زينة زينة والله يا زينة يا زينة.., شباكنا ستايره حرير, من نسمة شوق بتطير.. طير يا حمام الدوح, وروح لروح الروح, طير يا حمام الحما واقطف نجوم السما.. أغنيات زمن جميل يبثها مذياع تبدو عليه آثار السنين. علي أنغامها وفي ظل أجواء ريفية بسيطة لم تلوثها بعد مظاهر المدنية الحديثة, تنهمك بسيمة محمد ومني علي في تعشيق خيوط السدي واللحمة علي النول القائم أمامهما, تغزلان عليه مشاهد من البيئة المحيطة من نباتات وأشجار وبيوت.
ريفيات يحكن الصبر والفن في لوحات فطرية فريدة ترسمها أناملهن, دون تصميم مسبق أو صور يحاكينها, فالصورة في خيالهن والإبداع في حرفتهن.
والمدهش هو الجودة العالية لمنتجهم الفني, ودقة رسوماتهن وخيالهن المحلق, وهن اللاتي لم يدرسن الفن, بل لم ينلن نصيبهن من التعليم, لكنهم كن محظوظات بالانضمام لمركز ويصا واصف للفنون, ليتدربن علي يد عائلة رمسيس ويصا واصف التي قررت استكمال مسيرة الفنان الرائد, لتحويل قرية الحرانية إلي وحدة اقتصادية عن طريق تعليم أبنائها فن السجاد اليدوي.
فمنذ أكثر من60 عاما, اختار المهندس المعماري رمسيس ويصا واصف(1911-1974) قرية الحرانية في محافظة الجيزة لتحقيق حلمه.
حلم تعليم الأطفال كيف يطلقون العنان لخيالهم, ويحولون طاقاتهم وامكاناتهم إلي فن وإبداع فطري, ينسجون علي الأنوال لوحات فنية من السجاد والكليم اليدوي, ساعيا إلي إثبات قناعته بأن كل إنسان يولد في داخله فنان.
بدأ المشروع عام1952 باستضافة15 طفلا وطفلة من داخل القرية, ليعلمهم أساسيات الحرفة وكيف يحولون أفكارهم المستوحاة من الطبيعة ومن مظاهر حياتهم إلي لوحة نسجية.

تفخر سوزان واصف دائما بتجربة والدها الذي كان يؤمن بضرورة إحياء الحرف اليدوية, وكذلك تنمية حياة الفلاحين وأبناء القري المهمشين ومساعدتهم, كي يبنوا مستقبلا مختلفا, وقد اختار النسيج لكونها حرفة تراثية يعبر من خلالها الريفيون عن أنفسهم بحرية دون قيود, كما أنها تعتمد علي الطبيعة في كل مفرداتها.
واعتبر ويصا واصف رائدا لأنه كان صاحب أسلوب وفلسفة تربوية تميزه, لا تعتمد علي التلقين الشائع في المؤسسات التعليمية الرسمية آنذاك بل علي منح الطفل ثقة في نفسه تسمح له باكتشاف إمكاناته ومهاراته والتعبير عنها بحرية. فعلم الصغار القراءة والكتابة ليحفزهم علي التفكير وتوسيع أفقهم بصورة عامة وليس في مجال الفن فقط.
اعتمد المشروع منذ البداية علي الخامات المصرية من الصوف المحلي أو الخيوط القطنية, وعلي محاولة إعادة استخدام ثروتنا النباتية في الصباغة, كما كان يفعل القدماء, في العصر القبطي والعصور الإسلامية والتي بدأت تندثر مع الوقت.
وحرصت صوفي, زوجة الفنان علي استكمال مشروعه بمساعدة ابنتها وزوجها اكرام نصحي, والتمسك بالطرق التراثية في الصباغة. فقاموا بزراعة نبات النيلة للحصول علي اللون الأزرق وكانت تشتهر به مصر ويفترش أراضيها بعد فيضان النيل, وصار يستورد من المكسيك والهند بعد بناء السد العالي. وزراعة نبات الفوه للأحمر الدافئ, وللحصول علي درجات البنيات فيلجأون إلي أوراق شجر البيكان, بينما يأتي اللون الاصفر من نبات الروزيد, وكلها نباتات قام الفنان الراحل بإحياء زراعتها في مصر من جديد بعد ما جاء بها من أوروبا. ويستمر أفراد العائلة الآن في زراعتها رغم تعقيداتها وتكلفتها الباهظة. فإن آل واصف يحرصون عليها للحفاظ علي تميز منتجهم. وتستكمل سوزان تجربة أبيها من خلال جيل ثان من الحرفيين الذين بدأوا بدورهم في تدريب أجيال جديدة.
