زيارة كارتر لحاملة الطائرات الأمريكية فى بحر الصين الجنوبى، التى أعلنت الصين رفضها لها ولغيرها من التصرفات الأمريكية التى تدفع فى اتجاه «تسليح منطقة بحر الصين الجنوبى»، جاءت بعد تصاعد موجة جديدة من التوتر فى المنطقة بين بكين وواشنطن، عقب هدوء نسبى للأوضاع بعد زيارة الرئيس الصينى شى جينبينج الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية فى شهر سبتمبر الماضى، والتى شهدت اتفاقا بين الجانبين على بناء نمط جديد من العلاقات بين الدول الكبرى، وقد تأجج التوتر مرة أخرى بسبب دخول السفينة الحربية الأمريكية «لاسين» إلى المياه القريبة من جزر «نانشا» فى بحر الصين الجنوبى، فى 27 من أكتوبر الماضى، دون تنسيق أو إذن من الحكومة الصينية، وردا على ذلك استدعت الخارجية الصينية السفير الأمريكى لدى الصين ماكس باوكوس فى اليوم نفسه، وسلمته «احتجاجا شديد اللهجة» واعربت له عن «الاستياء الشديد» من هذا الإجراء، الذى اعتبرت أنه يهدد سيادة الصين ومصالحها الأمنية ويمثل استفزازا خطيرا.
إفشال اجتماع الآسيان
دخول المدمرة الأمريكية «لاسين» إلى المياه القريبة من جزر «نانشا» التى تعتبرها الصين مياها إقليمية، لم يكن السبب الوحيد لتصاعد حدة التوتر بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية فى الفترة الأخيرة، فزيارة وزير الدفاع الأمريكى حاملة الطائرات «يو إس إس تيودور روزفلت» فى بحر الصين الجنوبى جاءت بعد مشاركته فى اجتماع وزراء دفاع رابطة دول شرق آسيا «الآسيان» وشركاء الحوار، والمعروف باجتماع «الآسيان بلس»، والذى عقد فى ضواحى العاصمة الماليزية كوالالمبور، بحضور وزراء دفاع الدول الـ10 الأعضاء فى الآسيان، بالإضافة إلى أستراليا والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزلندا وروسيا والولايات المتحدة، وشهد هذا الاجتماع توترا شديدا وفشل فى إصدار بيان مشترك، بسبب قضية بحر الصين الجنوبى. وقد حملت الصين دولا قالت إنها من خارج المنطقة مسئولية هذا الفشل، فى إشارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قال المكتب الإعلامى لوزارة الدفاع الصينية إن الجانب الصينى نسق وتواصل بشكل وثيق مع الدولة المضيفة ماليزيا، الرئيس الدورى للاجتماع، بشأن مسودة الإعلان المشترك، وأنه تم التوصل إلى توافق مع ماليزيا ودول الآسيان الأخرى بشأن مضمون الوثيقة، لكن بعض الدول من خارج المنطقة تجاهلت هذا التوافق وحاولت بالقوة إضافة محتويات لم تناقش خلال الاجتماع فى الإعلان.
تحذيرات صينية
كما جاءت زيارة وزير الدفاع الأمريكى عقب لقائه وزير الدفاع الصينى على هامش اجتماع «وزراء دفاع الآسيان بلس»، وهو اللقاء الذى حث فيه وزير الدفاع الصينى تشانج وان تشيوان الولايات المتحدة الأمريكية على عدم اتخاذ المزيد من التصرفات «الخطيرة» التى تهدد سيادة الصين ومصالح أمنها، وأبلغ الوزير الصينى خلاله نظيره الأمريكى أن الصين تعارض بشدة التصرفات الأخيرة للولايات المتحدة بإرسال سفينة تابعة للبحرية دون إذن الصين إلى المياه القريبة من جزر نانشا الصينية، معتبرا أن ذلك يهدد سيادة الصين ومصالح أمنها، ويقوض السلام والاستقرار فى المنطقة، وحذر وزير الدفاع الصينى من أن قضية بحر الصين الجنوبى تتعلق بالمصالح الأساسية للصين، ولن يسمح الشعب والجيش الصينى لأى أحد بأن يتعدى على سيادة الصين والمصالح المتعلقة بها.
كما حذرت الخارجية الصينية على لسان المتحدثة الرسمية هوا تشون يينج الولايات المتحدة الأمريكية من أى استفزازات أخرى فى بحر الصين الجنوبى، وأكدت أن «الصين ثابتة على إصرارها وتصميمها على الحفاظ على السيادة الإقليمية والأمن والحقوق البحرية المشروعة»، وقالت: «سنرد بحسم على الاستفزاز العمد من أى دولة»، مشيرة إلى أن الصين ستراقب الوضع عن كثب. وجاءت تحذيرات الخارجية الصينية بعد تقارير إعلامية نقلت عن مسئول دفاعى أمريكى رفض الكشف عن اسمه أن الجيش الأمريكى يخطط للقيام بدوريات فى بحر الصين الجنوبى مرتين كل 3 أشهر، لتذكير الصين والدول الأخرى بالحقوق الأمريكية التى ينص عليها القانون الدولى.
حرية الملاحة
هذه الموجة الجديدة من التوتر فى بحر الصين الجنوبى بين بكين وواشنطن ليست الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، نظرا للأهمية الاستراتيجية للمنطقة، وإصرار كل طرف على ما يعتبره مصالح عليا لا يمكن التفريط فيها، فبحر الصين الجنوبى الذى يقع غرب المحيط الهادى، وهو متجزئ منه، وتبلغ مساحته 3.5 مليون كيلومتر مربع، ويعتبر مع البحر المتوسط أكبر بحار العالم، اكتسب أهمية استراتيجية خاصة بعد نمو التجارة العالمية، حيث تمر منه أكثر من 100 ألف سفينة بضائع سنويا، حسب تصريح لوزير الدفاع الصينى، كما زادت أهميته الاستراتيجية بسبب الاعتقاد أنه يحتوى على احتياطات هائلة من النفط والغاز الطبيعى، بالإضافة إلى مصايد الأسماك الغنية.
وهو ما جعل الدول المطلة عليه تتنافس فى الاستيلاء على الجزر المتناثرة فيه، التى يتجاوز عددها 205 جزر، معظمها جزر غير مأهولة بالسكان، ويتشكل بعضها من عدد قليل من الصخور.
وتطالب خمس دول، هى الفلبين وماليزيا وفيتنام وتايوان وبروناى بالسيادة على أجزاء من بحر الصين الجنوبى، فيما تعتبر الصين أن معظم مساحته أراض صينية، وتعتقد الصين أن الخلاف بينها وبين الدول الأخرى المطلة على بحر الصين الجنوبى يمكن حلها بالحوار المباشر، وترفض تدخل أى أطراف خارجية، خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، التى ترى الصين أنها تدفع المنطقة نحو التسلح ومخاطر نشوب صراعات وحروب، وفى هذا الإطار أعلنت الصين رفضها حكم محكمة العدل الدولية فى لاهاى بقبول طلب الفلبين التحكيم فى بحر الصين الجنوبى، معتبرة أنه حكم باطل كأن لم يكن وليس له أى أثر ملزم على الصين، حيث إن «الصين لديها سيادة لا تنازع على الجزر الواقعة فى بحر الصين الجنوبى والمياه المجاورة».
واعتبر المراقبون أن زيارة الرئيس الصينى شى جينبينج منذ أيام إلى فيتنام، والتى تعد الأولى له كرئيس، ستكون خطوة فى سبيل حل مشكلات بحر الصين الجنوبى مع الدول المجاورة عن طريق الحوار، حيث كانت العلاقات بين الصين وفيتنام قد تأثرت سلبيا بسبب النزاع على بحر الصين الجنوبى.
جزر نانشا
تعتبر جزر «نانشا» واحدة من أهم مفردات قضية بحر الصين الجنوبى، حيث قامت الصين بعمليات بناء عليها وصفتها بـ»استصلاح الأراضى وسلاسل الصخور»، وقالت إنها تهدف إلى تحسين ظروف العمل والمعيشة للسكان على الجزر، وأن المنشآت التى أقامتها تخدم الملاحة الدولية وعمليات الإنقاذ، وأن الصين قدمت هذه المنشآت للمجتمع الدولى باعتبارها قوة كبيرة، وفى عدة مناسبات أكد وزير الخارجية الصينى وانج يى أن «عمليات البناء الضرورية على جزر الصين وصخورها أمر مختلف تماما في طبيعته عن سيطرة بعض الدول على الجزر الصينية وإقامة منشآت هناك»، معتبرا أن سيادة الصين على الجزر مدعومة قانونا وترتكز على حقائق، وأن الصين تشعر بأنها ضحية لسيطرة بعض الدول واحتلالها الجزر منذ اكتشافها للنفط فى بحر الصين الجنوبى فى الستينيات.
فى المقابل تعتبر بعض الدول المطلة على البحر، أن ما قامت به الصين على تلك الجزر ليس من حقها، وتدعم الولايات المتحدة الأمريكية وجهة النظر تلك، وتصر على أن بحر الصين الجنوبى منطقة ملاحة دولية ومن حق القوات الأمريكية القيام بدوريات فيه، وتعلن خشيتها من أن تفرض الصين قيودا على حركة الملاحة بعد اكتمال أعمال البناء على الجزر، وهو ما تنفيه الصين دائما وتؤكد حرصها على حرية الملاحة الدولية، وحمايتها لها، وأن المنارات التى تم إنشاؤها تسهم فى ذلك، وتؤكد أن مسألة الجزر لا تخضع للنقاش وموقف الحكومة الصينية منها ثابت ولن يتغير بأنها أرض صينية.
حوادث بالذاكرة
التوتر الصينى- الأمريكى حول بحر الصين الجنوبى شهد عددا من الحوادث والمحطات المهمة التى وصلت بهذا التوتر أحيانا إلى حافة الاشتباك، ففى شهر مايو الماضى حلقت طائرة استطلاع أمريكية فوق بحر الصين الجنوبى، وأنذرت القوات المسلحة الصينية الطائرة الأمريكية ودفعتها إلى الابتعاد، وقد ذكرت هذه الحادثة بما جرى فى الأول من أبريل عام 2001، حينما قامت طائرة تجسس أمريكية من طراز (EP-3) بعمليات استطلاع فوق المياه القريبة من جزيرة هاينان الصينية، فقام سلاح الجو للقوات البحرية الصينية بإرسال طائرتين مقاتلتين للمراقبة والتصدى، لكن إحداهما اصطدمت بطائرة التجسس الأمريكية فى المياه الاقتصادية للصين، ما أدى لسقوط الطائرة الصينية ومقتل قائدها، كما دفع طائرة التجسس الأمريكية إلى الهبوط اضطراريا فى مطار لينجشوى بجزيرة هاينان الصينية دون إذن الطرف الصينى، ووجهت الصين وقتها احتجاجا شديد اللهجة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأجبرت الحكومة الأمريكية على تقديم اعتذار عن الأمر، عبر سفيرها فى بكين، بعد رفض أمريكى لذلك فى البداية، وبعد الاعتذار سمحت الصين بمغادرة 24 عسكريا أمريكيا كانوا على متن طائرة التجسس، وقامت بتفكيك الطائرة الأمريكية قبل نقلها عبر طائرة نقل لا تتبع القوات الأمريكية.
ومع التوترات الأخيرة يتأكد أن منطقة بحر الصين الجنوبى ستظل مسرحا لاختبار القوة والصبر بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، مع إصرار كل طرف على موقفه، وتمسك الصين بأن أمريكا ليست طرفا فى مشكلة بحر الصين الجنوبى، وأن دورها يعقد المشكلة وهو جزء منها وليس جزءا من حلها.