السفير عزت سعد سفير مصر الأسبق لدى روسيا أكد لـ « الأهرام « ان الرئيس عبد الفتاح السيسى حسم جدلا طويلا فى أوساط النخبة المصرية، حول جدوى تملك مصر برنامجا سلميا للطاقة النووية، بالموافقة على توقيع عقد إنشاء أول محطة للطاقة النووية لتوليد الكهرباء بتكنولوجيا روسية بقدرة ٤٨٠٠ ميجاوات، وتوقيع اتفاق قرض مع حكومة روسيا الاتحادية لتمويل انشاء المحطة، التى ستضم أربعة مفاعلات من الجيل الثالث، وسيسدد القرض على مدى ٣٥عاما من عائد الكهرباء المولدة من المحطة. وَمِمَّا لاشك فيه فإن توقيع العقد يمثل نقله نوعية لا يستهان بها فى العلاقات المصرية الروسية، بالنظر الى عدد من الاعتبارات، فى مقدمتها ان هذا المجال الجديد للتعاون بين البلدين وبمقتضى طبيعته يرسخ للشراكة الاستراتيجية بينهما، ويعطيها مضمونا ليس بوسع أى مراقب تجاهله، وبما يسمح بالمضى قدما فى توسيع التعاون المشترك ليشمل مجالات بناء حيوية تتجاوز التعاون الاقتصادى التقليدى والمبادلات التجارية العادية .
ويشير فى هذا السياق إلى أنه يمكن فهم اعلان سيرجى كيرينكو رئيس مجلس ادارة شركة «روس التوم» التى ستنفذ عقد إنشاء المحطة ان هذا العقد سيربط البلدين لمدة تقترب من ١٠٠عام، وان انشاء المحطة يستغرق ١٠ أعوام وأنها ستعمل لنحو ٨٠ عاما، كما يستدعى ذلك ما ذكره الرئيس بوتين خلال المؤتمر الصحفى فى ختام زيارته الاخيرة لمصر فبراير الماضى أن روس التوم لا تقوم بإنشاء منشأة نووية فقط، وإنما تنشئ «صناعة كاملة» ووصف بوتين تعاون روسيا مع الدول الاخرى فى هذا المجال بالـ «تعاون على مستوى مختلف» وكما أشار الرئيس السيسى خلال حفل التوقيع ان هذا التعاون يقوم على دخول مصر عصر المعرفة والعلم للاستخدامات السلميه للطاقة النووية، وتأهيل الكوادر والعلماء فى هذا المجال، وان الشركات المصريه ستقوم بتنفيذ نحو ٢٠٪من بنود العقد.
ويوضح ان الاعتبار الثانى يؤكد ان انشاء المحطة النووية يمثل لمصر حلما يراود المصريين، خاصة منذ تملك اسرائيل قدرات نووية للاستخدام العسكرى بدعم غربى « فرنسى بالأساس» ولا جدال فى ان تملك مصر برنامجا نوويا سلميا- فضلا عن مزاياه الاقتصادية والعلمية والطبية- هو رمز على استقلالية القرار المصري، وتحرره من الضغوط الغربية التى منعت ميلاد هذا البرنامج منذ عقود إرضاءً لإسرائيل التى ما زالت خارج منظومة معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية - كما تعطل بدعم من أصدقائها، وخاصة الأمريكيين، اعلان منطقة الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية، خاصة ان جميع دول المنطقة هى أطراف فى المعاهدة.
ومن المهم الاشارة هنا الى تأكيد الرئيس السيسى فى كلمته التزام مصر الكامل بأحكام المعاهدة . ويكتسب التأكيد أهمية فى ضوء التداعيات الاقليمية للصفقة النووية الايرانية، التى وقعت بين ايران ومجموعة الـ٥+١ وما أثارته من مخاوف لدى بعض دول المنطقة، وخاصة إسرائيل واصدقاءها ممثلة فى الولايات المتحدة وخرجت بتعهدات أمريكية بمزيد من السلاح، بقيمة ٣٠مليار دولار للسنوات العشر القادمة .
ويشير السفير سعد إلى أنه من المعلوم ان مصر كانت قد بدأت التفاوض مع الروس بجانب دول اخرى، كفرنسا وكوريا الجنوبية، حول التعاون فى مجال الاستخدامات السلميه للطاقة النوويه منذ بدايات الألفية الثالثة، الى ان وقع البلدان اتفاق إطار تعاون فى هذا الشأن فى موسكو ٢٠٠٨ قبل انتهاء الولاية الرئاسية الثانية للرئيس بوتين .
