ومصر المستهلك الأكبر لمياه النهر دون مقابل. ويعمق حدة النزاع أن العلاقة التاريخية بين البلدين عبر العصور قد اتسمت بمشاعر «الشك المتبادل»، وأحاسيس «العداء الصامت»، وأفكار نظريات المؤامرة، والعواطف الجياشة تجاه نهر النيل وان يكن بمنظور متعاكس لكل من الدولتين.
ومن المفارقات الغريبة أن البداية الإثيوبية المفاجئة ببناء السد قد أتت فى وقت شهدت فيه علاقات الدولتين خارج إطار المياه ازدهارا كبيرا، تعبر عنه عشرات المشروعات المشتركة فى الزراعة والصناعة والتجارة بما يتجاوز استثماراتها 2٫1 مليار دولار، وكان من المدهش أن تعلن شركة تعدين مصرية فى مهرجان إعلامى كبير عن اكتشاف منجم كبير للذهب بالقرب من موقع بناء السد، قبل خمسة أيام فقط من إعلان ميليس زيناوى رئيس الحكومة الإثيوبية وضع حجر الأساس للسد فى الرابع من أبريل عام 2011.
وفى خضم الاندفاع الإثيوبى بالإعلان عن السد، وفى خضم التشبث المصرى بالحق فى مياه الحياة والوجود، يستعرض الدكتور هابتامو أليباشيو الحجج القانونية لكل من الجانبين كما يلي:
{ يؤكد الجانب المصرى مبدأ «الإخطار المسبق» المتفق عليه فى جميع الاتفاقيات والقواعد الدولية قبل أن يشرع أحد الأطراف المشاطئة لنهر دولى فى تنفيذ مشروع على النهر، ولكن الجانب الإثيوبى يرى أن النص لا يعنى سوى تبادل المعلومات قبل أو فى أثناء التنفيذ.
{ يؤكد الجانب المصرى مبدأ «عدم إضرار المشروع بالغير» الوارد ضمن مبادئ هلسنكى لعام 1966 التى يراها المصريون نصوصا مقدسة، ولكن الجانب الإثيوبى يؤكد مادة توصيف عدم الإضرار للمشروع بصفة «الجسيم» كما جاء فى اتفاقية الأمم المتحدة لاستعمالات المجارى الدولية لغير الأغراض الملاحية لعام 1997.
{ يتمسك الجانب المصرى بمقولة «عدم جواز تحويل مجرى النيل»، ولكن الجانب الإثيوبى يفهم النص بمعنى جواز تحويل المجرى داخل حوض النهر.
{ يقدم الجانب المصرى «الحقوق التاريخية» كمدخل لاستدامة حقه المكتسب الذى لا يجوز المساس به كما جاء فى مبادئ هلسنكى واتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997، ولكن الجانب الإثيوبى يقدم السد كمدخل يستهدف «مكافحة الفقر»، وهو أحد المداخل المهمة فى الاتفاقية لتأكيد حقه فى استعمال المياه.
{ يتمسك الجانب المصرى «بالمبادئ الدولية العامة» كأسلوب عملى للمحافظة على حقوقه المكتسبة كما أقرتها كثير من المعاهدات والمواثيق الدولية، ولكن الجانب الإثيوبى يتمسك «بالاتفاقيات الإقليمية وتحت الإقليمية» التى تضم دول حوض النيل لترتيب توزيعات المياه على الأطراف المشاطئة.
ويخلص أليباشيو بعد استعراض كل هذه الحجج القانونية، إلى أن سد النهضة قد سطر تاريخا ونموذجا جديدا فى العلاقات الدولية للمياه الدولية. ويستطرد فى شرحه حيثيات هذه الرؤية كما يلي:
{ بدأت إثيوبيا بإصرار قومى عمليات بناء السد بموارد مالية محلية ولم ترضخ لتحذيرات هيئات التمويل الدولية.
{ كانت استجابة السودان الأولية لبناء السد مواتية للجانب الإثيوبي، وكانت استجابة الجانب المصرى مترددة ولكنها لم تكن ممانعة خاصة من جانب المنظمات غير الحكومية.
{ قامت ست دول من حوض النيل هى إثيوبيا وكينيا وأوغندا وبوروندى ورواندا وتنزانيا بالتوقيع على اتفاقية مبادرة حوض النيل التى تتحدث عن توزيع مياه النيل على دول الحوض بشكل أكثر عدالة مما يتم حاليا.
ويطرح أليباشيو الدروس المستفادة قانونيا من هذا الموضوع كما يلي:
{ تسهم القوانين الدولية فى تسوية وفض المنازعات بين الدول، غير أن ذلك لا ينفى أن القوانين الدولية تعتريها كثير من الفجوات والنواقص التى تحتاج إلى الاستكمال، خاصة فى مجال الأنهار العابرة للحدود.
{ يبدو أن بعض القوانين الدولية الحالية بشكلها المختصر لا تتسع لتشعبات وتفصيلات الواقع على الأرض، بما قد يقرر أحكاما لا تتسم بالعدل والإنصاف بين الخصوم.
{ نصوص القوانين الدولية الحالية فيما يخص الأنهار الدولية فضفاضة تحتمل التأويل، بينما تحتاج منازعات المياه الدولية إلى نصوص محددة وقاطعة ودقيقة.
{ تحاول نصوص اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 أن تكون موضوعية بالرغم من الخصوصيات الدولية التى لا يمكن تجاهلها لكل دولة على حدة، حيث توجهات الدولة واهتماماتها مسألة شديدة الخصوصية.
{ يميل القانون الدولى أحيانا إلى غموض متعمد ومثالية شديدة، فى حين تحتاج منازعات الأنهار المشتركة إلى نصوص واضحة وصريحة.
{ يقف الإثيوبيون وهم يبنون سد النهضة فى تحد كبير مع سياسة مصرية متوارثة، افترضت عدم قدرة إثيوبيا على استعمال مياه النيل، وكفاية أدوات القانون الدولى لمنع الغير من المساس بحقها التاريخى فى مياه النهر، وقد أتى اليوم الذى يقنع فيه سد النهضة المصريين أن تلك السياسة قد خلقت لهم معضلة كبري.
والنتيجة النهائية التى يخرج بها الدكتور هابتامو أليباشيو، أستاذ القانون الإثيوبي، هى أن مبادئ القانون الدولى تأتى بعد مسافة كبيرة من الاعتبارات السياسية لاهتمامات ومصالح الدول التى يفرضها ويحددها الأمر الواقع، ويبقى السؤال: أين نحن من هذه التحديات الجسام؟
د. صلاح طاحون ــ أستاذ الأراضى بجامعة الزقازيق