فعلى الرغم من تغير الحكومات وتعديل الخطط و الوزارات، وأخيرا استحداث وزارة للتعامل مع المشكلة المزمنة ثم دمجها مرة أخرى مع وزارة الإسكان، ورغم تكرار الموضوعات الصحفية التى تتناول القضية التى تنهش فى جسد المجتمع منذ زمن بعيد، ورغم تعدد الحملات والدعوات والتبرعات والمبالغ المرصودة للقضاء على العشوائيات التى يقدر عددها بحوالى 1221 منطقة، إلا أن الأزمة مازالت مستمرة .
ومازال سكان العشوائيات يكررون الشكاوى ويتهمون المسئولين بالتقصير، حتى الأماكن التى بدأت الدولة فى تطويرها بالفعل، بمجرد وضع الأقدام فيها تجد أن القلة راضية عن أحوالها، لكن الأغلبية يستقبلونك بسيل من الشكاوى .. والدموع والاحتجاجات٠
بعضهم يرفضون النقل، وآخرون يعترضون على تغيير أسلوب وطريقة حياتهم ..وآخرون يرون أنهم ظلموا لأنهم الأحق بالنقل من آخرين ...فى الوقت الذى يرى المسئولون أن دورهم لم يأت بعد..وشكاوى أخرى كثيرة..
سيل من الاعتراضات تؤكد ان الحوار بين المسئولين والأهالى يبدو كحوار « الطرشان » ..لايسمع كل منهم الآخر..ولايفهمه.. فسوء التفاهم قائم دائما رغم كل التصريحات الرسمية والمشروعات التطويرية.
وبعيدا عن الأرقام والتفاصيل..والخطط والتصريحات.. وبعيدا عن إلقاء اللوم على طرف دون الآخر، حاولنا البحث عن أسباب الأزمة، وكيف يمكن إصلاح العلاقة والوصول إلى حلول توافقية، لكى تتحول مشروعات وخطط تطوير وإزالة المناطق العشوائية إلى واقع، ويتحول حلم الآلاف بل الملايين بحياة آدمية وسكن مناسب إلى حقيقة.
المكان: عشش السودان عند مطلع الكوبرى الخشب الذى يفصل بين حى الدقى وبولاق الدكرور..أما الزمان، فبعد عدة شهور من إعلان محافظة الجيزة بالتعاون مع وزارة التطوير الحضرى عن تسليم المرحلة الثانية من مشروع تطوير المنطقة وهو ماتم بعد الكثير من الشد والجذب و المشادات بين أهالى المنطقة والشرطة عند تنفيذ النقل وهدم العشش.
واليوم وبمجرد أن تصل المكان حتى يستقبلك سيل من الشكاوى والاحتجاجات والاعتراضات.
شباب وسيدات وكبار سن .. خليط من مختلف محافظات مصر خاصة الصعيد، أتوا جميعا للقاهرة طلبا للرزق والعيش تحت جناح العاصمة الدافئ وخيرها الوفير، وكونوا أسرا وعائلات فى هذا المكان، يروون سر ارتباطهم بالمكان منذ سنوات طويلة ويشكون من الفقر الذى يحول بينهم وبين البحث عن أربعة جدران فى مكان آخر.
ورغم نقل عدد منهم إلى شقق فى المرحلتين الأولى والثانية فى عمارات مجاورة بنفس المنطقة إلا أن الجميع يبدو متذمرا.. الذين لا يزالون يفترشون الأكواخ والعشش.. ومن تم نقلهم إلى الشقق الجديدة.
ومازالت مظاهر العشوائية وسلوكياتها تسيطر على المكان الذى يأوى بشرا وحيوانات وأكواما من القمامة وأكشاك بيع وأفرانا بدائية..وتتوالى الشكاوي..والروايات..
حازم عبد الراضي، شاب حديث الزواج يعيش هو ووالداه فى عشة بناها - كما يقول- بعد أن هدموا عشتهم الأولى على وعد بتسكينهم لكنهم قاموا بمنح الشقق لآخرين وتركوهم فى الشارع..
ورغم أنه تم عمل حصر قبل الهدم والتسليم كما يؤكد الكثير منهم لكن هناك من لم يتسلم شقته رغم وجود اسمه أو هدم عشته، كما يروى الحاج أحمد عبد الهادى الذى يعيش فى المنطقة منذ أكثر من خمسين سنة قائلا: جابوا ناس من بعيد و تركونا.
آمال حسين تقول : «طلعونا بالعافية أنا وأمى وابويا وأخويا رغم أننا بندفع عوائد..والورق أهو»، أما صابرين فتقول «سلموا 75 شقة لكن اخدوا عدد كبير من المرحلة الثالثة و تركونا.. ومش عارفين مصيرنا إيه».
أما من استلموا فى المرحلتين الأولى والثانية فمازال الكثير منهم يقضون معظم يومهم فى الشارع وأحيانا الليل أيضا فى عشش أو بيوت من بواقى مواد البناء..والسبب كما يردد الكثير منهم أن مساحات الشقق صغيرة جدا ما بين 45 مترا و70 مترا..وهم معتادون على الحياة فى براح، خاصة أن الأسرة الواحدة تضم عددا كبيرا من الأفراد أو أن البيت فى الشارع كان يضم الأسرة الممتدة من الأبناء وأزواجهم والأحفاد.
فى حين يشير بعضهم لارتفاع قيمة الايجارات أو عدم وجود كهرباء، وذلك لرفض الكثير منهم تركيب عداد، بسبب التكلفة أيضا.
ويرى آخرون أنهم لا يريدون ترك أماكنهم لارتباطها بلقمة العيش سواء أكانت فى كشك صغير أو فرن بلدى لطهو الخبز أو بعض الأطعمة.
ورغم خطط البحث والتوعية والحوار المعلن عنها رسميا فإن الأمور على الأرض تبدو مختلفة والفجوة تبدو كبيرة بين الأهالى و الدولة.
وهو ما كانت تحاول دائما د. ليلى اسكندر وزيرة التطوير الحضارى والعشوائيات السابقة التعامل معه من خلال زيارات ميدانية إلى المناطق المختلفة ومناقشة مشكلاتهم وطرق تطوير المكان معهم، فى ظل وجود أحد الممثلين عن الجمعيات الأهلية فى المكان أو مجموعة تمثل سكانه. ونجح عدد من الزيارات فى عمل جسور التواصل بين الحكومة والأهالى لكن المشوار مازال طويلا..والمهمة ثقيلة فى ظل تراكم عدد كبير من المشكلات منذ زمن بعيد..و توغل ثقافة العشوائيات وحواجز عدم الوعى والتشبث بأسلوب الحياة ذاته رغم صعوبته وخلوه من عناصر الحياة الآدمية.
فهناك الكثير من سكان العشوائيات شديدة الخطورة التى تقع بين أحضان الصخور أو فى مناطق الضغط العالى يفضلون الموت على ترك المكان الذى تربوا وعاشوا فيه سنوات طويلة « بوضع اليد» نتيجة الفقر و البطالة والنزوح من الريف إلى المدينة. وهؤلاء يقاومون بشدة أى محاولات للنقل أو التغيير.
ويرددون جملا مثل : « ما احنا بنشوف الموت كل يوم.. اللى ربنا كاتبه هيكون..طيب ما تشيلوا الضغط العالى واحنا راضيين بحياتنا زى ما هي…»
سعاد نجيب، مدير صندوق تطويرالعشوائيات بمنطقة القاهرة الكبرى وجنوب الصعيد ، تؤكد أنهم يحرصون على التواصل مع الناس من خلال الحوار، وأن خطط التطوير المرتبطة بالتنمية والتى تعتبر أن الإنسان هو محور التطوير والتى بدأتها الوزيرة السابقة د. ليلى اسكندر مستمرة. وتضيف أن المشكلة هى تعود المواطنين من سكان العشوائيات على نمط حياة معين وصعوبة تغييره لكننا كدولة يجب أن نجد له حلولا مناسبة ومسكنا ملائما بعيدا عن مصادر الخطر. و تضيف:
« لذا نقوم بالحوار معهم وعمل برامج توعية موجهة لهم».
وعن أسباب توتر العلاقة بين الدولة وسكان العشوائيات، يؤكد أستاذ التخطيط العمرانى بجامعة القاهرة، د. مدحت الشاذلي، أن سكان العشوائيات يعتقدون أنهم يمتلكون الشقق أو الحجرات التى يسكنون فيها منذ زمن بعيد، متناسين أن الأرض ملك الدولة وأنهم « واضعو يد» ، ويضيف: «نحن دولة نامية لا تمتلك الميزاينات الضخمة التى يمكن استخدامها لحل مشكلة العشوائيات، ورغم ذلك هناك جهود تبذل للتصدى لهذه الأزمة المتفاقمة عبر سنوات.. لكننى أتعجب بعد ذلك من الذين يرفضون مساحة الـ45 مترا، فالدولة محكومة بالمساحة المتاحة وبإمكانية توفير المرافق . فهى وفرت لهم وحدات سكنية آدمية وأصبحوا افضل حالا مما كانوا عليه، فلماذا يعترضون؟» . مشيرا إلي خطأ الدولة التى تركت ظاهرة العشوائيات تتراكم لكنها تحاول اليوم تدارك الخطأ وتوفير مساكن آدمية .