ويوضح أن الاعتبار الثالث أنه- وكما ان العقد بين البلدين يحقق مصالح مؤكدة لمصر- فإنه ايضا يحقق مكاسب جيواستراتيجية واقتصادية هائلة لروسيا فى المنطقة، ويفتح الباب أمامها لمزيد من العقود؛ خاصة دول الخليج . ومن المعلوم ان العام الماضى شهد عددا من الصفقات النووية التى أبرمتها موسكو مع دول عدة لبناء محطات نورية، بما فيها الهند وتركيا وفيتنام وبنجلاديش، كما وقعت مع ايران بروتوكولا فى هذا الإطار.
واوضح أن الاعتبار الرابع انه كما كان الحال مع شركاء روسيا الكبار كالصين والهند وإيران فإن التعاون فى مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية يتيح فرصا للتعاون مع موسكو فى مجالات جديدة، مثل استكشاف الفضاء والتكنولوجيا العسكرية والتعدين .
ويكشف السفير سعد عن أن الاعتبار الخامس يتمثل فى أنه ليس بإمكان المراقب تجاهل الربط بين مسألة توقيع عقد انشاء المحطة النووية وكارثة سقوط الطائرة الروسية فى سيناء، والتى ألقت بظلالها على علاقات البلدين مؤخرا، خاصة بعد إيقاف الرحلات الجوية الروسية من وإلى مصر. وقد يفسر البعض هذا الربط أن العقد نوع من التعويض أو الترضية للجانب الروسى بسبب كارثة الطائرة، غير ان الواقع يغاير ذلك تماما، ولعل سوء الحظ او المصادفة السيئة هو ما استدعى مثل هذا الربط، فقد وقعت مصرالعقد ليس فقط لأنها كانت قد درست « عروضا تقدمت بها شركات ودوّل وأن العرض الروسى كان الأفضل من المنظور الاقتصادي» على حد قول الرئيس السيسي، بل وأيضا أنه كان يتعين توقيع العقد قبل نهاية العام الجارى بسبب تعقيدات إدارية تتعلق بالقرض الروسى المقدم لتمويل بناء المحطة، والمفترض أن يدرج فى الموازنة الفيدرالية للعام ٢٠١٦ الذى يبدأ فى اول يناير من كل عام .
وبعد توقيع العقد فإن السفير سعد يرى أن الكرة ستكون فى ملعب الروس فى دعم العلاقات، وسيتوقف ذلك على مدى قدرة البلدين على احتواء الانعكاسات السلبية التى وقعت بسبب حادث الطائرة لاسيما عودة السياحة الروسية لمصر مؤكدا انه يجب على القيادة الروسية او الجانب الروسى ان يعيد النظر فى قراره الخاص بمنع استقبال رحلات مصر للطيران لموسكو لان ذلك سيؤثر سلبيا على اتصالاتنا المشتركة وايضاً يجب عقد الدورة الجديدة للجنة المشتركة للتعاون الفنى بين البلدين والتى كان مقررا عقدها الشهر المقبل فى شرم الشيخ الا انه تم تأجيلها الى يناير .
السد العالى الجديد
من جانبه فإن السفير محمد شاكر، ممثل المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية سابقا فى الأمم المتحدة بنيويورك عام ١٩٨٢ و ١٩٨٣ أوضح لـ» الاهرام « ان مصر قامت خلال فترة تولى المهندس ماهر أباظة وزارة الكهرباء والطاقة بمفاوضات مع عدد من الدول التى تصنع المفاعلات النووية ووقعنا اتفاقيات تعاون ووقتها لم نكن قد وقعنا مع الروس، وإنما كنّا قد وقعنا مع ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة، بالإضافة لدول اخرى، للتعاون فى مجالات مختلفة تتعلق بالطاقة النووية. والحقيقة أن كل هذه الاعمال يشملها كتاب أبيض أصدرته وزارة الخارجية المصرية وتعليمات الوزير بطرس غالى فى ذلك الوقت، تضمن قصة الطاقة النووية فى مصر منذ بداية التفكير فيها .
ويشير الى أن توقيع الاتفاق مع الجانب الروسى بمثابة «سد عالي» جديد لمصر مع الروس، فمثلما بنينا السد العالى مع الروس سنبنى المحطة النووية معهم ويمثل ذلك إنجازا ضخما ومجهودا كبيرا لروسيا، وعودة لها الى المنطقة، وممارسة نشاط مهم مع مصر ومع دول مجاورة لمصر .
ويوضح ان العلاقات السياسية بين البلدين ستتطور.. ليس فقط بسبب المفاعل الجديد، وإنما لوجود تحديات مشتركة، فى مقدمتها الاٍرهاب وسط تحركات دولية لمكافحته .
