، فقد شهدت العقود الأولى لقصر العينى مجدا لايضاهيه مجد وشهرة لم تكن لمستشفى غيره، لا فى مصر قاطبة ولكن فى بلدان العرب أجمع، حتى أصبح مثالا للتفاخر بين من يعملون به دون غيرهم من الأطباء، فى علاقة تبادلية، فالقصر أيضا يفخر بأنه لا يضم لطاقمه إلا المتميزين، فيما يعرف عند العامة بـ«الأساتذه»، تلك التى كان يعنيها جدى وكل الذين عاصروا مجد هؤلاء الاساتذه الذين لم ينقطع يوما إمداد القصر بهم، لكن ما انقطع الرجاء منه هو القصر ذاته، فقد أصبح سويقة عشوائية للباعة الجائلين، أما الأساتذة والمرضى فكلاهما مجبور على التعامل مع الوضع المفروض، فتخفت أصوات أنات المرضى وسط نداءات الباعة الجائلين على بضائعهم، وإذ ما وجدت أناسى كثيرين تتكدس بهم عنابر المرضى فلا تظنهم زوارا لذويهم من المرضي، فلربما هم من المتسوقين، أرادوا شراء احتياجات منازلهم من سوق القصر الرخيص، الذى ستجد فيه كل شىء، من إبرة المخيط وحتى ملاءات السرائر وملابس الأطفال واللب والعصائر والمثلجات لزوم التسالي، ولتذهب آهات المرضى وأنينهم إلى الجحيم، فلا أحد يأبه لأحد، فى ظل تلك العشوائية والفوضى، ولا أحد يعرف أيضا من الذى يقف وراء تيسير دخول هؤلاء عنابر المرضي، لايخشى تخفى أحدهم فى هيئة بائع متجول وارتكاب جرائم بحق هؤلاء المرضى المغلوبين على أمرهم، لا تأخذه بهم رحمة ولاشفقة، وكأنه لايكفيهم ما يتكبدون من معاناة المرض، فيضيف إليه إكراههم على تحمل السوقة والجائلين، ومابين إهمال أمن المستشفى الذى قد لا يتساهل مع زائر تأخر عن الموعد المحدد للزيارة، فيمنعه من الدخول لعدم التزامه بالوقت المحدد، لكنه فى نفس الوقت يترك الباعة يتجولون داخل القصر فى كل حين، يبيعون كل شيء وأى شىء، وعلى الجانب الآخر تعجز إدارة المستشفى عن وقف تلك المهزلة ومنع دخول الباعة عنابر المرضى.
«الباعة الجائلون»
وبين صورة القصر المحفورة فى ذاكرة الكبار كما اسموه قديما، وأطلال القصر الحالية التى تكشفها الصور، حاولنا البحث عن إجابة من المسئولين تخبرنا كيف أمسى القصر خرابة للسوقة والباعة الجائلين، عنوانها العشوائية والغوغائية.. ذهبنا فى تمام الساعة الواحده ظهرا «حسب موعدنا معه» الى د.شريف ناصح أمين مدير قصر العينى لنستجلى منه الحقيقة، ولعل عنده مايبرر ذلك القبح الذى أصاب القصر، انتظرنا لقاءه حتى تسنت لنا مقابلته فى الثالثة عصرا وما إن التقيناه، حتى أشار علينا بأن نذهب ونتجول فى القصر ليرينا ما لم نره من قبل ولم ترصده كاميراتنا من سلبيات، أصابتنى الدهشة واستجبت، فأشار لأكشاك فى مدخل القصر، مرئية لكل من طرق باب القصر، فانتظرت لعل لها قصة لا يعرفها سوى صلاح مدير مكتب نائب مدير المستشفى للشئون الطبية والعلاج الذى صحبنا فى جولة داخل القصر، والذى أخبرنى أن هذه الأكشاك غير مرخصة وتباشر عملها داخل القصر من خلال ما يعرف بالبلطجة ووضع اليد وصدر لها قرار إزالة من 2012، إلا انه لم تتم إزالتها حتى الآن، هذه الأكشاك هى تقدم الدعم للباعة الجائلين المنتشرين فى شتى عنابر القصر عبر «جردل صغير» مربوط بخيط يصله ببلكونات العنابر، يقوم البائع بالدخول من البوابة بتذكرة زيارة للمرضي، ثم يسقط «الجردل» ويصعده ممتلئا بالعصائر والمسليات من تلك الأكشاك المخالفة، ولكن إذا كانت هذه الاكشاك هى التى تتسبب فى انتشار المسليات، فماذا عن بقية البضائع؟!