لذا فهو يرى ضرورة عمل خطة توعية لتأهيل سكان العشوائيات بجانب مشاريع التطوير التى تتم على أرض الواقع، قائلا: « لابد من تأهيلهم للتأقلم مع الوضع الجديد حتى يستجيبوا لعملية التطوير وإلا فانهم سيشكلون عائقا كبيرا أمام أى خطة تنموية تقوم بها الدولة . ولابد أيضا من توفير نقاط جذب لسكان العشوائيات مثل توفير وسائل مواصلات عامة تساعدهم على الوصول لأعمالهم على سبيل المثال".
أما الحسين حسان مؤسس حملة « مين بيحب مصر» والتى تهدف إلى القضاء على العشوائيات والسكن بالمقابر، فيرى أن المعالجة للظاهرة تتم بالطريقة الخطأ وأن الوزارات كلها مسئولة عن قضية العشوائيات فى مصر. قائلا يجب توفير فرص العمل والبيئة المناسبة للسكان، بمعنى تنمية الحرف اليدوية الموجودة فى المناطق العشوائية وربط المكان الذى يعيشون فيه بالمهن والحرف التى يعملون بها. مشيرا إلى أن التعليم والثقافة لهما دور كبير، عبر توعية وتأهيل السكان من خلال برامج تعليمية وتثقيفية كى يستطيع كل طرف فهم الآخر، ولكى يستطيع أهالى هذه المناطق تدريجيا التخلى عن سلوكهم العشوائى وتغييره.
وهو ما يؤكده د. إيهاب فكري، أستاذ التنمية البشرية الذى يشير إلى وجود فجوة بين الدولة وسكان العشوائيات ، وأن محور القضاء عليها فى ملعب وزارة الثقافة لأننا نتحدث عن تغيير مفاهيم وسلوكيات تم توارثها منذ سنوات طويلة.
ويضيف : لابد أن تعمل الوزارة على إعداد مشروع قائم على أساس علمى لتغيير مفاهيم ومعتقدات سكان العشوائيات، وتقوم باستقطاب نماذج من مجتمعهم خاصة الشباب. ليكونوا قادة رأى ويقوموا بالتفاعل المباشر مع باقى السكان وعمل حلقة الوصل بينهم وبين المسئولين . مؤكدا أنه لا سبيل للقضاء على العشوائيات سوى بتغيير الثقافات المختلفة والمتناقضة للعيش فى المدن.
مضيفا أن الأمر ليس صعبا أو جديدا فهناك دول عديدة سبقتنا فى مواجهة هذه المشكلة، على سبيل المثال فى أمريكا اللاتينية كانت لديهم مشكلة مع القاطنين فى محيط البركان الذين رفضوا الانتقال من سكنهم بدعوى أنهم يسكنون منذ 50 عاما وأن البركان لن ينشط لذا لن يتركوا أمكانهم، وتم عمل مشروع ثقافى لتغيير معتقداتهم وأفكارهم.وقد نجح المشروع فى اقناعهم وانتقلوا من مكانهم حرصا على سلامتهم .
فالقضية كبيرة كما يقول الحسبن حسان لكن يجب أن نبدأ بالعلاج فى الاتجاه الصحيح, مشيرا إلى أن أزمة العشوائيات تحتاج إلى ميزانية ضخمة وجهود كثيرة لذا يجب إلزام الجمعيات الأهلية التى يبلغ عددها 55 الف جمعية وأيضا رجال الأعمال بمشاركة الدولة فى التعامل مع هذه القضية الشائكة.
وهكذا، فإن تعاون الجهات والوزارات المختلفة.. مشاركة الجمعيات الأهلية.. وتبنى مشروع قومى لوزارة الثقافة لتأهيل السكان.. كل ذلك أصبح ضرورة لكى نستطيع سد الفجوة بين الدولة وسكان العشوائيات، وحتى تؤتى المشروعات التنموية ثمارها ويتحقق حلم الملايين بسكن آدمي، تتوافر به الخدمات ويرتبط بمكان العمل ويلبى احتياجات الأهالى دون أن نرى فيه مظاهر العشوائية فى السكن والسلوك، ودون أن نسمع شكاوى متكررة ودائمة عن سوء الحال، وتقصير الدولة.