ويكون قدوةً لأهله وأقاربه وجيرانه فى حب الخير؟ أم يعود إلى بلده ثم لا يلبث أن ينسلخ من حاله الذى كان عليه، فيفرط فى الطاعات ويعود إلى ما كان يعمل من المحرمات؟ علماء الدين يؤكدون أن المسلم الذى يكرمه ربه تعالى بأداء مناسك الحج ينبغى أن يستلهم الدروس والعبر المستفادة من هذا الركن العظيم الذى هو الركن الخامس من أركان الإسلام وتجتمع فيه مختلف أنواع العبادات وأن يطبقوها بعد عودتهم لبيتهم وأوطانهم.
مجاهدة للنفس
ويقول الدكتور أحمد كريمة أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر إن النبى صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الحج المبرور، فقال صلى الله عليه وسلم: (أن يرجع حاله أفضل مما كان) ولذلك لما قيل لسيدنا عمر رضى الله عنه، إن الركب كثير، وإن الحاضرين لموسم الحج كثيرون، فقال رضى الله عنه حكمة بالغة، (الركب كثير والحاج قليل)، ومن هنا وضح أن العبرة ليست بمجرد حضور المشاهد والمناسك والشعائر، وهذا يؤدى بنا إلى نتائج مهمة منها، أن الذى أعانه الله تعالى على أداء الشعائر والمناسك، لابد أن يكون فى مستوى ما أداه وما ينسب إليه من لقب الحاج، فيكون أولا قدوة لغيره، فى أن الحج قد أثر فى شخصيته، فيلاحظ فى عقله الرشد وفى لسانه العفة، وفى صدره الشرح، وفى قلبه اللين، وفى حواسه وجوارحه المسارعة للخيرات، هذا هو الذى ينبغى أن يكون عليه الحاج قدوة للناس، وبعد ذلك يجاهد نفسه بنفسه، كما قال الله فى سورة العنكبوت ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)، وأن يبتعد عن المحرمات والمكروهات ليكون من الصنف الذين قال الله فيهم على الأقل (مقتصد) لأن الله جمع بين الأنواع الثلاثة، فقال الله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) فالحاج إن لم يكن سابقا بالخيرات فعلى الأقل أن يكون (مقتصدا) بمعنى أن يحافظ على الواجبات والمندوبات، وأن يبتعد عن المحرمات والمكروهات، وإذا فعل الحاج ذلك نفع نفسه ونفع غيره، ومن ثم استحق أن يطلق عليه ويلقب بالحاج. أما إذا استهان الحاج بذلك ولم يلتزم بحُسن الخلق، وعاد بأفعاله وسلوكياته لما كان.
دورة تدريبية
من جانبه يقول الدكتور سعيد عامر عضو اللجنة العليا للدعوة الإسلامية والأستاذ بجامعة الأزهر، إن الحج رحلة إيمانية نورانية مباركة، يرجع منها العباد بمغفرة رب الأرض والسموات، وقد تغفر له من كل ذنب وعيب كيوم ولدتهم أمهاتهم، وهو مؤتمر عالمي، ينفرد به أتباع النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو دورة تدريبية عملية لضبط الأخلاق، فقال تعالى: (الحج أشهر معلومات من فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج) فالحاج مكث فترة زمنية مع أناس يختلفون فى اللهجات والجنسيات والتقاليد والعادات، وقد أُمر بضبط أخلاقه وسلوكياته مع هؤلاء فى وقت فارق فيه الأهل والوطن والأحباب، فمن باب أولى عندما يعود إلى أهله وأصحابه وجيرانه والناس عامة، عليه أن يضبط أخلاقه وسلوكياته، لأنه قد نال دورة تدريبية لضبط الأخلاق فمن باب أولى أن تكون مع أهله وأحبابه ومع الناس جميعا، وتحقيقا لوصية النبي، صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) والعبادات لها غاية وحكمة فجاءت العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج لضبط الأخلاق، فالصلاة يقول فيها الله عز وجل : (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) والزكاة قال فيها أيضا (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) والصيام كذلك :( لعلكم تتقون) والحج (لا رفث ولا فسوق ولا جدال) فنرى أن هذه العبادات تجمع على غاية وهى أن يخرج المسلم بأخلاق طيبة وبصفات حميدة كما قال الله تعالى (وقولوا للناس حسنى) وقال تعالى: (وقل لعبادى يقولوا التى هى أحسن) وحديث النبي، صلى الله عليه وسلم، (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس) الذى سافر لهذه الفريضة عليه أن يلتزم بضبط الأخلاق وحسن المعاملة مع الناس قاطبة حتى يكون قد استفاد من حجه ورحلته وكان حجه مبرورا.
