رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

المنهج القويم فى كشف خطايا التعليم..؟!

دكتور: سعيد إسماعيل على
عندما تُنسى الأوليات: من أكثر الأمور مدعاة للانزعاج حقا، عندما تجد أمورا هناك ما يشبه الإجماع عليها ، وبالتالى يمكنك القول أنها أصبحت من «المسلمات» ، و«الأوليات»، بحيث تُراعى فى التطوير والنهوض، ومع ذلك " فلا حس ولا خبر" ، وكأن المعنيين قد تمثلوا الشكل المثير للسخرية الشهير: «لا أسمع..لا أرى..لا أتكلم »!!

ونحن نعتذر للقارئ الكريم عندما نجد أنفسنا مضطرين لإعادة القول فى واحدة منها، تعتبر «أبرز» المسلمات، ورأس «الأوليات» ألا وهى: «الإنسان» مقياس كل شىء « لا بالمعنى الذى أراده مجموعة السوفسطائيين» فى بلاد اليونان فيما قبل الميلاد، ولكنه الإنسان الذى استحق أن ينيبه الخالق عز وجل خليفة له على الأرض.. الإنسان: العاقل..الحكيم..الفاعل..العارف..

ولأن الاقتصاد فى عصرنا الحديث أصبح صاحب الأولويات، والحاكم بأمره فى شئون الأفراد والمجتمعات والدول، فقد تضافرت جهود كوكبة من العلماء، منذ أكثر من نصف قرن، سعيا للإجابة عن سؤال يتعلق بجملة العوامل المسئولة عن المكسب والخسارة فى النمو الاقتصادى، غير تلك المعروفة والمتفق عليها بالنسبة للموارد المادية، فاكتشفوا أن " التعليم" يقف فى المقدمة، من حيث هو منبع للكثير مما يحتاجه النمو الاقتصادى: المعرفة المتقدمة..الابتكار...التجديد ..الذكاء..حسن المبادرة..الحماس..الهمة..الإتقان..الكفاءة..إلخ

ومن هنا انفتح باب واسع عريض لمئات الكتب والبحوث والدراسات، استقلت بعلم عظيم اسمه ( اقتصاديات التعليم)، والذى استتبع علما آخر هو ( التخطيط التربوى)..وشهدت المكتبة العربية فى وقت مبكر حقا، أول الستينيات أول كتاب فى هذا لأستاذنا الرحل الدكتور حامد عمار (فى اقتصاديات التعليم)، ورافقه كتاب يحمل الشعار الذى تتبناه كل المجتمعات المتقدمة على وجه التقريب ( فى بناء البشر) .

وإذ تشهد سنوات الستينيات الأولى استقلال عدد من البلدان النامية، سارع الكثير منها لـ «بناء الإنسان » ، عن طريق التعليم، حيث هذا هو الطريق المستقيم " للتنمية " لا مجرد " النمو".. انظر بسرعة ، مقارنة شهيرة، تقليدية بين مصر واليابان، دون قصد أو أوجع قلبك ، حيث نجد أن اليابان أكثر سكانا من مصر، وأن مصر أكثر فى مواردها الطبيعية من اليابان، ومع ذلك فالهوة واسعة بين مستوى التقدم العام والنهوض الحضارى بين الدولتين، واسأل عن السبب، تجده واضحا صارخا أما أعين الجميع: تميز الإنسان اليابانى، واحتلاله المركز الأول فى جميع الموارد ، بأى مقياس تختار.. من يرضى بحال بناء إنسان أمنا الغالية..وطننا الحبيب.. من يسكت على هذا، ويمكن أن ينام دون قلق؟!! فما الحكاية بالضبط؟.

عندما يمر البعض بسرعة على مجمل المقال قبل قراءته تفصيلا، ربما يهمس بينه وبين نفسه: الم نكتب، ويكتب غيرنا، عشرات، وربما مئات ، المرات من قبل؟ ونبادر إلى القول: إذا رأيت إنسانا " يحط على وجهه الذباب ، وتكسوه الأتربة، فتنصحه بأن " يغسل وجهه"، ثم مررت عليه مرة أخرى ، فوجدت حاله كما هى، فسوف تكرر له النصيحة..وهكذا تجد نفسك مكررا للنصيحة، مادام الذباب والتراب، وما لحقهما ما زال يحط على وجه وجسم صاحبنا!!.

اللعب " الاستراتيجى"!

