التى أثارت جدلا كبيرا قائلا إن بلاده لا يمكن أن تحتمل المزيد من اللاجئين الذين يمكن أن يتحولوا لإرهابيين، وأنهم يمثلون خطرا على مسيحية أوروبا، فى نفس الوقت بدأ أنصار تلك السياسات بتوزيع منشورات فى العاصمة بودابست تقولها صراحة فى وجه اللاجئين: «إذا جئت إلى المجر عليك أن تحترم قوانيننا! إذا جئت إلى المجر عليك ألا تأخذ من المجريين وظائفهم!»
هو مد إسلامى إذن كما يراه أوربان، ذلك المد الذى فرضته الأزمات المتلاحقة بالشرق وعجز أوروبا وحلفائها عن إيقاف سبب استمرار تدفق اللاجئين, فخلال الأشهر الماضية واجهت المجر سيلا من اللاجئين القادمين برا عبر صربيا من اليونان التى وصلوها بعد أن قطعوا بحر إيجه من السواحل التركية إلى الجزر اليونانية، هؤلاء الذين يختزنون قصص الحرب وآلام الطريق فى جنباتهم، لا مهرب لهم إلا عبور المجر باعتبارها العتبةَ الأولى فى دول الاتحاد الأوروبى التى تخضع لاتفاقية دبلن، التى تعنى بتنظيم شئون اللجوء بأنواعه المختلفة.
أمام فضائحِ الموت المعلن الذى يشهده طريق الآلام نحو أوروبا وفى ذروة التعاطف العالمى والإنسانى مع قضية اللاجئين السوريين تحديدا عقب غرق الطفل إيلان على سواحل تركيا، فاجأ رئيس وزراء المجر الأوروبيين قبل غيرهم بتصريحات نارية غريبة تحذر من اللاجئين بوصفهم حاملى ثقافة جديدة مختلفة عن شعوب القارة العجوز، تلك الثقافة الإسلامية التى رآها أوربان ستجتاح دول أوروبا تحمل فى طياتها تهديدا لشعوب أوروبا المسيحية الذين سيغدون غرباء فى أوطانهم بعد عقود بحسب نظرية رئيس الوزراء المجرى الذى سبقت أفعاله تصريحاته، حين أوعز برفعِ سلك شائك بطول 109 أميال على الحدود المجرية الصربية سعيا من حكومته لعرقلة وصول اللاجئين، فضلا عن دفعه البرلمان المجرى للتصويت بأغلبية ساحقة على قرار نشر الجيش على المدن الحدودية كحائط صد لرياحِ القادمين الحاملين ثقافتهم المختلفة، وإمعانا فى إرساء تصريحاته, بدأ فى تشريع قوانين قضائية تخص المهاجرين غير الشرعيين والتى وصلت إلى حد الحكم بالسجن لمدة ثلاثة أعوام فى جرائم معينة .
وتثير مواقف رئيس الحكومة المجرية إزاء المهاجرين موجة من الانتقادات فى الأوساط العالمية، حيث وصفت صحيفة «واشنطن بوست» الحكومة المجرية بأنها «غير ليبرالية»، ووصفت إجراءات أوربان فى هذا السياق بأنها «قاسية», أما تصريحاته العنصرية فقد جعلت البعض يلقبه بـ «دونالد ترامب أوروبا»، فى إشارة إلى المرشح الرئاسى اليمينى الأمريكى المثير للجدل، والذى يفصح عن آراء على قدر مشابه من التشدد فى مسألة الهجرة.
غير أنه لا يمكن فهم موقف أوربان إلا بالعودة إلى الجذور اليمينية للأحزاب التى تآلفت معه خلال مسيرته السياسية، فتلك الأحزاب اشتهرت بعنصريتها ونزوعها إلى القوميات الضيقة مما جعلها حبيسةَ الشعارات بينما البلاد تغرق فى فساد وكساد اقتصادى وسياسى على حد سواء.