اختفاء الفوارق والطبقات
ويوضح الدكتور أحمد حسين وكيل كلية الدعوة بجامعة الأزهر، الدروس المستفادة من أداء الركن الخامس من الحج، وهو تحقيق التقوى التى أمرنا الله بها، لأن الإنسان حينما يؤدى هذا الركن يتزود بالتقوى، فلماذا يتركها حينما يعود؟!، كما أن الحج يحقق وحدة المسلمين وقوتهم، برغم اختلاف لغاتهم وألوانهم، ونجد أيضا فى الفريضة اختفاء الفوارق والطبقات، ويظهر التعاون والتآلف والمحبة فى أروع صورها، ليعود الحاج يطبق هذا فى بلده، كما أن ملابس الإحرام تذكر الحاج بالكفن، غير أن ثمة فرقا بين الحاج والميت، فالحاج يستطيع أن يتوب ويدعو ربه ويتزود من العمل الصالح أما الميت، فقد أغلقت صحيفته، كما أن الحج يذكر بيوم القيامة، كما أن الحج تأكيد على مخالفة المشركين، فلم يقتصر أمر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه على تحقيق التوحيد فى التلبية فقط بل تعدى إلى الأمر بمخالفة المشركين فيما كانوا يفعلونه عند حجهم. فلقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلبية المشركين بما كانوا يزيدونه فى التلبية بقولهم: (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك)، وخالفهم عليه الصلاة والسلام فى عدة مواضع منها أنه تجاوز الوقوف بمزدلفة ووقف فى عرفات مع الناس بأمر من ربه عز وجل.
يعلم الصبر
وأضاف، لا ننسى أن فريضة الحج تعلم الصبر على طاعة الله، لكى يؤدى الحاج حجه فإنه يعرض له الكثير من المشقة والتعب ويواجهه الكثير من الزحام والبقاء مدة طويلة فى الانتظار وهذا يعودّه على الصبر على طاعة الله عز وجل لاسيما والمسلم مأمور بالصبر على طاعة ربه عز وجل وهى أعظم أنواع الصبر فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)، كما أن هذه الفريضة تعود الحاج على الدعاء، فإن الله قريب يجيب دعاء السائلين. كما أن الحج يكفر الذنوب ويوجب دخول الجنة، وهذا درس عظيم وفائدة تدل على فضل الله علينا، فيجب المحافظة عليها فمن يضيعها فهو آثم قلبه.
التزام إسلامي
وقال الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر إن الحج شعيرة من شعائر الله تعالى, تلزم المحرم به بكثير من التكاليف الشرعية الزائدة على التكاليف التى يلزم بها من لم يحرم بالحج, فالمحرم يلتزم بالإحرام من الميقات وفى وقت معين, وأن لا يلبس مخيطا أو محيطا ببدنه إن كان رجلا, ولا يغطى وجهه أو رأسه بلباس, كما تلتزم المرأة بعدم تغطية وجهها أو يديها بما يسترهما, ويلتزم المحرم من الجنسين بعدم وضع الطيب أو استعمال ما فيه طيب فى البدن أو الثياب, كما يمنع من الجدال والمراء والخلاف والرفث والفسوق, ونحو ذلك, بمجرد إحرامه حتى يتحلل منه, هذا التكليف يولد لدى المحرم التزاما بعدم مخالفة ما ألزمه به الشارع, وإلا كان مخالفا فيلزمه فدية, وحتى إذا لم يفسد حجه فقد لا يكون حجه مقبولا عند الله سبحانه, وهذا الالتزام شبيه بالتزام المسلم بالامتناع عن المفطرات خلال نهار صومه ولو كان طويلا صائفا, والتزامه بالاستيقاظ لأداء الصلاة ولو عند شدة البرودة, والتزامه بمراقبة الله تعالى فى كل أعماله وسلوكه, وهذا كفيل أن يولد لديه التزاما إسلاميا فى كل شئون حياته, فحياة المسلم التزام كامل بالتكاليف الشرعية فى جانب الأوامر أو النواهي, ليكون مسلما طائعا لخالقه, والحج ولادة أخرى لمن أدى مناسكه كما شرع الله تعالى, والتزم بما ألزمه الشارع فيه, حيث يعود الحاج من حجه نقيا من ذنوبه وخطاياه, كما يفيد حديث: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه», وليتصور المسلم العائد من أداء مناسك الحج أن صفحة ذنوبه صارت نقية, فليحرص على أن تظل كذلك, ولا يكون هذا بالأمانى أو الانخراط فى الأعمال المشبوهة التى يداوم عليها بعض من ضل سعيهم فى الحياة الدنيا, وإنما ينبغى أن يعمل على أن تظل صفحة سيئاته نقية, وأن يزيد من عمله الصالح, بحسبان أنه سبب رضوان الله تعالى على العبد, قال تعالى: «والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون» وأن يجتهد قدر استطاعته أن لا يكون إلا فى طاعة خالقه ما تبقى له من عمره, وأن يعيد النظر فى سلوكه مع غيره، والنهج الذى كان يتبعه فى كسب عيشه, وتعامله مع الناس، ليفعل من ذلك ما فيه مرضاة الله سبحانه، ولا ينبغى أن يظن ظان أن بوسعه معصية الله تعالى ردحا من الزمن, ليذهب بعد لأداء الحج فتمحى عنه الذنوب والسيئات، ثم يعود بعد حجه إلى ما كان عليه من الضلال, إذ لا يعد الحج ماحيا للذنوب بمجرده، إلا فى حق من عقد العزم مع نفسه, وعاهد ربه على مداومة الطاعة بعد أداء المناسك.