.. أحبت أن تتريض في التراك, وتستدعي أثناء السير ما تحب أن تراه, وتعيشه من جديد.. فهي إن لم تجد من تصاحبها.. صاحبت ظلالها, ودوحتها.. لكنها هذه اللحظة تشعر بالقلق.
فالحديث مع السيدة أثار خاطرها وأصابها بالشجن الذي لن تتخلص منه سريعا, ستصطحبه معها إلي حين.
.. سارت بين ممرات الحدائق ومساحاتها الضيقة وشدت حقيبتها واتجهت إلي المدخل.
.. أثناء خروجها لمحت السيدة العجوز بنظارتها السوداء تجلس أمام رجل متقدم في العمر, لاحظت عليها اهتماما واضحا بالحديث, رأت بسمتها وهي تتكلم معه, ويدها وهي تربت علي مجلتها, وأصابعها وهي تترنم علي سطح الطاولة.
أراحها أن تستمع إلي ضحكة عالية تصدر منها, وأن وجهها مشت عليه فرحة طارئة فلم يفلتها.. راقبتها وهي تقيم جسدها وترجع إلي الوراء.. ربما لتخفي انحناءة الظهر.. استندت إلي ظهر المقعد وهي تربت بكفها علي ركبتها.. وتحدق في الرجل وتضحك له.
حمدت الله أن حالة السيدة تبدلت وأن الرجل الذي كانت تنتظره جاء, وتمتمت وهي تمرق من الباب.. لماذا كلما انفرد الرجل بالمرأة أطل الشغف من مكمنه ولاح يمرح فوق الوجوه؟!.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق