وذلك فى ضوء الأجيال المتتابعة من النمور الآسيوية.. ففى آسيا يوجد ثانى وثالث أكبر اقتصاد عالمى؛ ممثلاً فى الصين واليابان على التوالى، وعشرة من أكبر عشرين اقتصاد فى العالم، حيث حققت دول مثل روسيا والهند وكوريا الجنوبية وأندونيسيا طفرات اقتصادية واضحة. وتتميز الشراكة مع الدول الآسيوية عامة بأنها أكثر عدلاً وإنصافاً للطرف المصرى، ولا تنطوى على شروط سياسية تمثل تدخلاً فى الشئون الداخلية لمصر، كما أن الدول الآسيوية أكثر إستعداداً لنقل التكنولوجيا بما فى ذلك know how ، الأمر الذى سيضيف دون شك للقدرات المصرية، ويضمن استقلال قرارها.
وإذا كان عدد من هذه الدول يعزف عن ترجمة قوته الاقتصادية إلى قدرات عسكرية، فإن دولا أخرى أصبحت قوة عسكرية كبرى، ليس فقط فى محيطها الإقليمى ولكن على الصعيد الدولى أيضاً. وإلى جانب روسيا- التى تعد قوة عسكرية عالمية تكافئ نظيرتها الأمريكية- شهدت الصين قفزات ملموسة فى قدراتها العسكرية، وتطوير ملحوظ فى صناعاتها العسكرية.. وبعد أن كانت أكبر مستورد للسلاح الروسى تراجع حجم وارداتها فى ضوء إنتاجها واكتفائها الذاتى المتزايد، كما أن ميزانيتها العسكرية تمثل ثانى أكبر إنفاق عسكرى فى العالم، وإن كان بفارق كبير بعد الولايات المتحدة، وبها أكبر جيوش العالم (3,2 مليون جندى). وإلى جانب الصين هناك ثلاث دول آسيوية ذات قدرات نووية عسكرية؛ وهى كوريا الشمالية والهند وباكستان، والعديد من الدول الأخرى لديها قدرات نووية للاستخدامات السلمية فقط ومنها اليابان وكوريا الجنوبية.
وإلى جانب هذه القوى البارزة والكبرى، هناك دول مهمة صاعدة فى منطقة آسيا الوسطى والقوقاز، التى تمثل قلب آسيا الذى يربط كلا من القارتين الآسيوية والأوربية، فى إطار ما بات يعرف بالكتلة الأوراسية، حيث تقع جنوب روسيا، وغرب الصين، وشمال أفغانستان حيث توجد قوات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطى، وشمال شرق إيران، وشرق تركيا، ومن ثم فهى محط اهتمام وتنافس عدد من القوى الدولية والإقليمية الكبرى، خاصة فى ضوء الاحتياطات الضخمة بها من النفط والغاز، والتى تجعلها مرشحة لخلافة منطقة الخليج العربى فى المستقبل المنظور. فمن المعروف أن بحر قزوين، الذى تمتلك كازاخستان وتركمانستان وأذربيجان حوالى ثلثى شواطئه، يمثل ثانى أكبر احتياطى عالمى من النفط بعد منطقة الخليج العربى. وتتفاوت تقديرات هذا الاحتياطى من 200 مليار برميل وفق تقديرات أولية متفائلة مطلع التسعينات، إلى 33 مليار برميل وفق تقديرات أخرى عام 2003. ورغم أن هذه الاحتياطات الضخمة لم تستغل بعد بالكامل فإنها تؤهل دول المنطقة للمنافسة عالمياً فى المستقبل القريب، خاصة فى ضوء ما شهدته السنوات الماضية من توسع واضح فى الاستثمارات بهذا المجال مقارنة بحقبة التسعينات.
وتتركز هذه الثروة الضخمة من النفط والغاز فى ثلاث من دول المنطقة وهى: كازاخستان وأذربيجان وتركمانستان. وتتمتع كازاخستان بموقع جغرافي استراتيجي يسمح لها بالتحكم بتدفقات النفط والغاز من آسيا الوسطى شرقاً باتجاه الصين وغرباً إلى روسيا والأسواق الأوروبية، وهى تشارك في تنفيذ مشروعات ضخمة للطاقة لنقل الموارد الهيدروكربونية إلى الأسواق العالمية. وتعتبر باكو عاصمة أذربيجان من أقدم أقاليم انتاج النفط فى العالم، ومنافسا قوىا فى سوق الطاقة العالمية، وذلك من خلال خط أنابيب الغاز "باكو – تبليسى – جيهان" لنقل- ليس فقط الغاز الأذرى- ولكن الكازاخى والتركماني أيضاً إلى ميناء جيهان التركي ومنه إلى أوربا.
وإلى جانب هذه الأهمية الاستراتيجية، تمثل دول آسيا الوسطى وأذربيجان إمتدادا طبيعيا للعالم العربى جغرافياً وثقافياً وحضارياً. وتتميز العلاقات العربية مع هذه الدول بعمق إمتدادها التاريخى. ولكن رغم تأكيد تلك الدول على هويتها الإسلامية، فإنه من الضرورى الإشارة إلى أنها ذات نظم علمانية تقوم على الفصل بين الدين والسياسة، وتنص دساتيرها على ذلك صراحة. كما أنها تعانى من خطر الإرهاب، وبها عدد من الحركات الإرهابية ذات الامتدادات الإقليمية والدولية، الأمر الذى يجعلها فى خندق واحد ضد الارهاب مع مصر، ومعهم روسيا والصين والهند.. فمكافحة الارهاب تمثل أولوية ومصلحة مشتركة بين مصر وهذه الدول خاصة مع النشاط عابر الحدود للحركات الارهابية.
ولقد أدركت القوى الكبرى، بما فيها الولايات المتحدة، أهمية آسيا فاتجهت روسيا لتعميق شراكاتها الاقتصادية وتعاونها الاستراتيجي القائم مع الدول الآسيوية، الكبرى منها والصاعدة والمؤهلة للصعود، وشهد هذا التعاون قفزات ملحوظة خاصة فى ضوء توتر العلاقات مع الغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية.
كما اتجهت الولايات المتحدة بقوة لدعم التعاون مع آسيا، وذلك فى إطار ما سمى بسياسة "الارتكاز على آسيا" التى أعلنها أوباما لأول مرة فى نوفمبر 2011، وتتضمن تركيز السياسة الأمريكية على توطيد العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية مع الدول الآسيوية وخاصة شرق آسيا. وفى إطارها قامت الولايات المتحدة بإعادة توزيع أساطيلها وقوتها البحرية ما بين المحيطين الهادى والأطلسى، وذلك بزيادة تواجدها فى المحيط الهادى من 40 إلى 60% على حساب وجودها البحرى فى المحيط الأطلسى الذى تراجع من 60 إلى 40%.
وإذا كان هذا هو حال القوى الكبرى فإن على السياسة المصرية التحرك فى إطار استشراف مستقبلى، واستقبال القرن الآسيوى بجاهزية وفاعلية، ولا يعنى هذا بالطبع التخلى عن دوائر الحركة الحالية، والتى تظل هامة ومحورية على الأقل فى المستقبل المنظور، وأنما التحرك فى إطار أرحب وأوسع نطاقاً، وبناء شراكات اقتصادية وتفاهمات استراتيجية وتعاون أمنى جاد مع الدول الآسيوية الصديقة التى تمد يدها بكل صدق لمصر، والاستفادة من الفرص المتاحة لها فى المرحلة الراهنة، والتى قد لا تكون ممكنة مستقبلاً.