ومع ذلك دعونا نستوضح الملابسات ونمط اللثام عن بعض أوجه القصور لنخلص إلى أن كثيرا من العوار يشوب علاقاتنا مع »ملف السياحة الروسية«، وإن كان هناك ما يخفف من وطأة ما جرى إذا تذكرنا سويا ما حدث من حوادث مشابهة داخل روسيا ذاتها، فضلا عما يقال عن أن »داعش« حاولت الانتقام من روسيا على الأراضى المصرية.
وانطلاقا من ذلك، نستعرض ما سبق واعترفت به موسكو، ومنه أن الإرهاب لا وطن له ولا دين .. وكانت موسكو قد حذرت من تدفق الإرهابيين من أفغانستان والعراق إلى سيناء، وطالبت بسرعة توخى الحذر بعد أن ثبت تهريب أسلحة الجيش الليبى إليهم بمعرفة دولة عربية بعينها، وهو ما سجلناه فى حينه على صفحات »الأهرام« من موسكو.
فماذا تقول موسكو الرسمية ؟ ولماذا اضطر الكرملين إلى اتخاذ مثل ذلك القرار رغم كل مرارته وثقل وطأته على الجانبين الروسى والمصري. وماذا يقول العقلاء من أصحاب النوايا الحسنة؟ وكيف هى مشاعر المتربصين لنا ممن كانوا ولا يزالون تواقين لضرب العلاقة المصرية الروسية التى تسير فى خط صاعد منذ تولى الرئيس السيسى مقاليد الحكم فى مصر؟
قال الرئيس الروسى إنه مضطر إلى قبول توصية اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب، بشأن جدوى وقف الرحلات الجوية الروسية إلى مصر، وإعادة الرعايا الروس من هناك إلى حين استيضاح أسباب الحادث. وقال ديمترى بيسكوف الناطق الرسمى باسم الكرملين إن الرئيس بوتين أصدر تكليفاته للحكومة الروسية بإعداد الآلية اللازمة لتنفيذ توصية الأجهزة الأمنية، وتأمين عودة المواطنين الروس إلى مصر، مؤكدا أن ذلك لا يعنى الاتفاق مع فرضية احتمالات وقوع العمل الإرهابي. وأضاف أن بوتين طالب بتوخى الحذر، وعدم تعجل إصدار الأحكام حتى الانتهاء تماما من التحقيقات، وضرورة التعاون مع السلطات المصرية التي اعترف كل المسئولين الروس بحسن تعاونها.
وقد راح الكثيرون يتساءلون عن أسباب هذا التحول المفاجئ فى الموقف الروسي؟ ولماذا هكذا سريعا تحول بوتين ليصدر مثل هذا القرار؟ إن قليلا من التفكير فيما سبق الإعلان عن القرار يفضى بنا إلى مكالمته الهاتفية مع ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني. فإن الدلائل تشير إلى أن كاميرون، وعلى حد اعتقادي، أبلغ الرئيس الروسى بما يؤكد ما كان قد سبق أن توصل إليه بوتين شخصيا وهو رجل المخابرات المحترف، وإن لم يفصح عنه صراحة.
ولعل بوتين تذكر احتمالات تكرار ما حدث لديه فى روسيا فى 24 أغسطس 2004 حين قامت شيشانيتان من فصيل »الأرامل الانتحاريات«- الذي أشرف على تشكيله الإرهابى الشيشانى شامل باسايف بعد الحرب الشيشانية الثانية- بتفجير طائرتين روسيتين »تو-154« و«تو-134»، بعد اقلاعهما من مطار موسكو؛ الأولى فى اتجاه فولجاجراد ، والثانية كانت فى طريقها إلى سوتشي. وكانت الطائرتان قد انفجرتا ايضا فى الجو بعد اقلاعهما من موسكو على ارتفاع يقترب من العشرة الاف متر ، لتسقط الاولى على مقربة من تولا شرقى موسكو، والثانية فى الجنوب فى مقاطعة روستوف .
ونعود إلى أخبار كارثة الطائرة الروسية، لنشير إلى أن الأوساط الروسية تحولت اليوم، وبعد قرار الرئيس بوتين حول وقف الطيران إلى مصر، لتركز تعليقاتها وتصريحاتها حول احتمالات »تفجير قنبلة«، جرى تهريبها إلى الطائرة. وفى هذا الصدد ننقل ما قاله إيجور كوروتشينكو مدير مركز تحليل التجارة العالمية للسلاح ورئيس تحرير مجلة »الدفاع الوطني« حول أن الفرضيات يمكن أن تكون كثيرة، ومنها احتمالات وضع القنبلة ، وهو ما يتطلب الكثير من التحقيقات الدقيقة، فى نفس الوقت الذى يجب ان نتوقف فيه عند احتمالات قيام إرهابيى »داعش« بمحاولة الانتقام من روسيا جرًاء العملية العسكرية فى سوريا، إلى جانب أننا لا نستطيع إنكار وجود أصحاب المصلحة فى إفساد العلاقات بين موسكو والقاهرة والتى تسير فى خط صاعد .
وكانت الأوساط السياحية فى روسيا قد انخرطت فى جدل احتدم طويلا حول عقلانية إجلاء السائحين الروس من مصر، على غرار ما فعلته بريطانيا، لتخلص فى نهاية الأمر إلى عدم الحاجة الى ذلك. وقالت إنه- وحرصا على سلامة السائحين وتداركا لأية أخطاء أو هفوات محتملة- فقد جرى الاتفاق على عودة السائحين دون أمتعتهم، عدا الشخصية والخفيفة منها، على أن يجرى تسليم بقية الأمتعة لإرسالها على متن طائرات خاصة إلى كل من موسكو وسان بطرسبورج، فيما سيتم توزيعها لاحقا على بقية المدن الروسية على العناوين المرفقة. وأضاف المسئول السياحى الروسي أن الركاب سيعودون دون حقائبهم على غرار ما فعلته بريطانيا فى نطاق إجراءات تأمين إضافية للرحلات. وقال إنه من المرجح أن تتولى شركات شحن جوى روسية خاصة الاضطلاع بهذه المهمة بموجب ما جرى الاتفاق حوله فى الاجتماع الذى عقدته الحكومة الروسية لمناقشة هذه القضايا.
على أن الجدل لم يتوقف عند هذا الحد فقد احتدم على نحو أكثر حدة ولا يزال، حول عملية تعويض السائحين والاستجابة لرغباتهم. وكان عدد من شركات السياحة الصغيرة رفض رد قيمة بطاقات الرحلات السياحية، وعروض تركيا أو قبرص بديلا للمنتجعات المصرية، بينما اتخذ وكلاء الشركات السياحية الكبرى قرار إتاحة فرصة الخيار أمام السائحين الروس. ونقلت وكالة »رويترز« عن مصادر اتحاد الوكلاء السياحيين الروسى تصريحاتها حول أن جميع السائحين، الذين كان مقررا أن يزوروا مصر فى الأيام القادمة، وافقوا على السفر إلى تركيا عوضا عنها، إلى جانب تصريحات إيرينا تيورينا الناطقة باسم الاتحاد التى نقلتها وكالة »إنترفاكس« حول أنه »سوف يتم فى المستقبل القريب تغيير اتجاه الرحلات، التى كان من المقرر أن تذهب الى مصر صوب أنطاليا، وان جميع السائحين تقريبا وافقوا على ذلك«، وهو ما رفضه سائحون كثيرون.
وكانت القنوات التليفزيونية الروسية ومنها الرسمية نقلت تصريحات آخرين كثيرين من السائحين الروس التى أعربوا فيها عن سخطهم وتذمرهم بسبب محاولة بعض الشركات السياحية استغلال الفرصة والاتجار بآلام وكوارث الآخرين . وأشار هؤلاء إلى تعمد البعض فرض المقاصد السياحية التركية التى قالوا إنها لا تناسبهم مقارنة بما ينشده رواد المقاصد السياحية المصرية، فضلا عن طلب دفع فروق أسعار تبلغ قرابة العشرين فى المائة من أسعار الرحلات إلى مصر، وهو ما يصدق معه القول المأثور »مصائب قوم عند قوم فوائد«. وخلاصة القول إننا كنا ولا نزال مع روسيا وكل العالم فى خندق واحد مدعوين جميعا إلى المزيد من التعاون وتنسيق الجهود ضد الإرهاب أينما كان.