ماذا عن ملابس الأطفال وملاءات السرائر التى بأيدى الباعة فى العنابر؟. ومن أى كشك يأتون بها إذن؟!.
الأمر كان يحتاج المسئول عن أمن القصر، فذهبنا الى ياسر محمد مدير أمن القصر، نبحث عن مبرر لما وجدنا من إهمال وترد، اخبرنا أن القصر يقوم على تأمينه نقطة شرطة مصر القديمة وتأمين خاص بالقصر، ويعترف بالقصور قائلا: نعمل على قدر استطاعتنا، لكن الأمر لا يستقيم بالنهاية، مخبرا إيانا أنه فى حال قيام احد افراد الامن بالقبض على أحد الباعة، يتم تسليمه الى نقطة الشرطة التى تفرج عنه بعد ساعات دون عقاب رادع، ليعاود التجوال بعدها مباشرة داخل العنابر «معركة مع الأمن» وفى أثناء تجوالنا بالقصر وجدنا بائعا يتجول بمثلجات ومسليات أمامنا بطرقات القصر، طلبنا منه اتخاذ إجرئه القانونى معه، وبالفعل استوقفه مدير الامن وطلب قوة إضافية من افراد الامن، وقبل ان يصل أفراد الأمن الإضافيون، كان البائع قد طلب دعمه أيضا بباعه آخرين لتصبح المعركة متكافئة، لكننا فوجئنا بأنها لم تكن متكافئة أبدا، فقد تجمع الباعة الجائلون وأخذوا البضاعة من زميلهم، حتى يذهب مع فرد الامن دون جسم للجريمة ـ بضاعته ـ وهو مادفع فرد الامن للتشاجر، ليذهب الى عماد أمين الشرطة، مصابا ، حيث قرر ـ عماد ـ إحالتهما ـ الأمن والبائع ـ الى قسم مصر القديمة وليفتح لكلاهما محضرا بالتساوي، كليهما على نفس الأرضية، وهو مايدفعهم بالنهاية الى التنازل لمصلحة البائع خشية الدخول فى قضايا لاناقة لهم فيها ولا جمل.
عدنا الى د.شريف ناصح أمين مدير القصر والذى سألنا: هل رأيتم الأكشاك الموجودة فى مدخل القصر؟أجبناه بنعم، فسألنا عن الأكشاك الأخرى خارج القصر؟، وكانت المفاجأة التى أدهشتنا هى أن كل ماسبق ليس مهما، بالمقارنة مع مفتاح اللغز «أم عمرو» التى أخبرنى الجميع عن بطولاتها فى مواجهة محاولات المنع أو حتى التخفيف، تلك المرأة التى تشبه نعيمة الصغير فى مشهد تجمع فيه أطفالها المتسولين حولها وهى تزعق فيهم «انتشروا»، أخبرنى أن كل الباعة الجائلين فى القصر ينتسبون إليها وأنه لم يستطع أحد هزيمة قدرتها الخارقة. لتصبح أم عمرو قوة لا يستطيع لا القانون ولا الأمن ولا أى قوة اخرى إزالة اكشاكها أو الاجتراء على الباعة الذين ينتسبون إليها وتنشرهم فى شتى ربوع القصر، محتلة طريق الكورنيش بأكشاكها الكثيرة التى تنتشر على سور نادى القضاة والنيابة العامة أمام قصر العيني، فى مشهد تخرج فيه أم عمرو لسانها للجميع، متحدية الأمن والقانون ومن قبلهما حق المريض فى التأوه بهدوء دون إزعاج من صبية «أم عمرو».