وانطلاقًا من دورها في إحياء التراث، قامت مكتبة الإسكندرية بإصدار النسخة العربية لكتاب: «ابن خلدون.. البحر المتوسط في القرن الرابع عشر، قيام وسقوط إمبراطوريات».
وهذا الكتاب صدر أول ما صدر في إسبانيا، ليوثق لمعرض أقيم تحت رعاية مباشرة من الملك خوان كارلوس الأول والملكة صوفيا، وذلك في إشبيليه، ما بين شهري مايو وسبتمبر 2006.
وتأتي ترجمة الكتاب إلى العربية لتبعث الإرث المشترك للعرب والأسبان، حيث ينفض الغبار عن عدة جوانب من حياة ابن خلدون ومحيطه المكاني في حوض البحر المتوسط خلال القرن الرابع عشر -أكثر القرون تحولاً نحو التفكك والاضمحلال في العالم العربي فى مقابل ازدهار وتحول نحو النهوض والانبعاث في العالم الغربي- أي تحول وانتقال ما بين ضفتي المتوسط، المكان والمجال الذي تنقل من خلاله ابن خلدون ما بين تونس والمغرب والأندلس ومصر.
ورغم رحيل العلامة العربي المنحدر من أصول أندلسية منذ ستة قرون، فإن شعوب العالم تتزاحم للاحتفاء به, عرفانا لما خلفته أطروحته الفلسفية من كنوز ، فلقد أثبت أنه عالم الاجتماع الأول بلا منافس وشهدت بذلك الماركسية المعاصرة.
بل هو أهم مؤرخ. فقد أصدر أحكامه في الخبرات البشرية التي عايشها، وانتهج نهجاً علمياً في التصدي للتاريخ البشري عاكفا علي بحث العوامل الموضوعية لتقدم المجتمعات.
لقد حاولت أعمال أدبية وأكاديمية وتراجم متنوعة تناول الأفكار الخلدونية، بيد أن هذا الكتاب يعد دعوة للتمحيص في أفكار هذا العبقري من خلال التركيز علي ابن خلدون الإنسان وتحليل أعماله التي اختلطت فيها فلسفة التاريخ بفلسفة المعرفة وفلسفة الحضارة .
يأخذنا هذا السفر النفيس بما يشتمل عليه من مقالات في رحلة تاريخية عبر الزمان والمكان وبالأخص القرن الرابع عشر، مستعرضا أهم الأحداث والظروف التي عاصرها ابن خلدون، وما اعتري حوض البحر المتوسط من تقلبات كانت المخاض لولادة عصرنا الحديث ولعل الفكر الخلدوني كان ومضات النور التي قهرت السديم وانبثقت عنه كل الحركات الإصلاحية العربية والإسلامية.
فقد انكب ابن خلدون علي دراسة الظواهر الاجتماعية من خلال اختلاطه بشعوب المتوسط، وكشف القوانين التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية الكبرى، في نشأتها ونموها وتطورها. وقد تجلي فكره في «المقدمة» التي ألمح فيها إلى مغالطات المؤرخين وتحدث فيها عن فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه، معلنا تأسيس علم جديد أطلق عليه علم «العمران», وانتبه لأهمية المجتمعات البدوية وفضلها على الإنسانية، وقارن بينها وبين المجتمعات الحضرية واعتبر كلا منهما شكلا من أشكال العمران، وقد لخص كل ذلك في مفهوم العصبية.
يجمع الكتاب بين طياته 50 مقالاً, بهدف تحليل الجوانب الإيجابية والسلبية بين الشرق والغرب وصولاً إلي خلاصة مؤداها «أن الأندلس بما تحمله من عبق الخبرة، تمثل السيناريو الأمثل لتعزيز الحوار بين الحضارات، بعيداً عن دعوات الفرقة والتنابذ». وقد توجت هذه المقالات بمجموعة من الوثائق وصور المقتنيات ذات القيمة الفنية والتاريخية.
لقد حاول هذا الكتاب الإجابة عن العديد من الأسئلة المتشابكة، التي توصي بها سيرة حياة وأعمال ابن خلدون في ذكري مرور ستة قرون علي وفاته، مبرزاً الدروس المستفادة من خبرته التاريخية ومحاولا تأكيد المقاربة الإنسانية التي كانت من سماته في رؤيته للأحداث والتدليل عليها بالبرهان.
والكتاب فرصة للتأمل في أفكار ابن خلدون الإنسانية حول التاريخ والحضارة،.بما تنطوي عليه من نظريات ودلالات علمية واقعية، الأمر الذي يلهم ضمائرنا بمثال فريد عن صلابتها.. إنه بانوراما تعرض تاريخ مصر والجزائر وتونس والمغرب وإسبانيا والممالك المسيحية وتاج أراجون وجزر البحر المتوسط وفرنسا والمدن الإيطالية والإمبراطورية العثمانية، جنباً إلي جنب مع ماركو بولو وابن بطوطة ودانتي وبترارك وأرثيبيستي دي هيتا.. وأخيراً ابن خلدون وسيرته وأعماله وأسفاره والعالم الذي عاش فيه.