بينما يرى كثيرون أن أوربان يفتعل تلك المشاكل ليكسب أرضية جديدة بين المجريين الذين يزداد جنوحهم نحو اليمين القومى المتطرف المتمثل فى حركة «يوبيك» الصاعدة، والتى حصلت على 20% من أصوات الناخبين فى الانتخابات الأخيرة وتعد التهديد الرئيسى لحزب «فيدس» الذى يرأسه فيكتور أوربان، وهو رأى قوى بالنظر لكون اللاجئين قد أمضوا شهورا طويلة يمرون فيها بسلام عبر المجر وإلى ألمانيا دون ضجة، إلا أن إدارة أوربان قررت فجأة أن توزع استطلاعات على المواطنين تسألهم فيها عن رأيهم حول استضافة اللاجئين، ثم شرعت فى وضع تلك اللافتات التحريضية ضدهم دون سبب وجيه.
لم تكتف حكومة فيدس بذلك، بل استغلت مسألة المهاجرين لتعزيز سلطانها التنفيذى المتنامي، حيث عدلت قوانين الطوارئ والتى تشير الآن إلى أن وجود أكثر من 500 لاجئ شهريا هو وضع يستتبع تلقائيا إعلان قانون الطوارئ، وهو ما تقول الحكومة أنه يضمن استخدام القوة اللازمة لكبح أى محاولات من اللاجئين إحداث الفوضي، إلا أنه فى الحقيقة مجرد تحرك جديد من أوربان لتشديد قبضته فى الداخل، فى دولة لم تعد ديمقراطية بالمعايير الأوروبية كما يذهب أغلب المحللين، أو دولة ديمقراطية ولكن بدون المبادئ الليبرالية الغربية. ومنذ وصول أوربان إلى الحكم تم محو استقلالية القضاء وتعيين موالين سياسيين فى المحاكم، وإجراء تطهير سياسى شامل فى جهاز الخدمة المدنية ومكتب المحقق العام، وإصدار قوانين انتخابية جديدة تفيد الائتلاف الحاكم، فضلا عن ابتزاز وكالات الأخبار، والتى أصبح من الجائز تغريمها بغرامات قد تؤدى لإغلاقها إن تجرأت على نشر ما يعتبر «أخبارا غير متوازنة سياسيا» برأى لجنة تعينها الحكومة.
ولكن السؤال الذى يتبادر إلى الذهن الآن هو: لماذا لا تفعل أوروبا شيئا حيال أوربان أو تحاول الضغط عليه ليلتزم بمبادئها الغربية؟ ببساطة لأنها تدرك أن البديل هو يمين أكثر تطرفا من اليمين الذى يمثله حزب «فيدس»، وهو واقع فى بلدان أوروبية كثيرة يجتاحها اليمين منذ الأزمة المالية عام 2008 احتجاجا على هيمنة مؤسسات الاتحاد الأوروبى الفاشلة كما تراها تلك الشرائح المعارضة، وهو ما يدفع بروكسل لاحتواء الحكومات اليمينية المخالفة لها بدلا من الضغط عليها ومن ثم تحويل قواعدها الشعبية نحو حركات أكثر راديكالية. فحزب «فيدس» هو الحزب الوحيد الذى يمكن أن يبقى على حركة «يوبيك» تحت السيطرة، وهو ما توصل له تقرير صدر مؤخرا عن المجلس الألمانى للعلاقات الخارجية DGAP.
وبالنظر لوجود عدد ضئيل من المهاجرين فى المجر وتوجه اللاجئين لها كمحطة لألمانيا ليس إلا، فإن موقف أوربان كشف حقائق كثيرة, أولها أن الاجئين باتوا يدركون جيدا أنهم لن ينعموا بحياة جيدة فى ظل مجتمع يزداد تطرفا مقارنة بما سيحظى به من معاملة أفضل فى ألمانيا والنمسا، ثانيها أن هناك رسائل موجهة للناخبين المجريين لتقول لهم أن أوربان يتمسك بمواقف قومية، وأنهم ليسوا بحاجة للتصويت لحركة «يوبيك»، وهو ما يريده أوربان بالضبط من كل تلك الضجة والتصريحات, ثالثها أن المسيحية ليست على جدول أولويات أوربان كما قد يبدو للوهلة الأولى ولا حتى أوروبا أو الغرب الذى تتسع الهوة بينه وبينها باستمرار، كما أنه ليس ثمة دليل على كراهيته للإسلام كما يبدو، والذى وصفه قبل ثلاثة أشهر فقط باعتباره هدية روحانية وفكرية عظيمة للعالم بأسره.