بعد الحرب العالمية الثانية راج مصطلح (الاستراتيجية)، استعارة من عالم " العسكرية" ..وكان عالم التعليم من أبرز المهتمين بهذا المنحى من التفكير، فرأينا ( استراتيجية محو الأمية فى العالم العربى)، و(استراتيجية تطوير التربية فى الوطن العربى) ، وغير هذه وتلك.. وفى ربيع عام 1987، اتصل بى الدكتور أحمد فتحى سرور، وزير التعليم وقتها، مبشرا لى برغبته فى أن يضع استراتيجية لتطوير التعليم فى مصر، وبرغبته أن أعينه فى ذلك، وهو الأمر الذى تم بالفعل، وعُرضت الاستراتيجية فى مؤتمر قومى حضره رئيس الجمهورية. لم تمر شهور قليلة، حتى أصدر الدكتور سرور قانونا كارثيا بخفض فترة التعليم الابتدائى سنة، ولم يكن هذا أبدا له وجود فى الاستراتيجية، التى لم يكن حبرها قد جف بعد!! لماذا إذن كانت الاستراتيجية؟ مجرد كلمة براقة، فخمة، تخطف الأذان ، وتهز المشاعر؟؟ والأكثر مدعاة للأسى والأسف، أن من ركائز مبادئ الاستراتيجية التى وضعتها ( التجريب قبل التعميم )، فلا يطبق أمر فى التعليم قبل أن ندرسه دراسة علمية، ونجربه على نطاق ضيق، فإذا أثبتت التجربة صلاحه، تم تعميمه..ومع ذلك فقد قضى القانون الجديد بتعميم المدرسة الابتدائية ذات السنوات الخمس دون تجريب، ودون بحث، ودون دراسة.. وإذا قد قام أحد بدراسة التكاليف القومية التى ترتبت على هذا، وظل تعليمنا يعانى مما عُرف بــ «الدفعة المزدوجة» عدة سنوات، لهالتنا مئات الملايين التى ضاعت.. ومع ذلك، فلم يحاسب أحد أحدا، على هذه الجريمة القومية الضخمة!! وهذه ثغرة شهيرة ضخمة، تفتح الباب لما يمتص خيرات الوطن، ويطيح بالبناء البشرى المصرى، فى الوقت الذى نحاسب فيه مهندسا أو أكثر عندما يتهاوى مبنى أقامه فأودى بحياة بعض الناس، وهو حساب ضرورى من غير شك، لكن: لماذا يفلت من مثل هذه من أسهم فى خلل جسيم أصاب بناء ملايين من البشر من أجيالنا الجديدة؟.

وفى عام 2007، شمر الدكتور يسرى الجمل عن ساعديه، عندما كان وزيرا للتربية، مبشرا لنا بأن هناك فريق شكّله، وأخذ يعمل شهورا طويلة، وينفق مئات الألوف من الجنيهات، لوضع ( استراتيجية جديدة لتطوير التعليم فى مصر) ، لكنها دخلت " ثلاجة الموتى"، عندما تولى الدكتور أحمد زكى بدر أمر الوزارة.. أيضا دون أن يحفل الوزير الجديد بأن يبين لنا العوار الذى اكتشفه فى الاستراتيجية، مما جعله يدير ظهره لها، ولا أحد حاسب أحدا على مئات الألوف من الجنيهات والدولارات التى أنفقت على هذه الاستراتيجية..من يحساب من؟.

وعندما عاود الدكتور محمود أبو النصر وزير التربية السابق جهدا جديدا وشكل فريقا لوضع استراتيجية جديدة لتطوير التعليم حتى عام 2030 ، سخرنا من ذلك، لأننا أصبحنا خبراء فى متابعة تولى وزراء التربية المسئولية، وكيف لا يلتزم الحاضر بما كان للسابق، وكشفنا هذا فى مقال طويل نشرته الأهرام مشكورة.

وها قد مرت شهور غير قليلة على تولى الدكتور محب الرافعى وزارة التربية، ولم نسمع شيئا عن المصير المعتاد لاستراتيجية تطوير التعليم..من يحاسب من على مئات الألوف التى أنفقت على استراتيجية أبو النصر؟.

وتساؤلنا هذا المتكرر بالنسبة للمحاسبة، اقتصر على ملايين الجنيهات، لكن خسارة التعليم نفسه، طريقة ومنهجا ونظاما، وعملية، ومستقبلا..وما يتصل بهذا كله من صور خلل فى بناء الإنسان المصرى...من يمكن أن يحسبها؟.

نخدع أنفسنا عندما نشكو الفقر المالى..الفقر الحقيقى فقر المحاسبة..فقر الضمير..فهل نشكو بعد ذلك من فقر التعليم، الذى هو علة فقر الوطن؟.