أخيرا .. سيتحقق الحلم
و كشف الدكتور على الصعيدي، الذى عمل مديرا للتعاون الفنى الأسبق بالوكالة الدولية للطاقة الذرية خلال الفترة من ١٩٩٣ وحتى ١٩٩٩ ووزيراللكهرباء والطاقة من ١٩٩٩وحتى ٢٠٠٤ثم عضوا للجنة الاستشارية الدولية للطاقة النووية سابقا فى الفترة من ٢٠٠٤وحتى ٢٠١٣ - فى تصريحات لـ»الأهرام «،عن ان توقيع عقد انشاء المحطة النووية لتوليدالطاقة هو حلم كنا نتمناه منذ عشرات السنين وعقود، حيث عندما تخرجت فى كلية الهندسة فى ١٩٥٧ وعملت فى هيئة الطاقة الذرية والتى احد أهدافها الرئيسية هو الاستفادة من المفاعلات النووية فى الأغراض المختلفة. وكانت هناك أكثر من محاولة للدخول الى هذا المجال فى الستينيات ولم تكتمل نظرا لحرب ١٩٦٧ وكانت المفاوضات مع شركات أمريكية، ثم فى السبعينيات وصلنا الى مرحلة متقدمة، ثم كانت زيارة الرئيس نيكسون لمصر، الذى وعد بتزويد مصر واسرائيل بمحطات نووية، ثم حدثت تفجيرات الهند وباكستان فأصدرت أمريكا قانونا خاصا بنقل التكنولوجيا النووية للدول الاخرى، وان يكون لها الحق فى التفتيش عليها، لكن مصر رفضت ذلك فتوقفت محاولة السبعينات، ثم كانت محاولات فى الثمانينيات، وطرحت مناقصة وقدمت عروض من دول مختلفة لكن جاءت حادثة تشيرنوبيل فكان من الصعب ان يتقبل الجمهور المحطات النووية رغم الشرح والتوضيح بان هذا المفاعل لا يصدر خارج روسيا، لكن التخوف كان واضحا. ثم ظهر الغاز وقررت الحكومة الاعتماد على الغاز ووضع المشروع النووى على « الرف» فى ذلك الوقت .
ويشير الى انه بدأت محاولات بسيطة فى ٢٠٠٧ و٢٠٠٨ لكنها بطيئة لتحسس الجو ولم يكن هناك حماس والمحطات النووية فى كل دول العالم هى قرار استراتيجى على أعلى مستوى ولابد ان يكون هناك حماس لهذا الموضوع.
ويقول: بالاشارة الى ما نحن فيه واقليميا وما تداول حول ايران و برنامجها النووى والذى بدأ فى العقد الماضى بدأت دول المنطقة تتحدث عن ضرورة الدخول فى الطاقة النووية، واتفقت الإمارات مع كوريا الجنوبية على اربع وحدات فى ٢٠١١ وهم فى مراحل متقدمة لأول وحدة تدخل بعد نحوعام ونصف العام فى العمل، كما ان تركيا كانت لفترة تدخل فى مناقصات وتنسحب الى ان تعاقدت مع روسيا على اربع وحدات منذ عامين، كما تعاقدت ايران قبلها مع روسيا على وحدتين بمحطة بوشهر، وتعاقدت الاْردن لدراسة المراحل الأولى لوحدتين نوويتين مع روسيا.
اما السعودية فقد وقعت اتفاقا مع روسيا للدراسة حيث أعلنت عن رغبتها لانشاء ١٦مفاعلا نوويا قبل ٢٠٣٠ وبالتالى فنحن اخيراً بدأنا فى برنامج نووي، وقد كنّا اول دولة فى المنطقة تدخل فى هذا المجال بإنشاء هيئة الطاقة الذرية بأنشاص والمفاعل التجريبى من روسيا الذى عمل عام ١٩٦١وكان لى الشرف ان أكون من المهندسين الذين بنوه وقاموا بتشغيله، فليس متصورا بعد ان كنّا اول دولة فى المنطقة ألا ندخل فى هذا البرنامج.. ويقول إن المسئولين انتهوا من التفاوض والتعاقد فى مرحلة تعتبر بالمقاييس الدولية مرحلة قصيرة، مما يضعنا على الخطوات الأولى للبرنامج .
وحول الدول الغربية وما اذا كانت هناك تخوفات من بدء مصر برنامجا نوويا يقول الدكتور الصعيدى إن الدول الغربية تنظر لهذا الموضوع بحذر، و لم تكن مرحبة منذ زمن بأن ندخل فى هذا المجال، لكن الرئيس أعلنها بشكل واضح وصريح بأن هذا البرنامج برنامج سلمي، وأن مصر ملتزمة بمنع انتشار الأسلحة النووية، وذلك ليطمئن من لديهم تخوف بالنسبة هذا الموضوع .