وتروي سوزان: بمجرد أن أنهيت دراستي في السبعينات, بدأت استكمال التجربة مع سبع من أبناء الفنانين في عمر السبع سنوات. فالأمهات يأتين يصطحبن الصغار يلعبون بالخيوط, وكنت اتركهم يختارون ما يريدون رسمه, اتركهم لإبداعات خيالهم, فقط أقدم لهم بعض الإرشادات ثم نقوم بتسويق وبيع منتجاتهم في النهاية.
وتستطرد: عودناهم علي ربط الأجر بمستوي الإنتاج. فكلما زاد مستوي إبداعهم زاد في المقابل دخلهم, تشجيعا لهم علي الابتكار. وقد نعطيهم جزء من احتياجاتهم المادية حتي نسوق الشغل, لأن عملية النسيج قد تستمر لشهور, وذلك ضمانا لتأمين الفكرة واستمرارها.
علاقة عمل من نوع خاص تتعاشق مع علاقة اجتماعية بين آل واصف والفنانين. تواصل دائم ولقاءات مشتركة تساعد في حل مشاكل البسطاء أو تنظيم حياتهم. وهو ما تفسره سوزان بأنه مسألة ضرورية للحفاظ علي كيانهم كفنانين.
يبدأ العمل في المركز في التاسعة صباحا حتي الظهر وتعود النساء لبيوتهن لتحضير الطعام ومتابعة شئون المنزل ثم يعدن مرة أخري يغزلن الصوف علي النول حتي الرابعة أو الخامسة عصرا. تعلمن كيف يقتبسن أفكارهن من الطبيعة, قد توجه مدام سوسو( سوزان واصف) كما يطلقون عليها أنظارهم إلي تأثير الشمس والظل أو تحكي لهن قصصا أو تدعوهن للقيام بنزهة في الحديقة, لمساعدتهم في استلهام أفكار جديدة, لكنها تترك لهم في النهاية حرية الإبداع, كل علي طريقته.
فالنسيج بالنسبة للسيدات وهن أكثرية في المكان, يحمل قدرا من العلاج لبعض مشكلاتهن, فمن يطلقها زوجها أو يتزوج عليها, تلجأ للنول وتفجر طاقاتها في الغزل علي خيوطه وبعد الانتهاء من نسج سجادة جميلة تكون قد استردت ثقتها بنفسها وقدراتها وتشعر بكيانها. ليصبح نسج السجاد بالنسبة لها, قصة حياة جديدة.
وهو ما تؤكده صباح رجب, التي تعمل منذ عشرين سنة علي نول أفقي تستخدم فيه خيوط من الأقطان: أنا لا أستطيع العمل إلا في مزاج معين, لا حزينة جدا ولا سعيدة جدا.
وأمام الميزان الفردي والزوجي تحرك ثريا قدميها علي البدالات, وتقوم بتعشيق خيوط القطن في رسم حر تنسجه تلقائيا, بعد سنوات طويلة من التعود والخبرة, وسيلة للهروب ولو مؤقتا من الكثير من المشكلات الحياتية.
ومن بين الأكثر شهرة في المركز أعمال عم علي شديدة الاتقان وهو الفنان الذي ينتمي للجيل الأول ممن التحقوا بالمكان, كمايفتخر الجميع بسجاد عاشور الذي يستلهم أعماله من مفردات البحر كما لو كانت ذاكرته البصرية قد التقطت صورا فوتوغرافية دقيقة لمشاهد بحرية يترجمها في خيوط وأعمال.
وعلي الرغم من صعوبة عمل وصف دقيق لعملية نسج السجاد وتفاصيلها, لأنها عادة تقوم علي الفطرة والتجربة والممارسة, فإن فنانو الحرانية البسطاء يعزفون ألحانهم الخاصة ببراعة علي ألوانه.
فن فطري وتلقائي وعلاقات إنسانية تربط بين أفراد الأسرة والنساجين جعلت من سجاد الحرانية علامة مميزة وله شهرة واسعة في داخل مصر وخارجها. يحتل مكانة خاصة في المعارض الهامة ويتم تسويقه في معارض أوروبا ويعرض في أشهرمتاحف العالم.
تجربة لم تؤثر فقط علي مستوي حياة النساجين من رواد المركز ولكن علي جيرانهم أيضا, ليصبح في كل بيت في الحرانية نول, وإن اختلفت مستويات الإنتاج, لتصبح قرية الحرانية أحد أهم مراكز صناعة السجاد.
بعض سكانها استطاعوا جذب أبنائهم لتعلم الحرفة في حين لم ينجح آخرون في إقناع الأجيال الجديدة بغزل الصبر علي النول, للحصول علي منتج يدوي يحمل من روح الفنان وإحساسه.
رابط دائم: