وأخافتنى الاهتزازات العنيفة للغاية، فتشبثت بذراع أمى التى أحاطتنى بها وخيل إلىّ لهنيهة اننى واياها نتأرجح فوق أرجوحة كما كنا نفعل فى بيت جدى فى كوباني، وتدافع الناس وصرنا تحتهم، واخترقت رخات الماء طرحة أمى التى لفتنى بها ثم غمرتنا جميعا مياه غزيرة، طبقت علينا من كل جانب، وازدادت أمى ضما لى وازددت تشبثا بها فطوقت عنقها بذراعي، لكن الماء الحادق المر اخترق انفى وفمى فأشعل حريقا مائيا لاذعا لاسعا خانقا داخل جوفى وصدري. جعلت أتخبط وقد تراخت ذراعا أمى من حولى لعلى أصعد لأعلى ولكنى كنت أغوص أكثر فى اليم.. بغتة رأيتنى أرتفع دون جسدى لأعلي.. لأعلى ثم كانت إطلالة منى على المشهد فرأيتنى طافيا فوق الأمواج المتلاطمة ومعى كثيرون.. تتبعت جسدى الصغير وموجة عاتية تحمله سريعة وطويلا فى اتجاه واحد لتلقينى منكفئا على وجهى فوق رمال مبتلة.. بعدها جعلت تكسرات الأمواج المتتابعة تداعبنى فى حنو ورفق كأنما تعتذر لى عما بدر من البحر وأمواجه.. ظهر رجل يصرخ مناديا آخرين أتوا حاملين آلات صغيرة تنبعث منها ومضات مبهرة.
أحاطوا بى لفترة ثم تباعدوا ليلتقطنى رجل حملنى والماء يسيل مني.. بعد يومين تلقفتنى أيدى أبى وأعمامى وهم ينخرطون فى البكاء، وما أن وسدونى التراب حتى ارتفعت محمولا على سجادة بيضاء، تشدها مناقير طيور بيضاء شفافة فاجتازوا بى السحاب وظللت أعلو وأعلو حتى دحرجتنى على حشائش حديقة شديدة الاخضرار.. تناهى إلى سمعى بعد لأى صوت عميق رقيق يهمس بى: الله ـ جل جلاله ـ يعدك بأن يحاسب أول من يحاسب أولى القربى الذين قبعوا فى قصورهم وتركوكم ولم يجيروكم لتركبوا البحر نحو المجهول.
د.جلال الدين عشماوى
أستاذ بزراعة القاهرة