وراء هذه الماكينة كانت تجلس سيدة عظيمة.. أم مصرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولدت فى قرية فارس بأسوان عام 56 تزوجت وعمرها "تسع سنوات" من أحد شباب القرية، وعند بلوغها عامها الثانى عشر أنجبت منه أول طفل لها.
طفلة تلد أطفالا... لم تكن هذه هى المأساة فى حد ذاتها، فقد كانت سعيدة وراضية بحياتها التى لا تختلف عن حياة باقى بنات القرية فى سنها، لكن تقلبات الحياة لم تنسها فى قريتها المنسية وطالتها بشىء من الحزن ونقص من الأموال والأولاد.
فقد مات أحد أبنائها محروقا فى طفولته، وانكوى معه فؤادها بلهيب الضنى.. وفى الوقت نفسه، أصاب الزوج مرض الاكتئاب.
وظلت هى هكذا... شابة صغيرة السن مسئولة عن أسرة كاملة أم وأب وأطفال.. يجب أن تعولهم لتمر بهم الحياة. لكن أنّى لها ذلك وهى "امرأة" فى قرية صعيدية غير مسموح فيها للخروج للنساء للعمل والاختلاط بالرجال مهما تكن الأعذار والظروف.
فباعت القرط المدلى من أذنيها، وأشترت بثمنه ماكينة خياطة, وبدأت فاطمة صفحة جديدة من رحلة كفاحها لتربى ثلاثة أبناء أكبرهم فى العاشرة وأصغرهم لم يكمل عامه الأول آنذاك.. وقدمت من بيتها الفقير للمجتمع شيئا من أعظم ثرواته...
ولأن السفن كثيرا ما تأتى بما لا تشتهى الأنفس ... أو على وجه الدقة بما لا تطيقه الأنفس، طردها زوجها من بيت العائلة هى وأولادها وماكينة خياطتها... فحملتهم جميعا وراحت تتنقل من دار إلى دار من بيوت الأقارب شهر هنا وشهر هناك .
ولأن أباها كان يعمل فى بلد خليجى وله بيت طينى مغلق، لزمته وفيه أخيرا شعرت بنعمة السكن والستر.
وفى يوم من الأيام سألها ابنها الأوسط ( الروائى الشهير الذى تباع له العديد من الأعمال فى السوق اليوم): لم تفكرى فى الانفصال من أبى؟ كان ردها عملى بأن حاولت الرجوع لزوجها، لتلملم شملنا المتناثر رغم ما فيه من مرض. بل والأكثر من ذلك أنها أصرت على شراء قطعة أرض للسكنى حتى تستقر بعيدا عن بيت أبيها الذى ربما يأتى أخواتها للسكن فيه... وهذا حقهم، فهى لا تبارز الحياة وإنما تعمل بفن على حماية نفسها وأسرتها الصغيرة منها...
ورويدا رويدا سورت البيت بالطوب اللبن، داخله أقامت ثلاث غرف سقفها من جريد النخل.
ويقول ابنها الروائى الكبير محمد نجار الفارسى: أنا لا أنسى لها موقفا.. حينها كنت طالبا فى الثانوية وكنت أشفق عليها من جلوسها المتواصل ليلا نهارا على ماكينة الخياطة لذا طفقت أدبر نفقاتى بمعرفتى حينا وبالتوفير من مصروفى الشخصى أحيانا أخرى مثل عدم شراء سندوتشات للإفطار، يوما فتشت فى جيوبى ووجدت بعض الجنيهات فما كان منها قامت غاضبة وألقت بالجنيهات فى الشارع حتى لا أوفر (من بطنى على) حد تعبيرها. قالت وقتئذ: أنت ناقصك حاجة!
ومنذ سنوات ثلاث، توفى الزوج بعد معاناة استمرت لسنوات مع المرض، وهى الآن تشعر بالراحة الكبيرة لأنها لم تفكر فى لحظة للانفصال عنه تباعدهما لأكثر من ثلاثين عاما.. وكانت دائما تردد (مريض، الله يكون فى عونه) ولا يطرق لسانها إلا محاسن سيرته وطيب معشره .
و لعل أجمل ما فى قصة هذه السيدة العظيمة هو أنها رغم كل هذا المرار لم تمد يدها فى يوم لأحد.. بل وكان فى بيتها دائما نصيب للفقراء والمساكين كلما سمح الحال بذلك.