وإذا تصفحنا أوراق التاريخ الحديث دون الحاجة للرجوع إلى الماضى البعيد فسنجد الوقائع تروى على لسان شخصيات مهمة وتنتمى لتلك الدول الكبرى.
فعلى سبيل المثال بعد تأميم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قناة السويس، وإعلان الشركة الدولية للقناة شركة مساهمة مصرية، فقد أعقب ذلك هجوم إسرائيلى على سيناء، وحسب خطة الخداع طالبت بريطانيا وفرنسا كلا من مصر وإسرائيل بانسحاب قوات كل منهما مسافة عشرة كيلومترات عن القناة، تحت دعوى الفصل بين الطرفين المتقاتلين لحماية القناة.
ولأن مصر تأكدت من أنها مؤامرة ثلاثية ضدها فقد رفضت هذا الطلب، وعلى الفور بدأت بريطانيا وفرنسا إنزال قواتهما فى مدن القناة فيما عرف بالعدوان الثلاثى على مصر 1956.
وبعد سنوات كشفت وثائق من الأرشيف القومى البريطانى عن نسخة من إتفاق سرى تم بين الدول الثلاث، ووقعه قادة بريطانيا وفرنسا وإسرائيل فى إجتماع تم عقده بينهم فى ضاحية «سيفر» فى باريس، وتعهدت فيه بريطانيا وفرنسا بغزو مصر.
وبعد مرور 35 عاما على هذا الإتفاق السرى فى ضاحية «سيفر»، والذى كان يحتفظ به بار أون، مساعد موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى الأسبق، فقد قال أون بعد كشف هذا الاتفاق، «كان من مصلحتنا أن يعرف العالم أننا لم نكن وحدنا فى هذا الهجوم على مصر».
وجاء كشف أون لتلك الحقائق فى ذلك الوقت بعد أن بدأت دوائر سياسية وأكاديمية تكتشف حقيقة عدوان إسرائيل على مصر عام 1956، وجرت مناقشات سياسية وأكاديمية تتهم إسرائيل بأنها دولة معتدية، فأرادت إسرئيل أن تظهر للعالم أنها لم تكن وحدها فى القيام بالهجوم على مصر، ولكنها فعلت ذلك بالإشتراك مع بريطانيا وفرنسا لمصالحهم الشخصية وليس كما أعلنوا فى ذلك الوقت وروجته وسائل إعلامهم.
وكان الإعلام الغربى فى ذلك الوقت يروج لوجهة النظر التى أكدت كذبا أن أسباب العدوان البريطانى الفرنسى هى للفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية.
وكان رئيس الوزراء البريطانى إيدن يرى أن تأميم القناة يعرض إمدادات أوروبا من البترول للخطر ويعزز مصالح الإتحاد السوفيتى فى المنطقة، وهو السبب الحقيقى وراء العدوان.
المناورة الثانية وبنفس الأسلوب كانت فى حرب 1967، والتى عرفت بإسم "خطة الخداع الإستراتيجى للرئيس الأمريكى جونسون"، فخلال شهر مايو 1967 كان الرئيس جونسون يستمع بشكل مستمر من رئيس مخابراته ريتشارد هيلمز إلى تقارير عن إستعدادات إسرئيل للحرب على مصر، أى أنه كان على علم تام بما ستقوم به إسرئيل فى 5 يونيو 1967.
وحين بدأ العالم يشعر بزيادة التوتر بين مصر وإسرائيل فى أواخر مايو، وأن الحرب وشيكة بينهما، فقد أرسل جونسون فى 3 يونيو قبل العدوان الإسرائيلى بيومين، مبعوثه تشارلز يوست إلى مصر حاملا رسالة رسمية تؤكد أن من يبدأ الحرب ستتخذ ضده إجراءات شديدة، ووجه جونسون دعوة لمصر بأن يوفد الرئيس الراحل عبد الناصر نائبه زكريا محيى الدين إلى واشنطن للتفاوض والوصول إلى تسوية سلمية. وبالفعل إستعد زكريا محيى الدين للسفر إلى واشنطن صباح يوم 5 يوينو 1967، وهو الوقت الذى بدأت فيه إسرئيل الهجوم على مصر، أطمأن جونسون إلى أن خداعه لمصر حقق نتيجته، وأنها لم تبدأ الحرب، وظلت جهات إعلامية أمريكية كثيرة تتحدث عن أن مصر هى الدولة المعتدية وليست إسرائيل، لكن هذه الكذبة الكبرى أخذت تتضخم بفعل الأجهزة الإعلامية الغربية، التى رددت نفس الموقف الإسرائيلى عن حرب 1967، وهو أن إسرائيل قد اعتدى عليها.
وفى 28 فبراير 1968 إعترف إسحاق رابين الذى كان رئيسا للأركان عام 1967، بأن إسرئيل هى التى بدأت الحرب، وقال فى حديث مع صحيفة اللموند الفرنسية، "لم أكن أعتقد أن عبد الناصر كان يريد الحرب، فالقوة التى بعث بها إلى سيناء يوم 14 مايو لا تكفى لشن هجوم على إسرائيل، وهو يعلم ذلك ونحن أيضا نعلمه".
وفى التاريخ القريب، فإن الخدعة الكبرى التى أطلقتها حكومة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش فى أمريكا لتبرر بها غزو العراق، وحشدت وراءها كل مؤسساتها السياسية والإعلامية، فقد ثبت كذبها بعد وقت قصير ومن جانب خبراء ومسئولين أمريكيين.
كان بوش قد أعلن أنه سيغزو العراق ردا على امتلاك صدام حسين أسلحة نووية، بل أن الكذب الإعلامى وصل إلى ترويج وجود علاقة بين صدام وتنظيم القاعدة، ثم ثبت أن صدام لم تكن لديه أى أسلحة نووية، واكتشف الرأى العام الأمريكى أن رئيسه يكذب وأن ما يروج فى الصحف ووسائل الإعلام أكاذيب، ففى استطلاع أجرته شبكة CNN عام 2003، وقبل غزو العراق، قالت غالبية الأمريكيين (54%) إن إدارة بوش ضللت عامدة الرأى العام بخصوص وجود أسلحة دمار لدى صدام.
الكذب عمره قصير والخداع السياسى أقصر عمرا، فعندما تذاع مداولات ومكاتبات ومحاضر اجتماعات تحفظ فى الأرشيف السرى للدول الكبرى، ويرفع عنها الحظر بعد مرور 30 سنة أو تتسرب من داخل الخزائن السرية لهذه الدول، فإنها حتما تكشف المؤامرات التى تمت إدارتها بطريقة الخداع السياسى.
على ضوء ذلك كله يبدو وكأن الغرب مازال يسير على نفس إستراتيجية الخداع السياسى لأهداف يراها هو فى مصلحته، وهذا ما جرى فى الحملة المكثفة للحديث عن قنبلة إنفجرت داخل الطائرة الروسية التى سقطت فى سيناء قبل أن تجرى التحقيقات الفنية التى دعت مصر للمشاركة فيها، بالإضافة إلى جهات دولية مختصة، كان من المفترض ألا يسارع المسئولون والإعلاميون فى الغرب بترويج معلومات غير مؤكدة، وكان يجب عليهم الانتظار حتى ظهور الحقيقة من خلال التحقيقات التى تجرى وليس قبل إنتهائها، ولكن هناك مصالح شخصية لهذه الدول تتطلب أن يتم الإعلان الآن والترويج لها وهو ما سيتم الكشف عنه إن عاجلا أو آجلا كما ظهرت غيرها من الحقائق.