التنافس الخائب؟!

فى بعض المجالات التى يظهر التنافس حادا إلى درجة ما يشبه الحرب، مثل مجال التجارة، فإن شركة تنتج سلعة معينة، إذا ظهرت فى السوق شركة أخرى تنتج ما يماثلها، ولكن بشكل أفضل أو بسعر أرخص، تلجأ القديمة إلى إحدى وسيلتين أو كليهما: أولهما أن ترفع من مستوى سلعتها وتخفض من سعرها، وربما تلجأ إلى بعض الأساليب السوداء بحيث تقوم " بتخسير " المنافسة، أو ربما ، مثلما نرى على يد " محمود المليجى"، فى الأفلام، تستأجر من يحرق البضاعة والأرض.

الوسيلة الأولى وسيلة الشرفاء الأقوياء..ومثل هؤلاء يضيفون إلى المجمل العام، ويرسون قيما طيبة، ويشيعون مناخا صحيا.

والوسيلة الثانية، ترسى قيما فاسدة، وتزرع بذور إرهاب وعنف،وتبدد ثروات، وتشير على فقر تفكير، وإفلاس نفوس.. ووزارة التربية تقدم سلعة غالية إنسانية ثمينة هى التعليم لملايين الطلاب.. فماذا لو رأينا ملايين الطلاب، يديرون ظهورهم إلى السلعة شبه المجانية، ويذهبون لطلبها من مراكز الدروس الخصوصية، ويدفعون فى سبيلها آلاف مؤلفة من الجنيات؟ وبماذا تفسر هذا؟ دون إعمال فكر، وكدّ ذهن، فالزبون يدير ظهره لمن يقدم سلعة مغشوشة، ولو مجانا أو بجنيهات محدودة، ويضحى ليدفع الكثير لسلعة تسد احتياجه، وأثبتت التجربة عبر سنوات، وعبر مئات الألوف من الزبائن السابقين أنها تستحق الثقة.

وهكذا أصبحنا فى السنوات الأخيرة، خاصة بعد مرور أشهر قليلة على بدء الدراسة، نرى فصول المدارس، وخاصة الحكومية، خاوية على عروشها..بينما مراكز الدروس الخصوصية تعج بالآلاف!!. فماذا يجب على الوزارة أن تفعل؟.

المنطق يقول : بذل الجهد الكبير لتحسين السلعة المقدمة، وظروف تقديمها.. لكن التفكير الرسمى اتجه الاتجاه الخائب، وأخشى أن أقول : الغبى.. معاقبة المسئولين عن مراكز الدروس الخصوصية ومطاردتها والسعى إلى إغلاقها!!.

وإذا كانت هناك نظرة عادلة منصفة، فالذين يستحقون العقاب هم مسئولو التعليم فى مدارسنا، لا أصحاب المراكز.. لا اقول ذلك دفاعا عن المراكز، فهى بالفعل سُبّة فى جبين التعليم المصرى، ولكن فلسفة العقاب تتجه فى الغالب إلى " المحرض" و " المتسبب" ، فمن هو المحرض ومن هو المتسبب؟ أليس هو من يقدم سلعة مغشوشة ورديئة؟ أم من يقدم السلعة الجيدة ذات الكفاءة المرتفعة التى تسد حاجة الزبائن؟. مثال آخر... فقد شمر أحد وزراء التربية السابقين الخائبين عن ساعديه، ومضى يمتشق حسامه ليعلن على الملأ أنه سيقضى على ظاهرة " الكتاب الخارجى"، الذى يدفع فيه ملايين التلاميذ ملايين الجنيهات، بينما الوزارة تتكلف مئات الملايين لتأليف وطباعة كتب مدرسية لتلاميذ جميع مراحل التعليم.. غاب العقل العلمى عن الموقف، وحلت محله الفهلوة، والرغبة المحمومة فى احتلال مساحات معتبرة من أجهزة الإعلام المقروءة والمرئية التى تبحث عن المثير واللافت للأنظار، والذى يهم الناس.. فالعقل العلمى، من شأنه أن يطرح السؤال الطبيعى: لماذا ينصرف الطلاب عن الكتاب الرسمى ويُقبلون على الكتاب الخارجى، ويدفعون فيه الكثير، رغم أن الأول متوافر بين أيديهم؟ الإجابة التى يمكن أن يسفر عنها البحث العلمى فى مثل هذه القضية، سوف تضيف إلى الفكر التربوى آراء وأفكار وتحليلات مطلوبة، وستوفر ملايين على الناس وعلى الدولة، وسوف تعزز منطق المواجهة العلمى الإنسانى الشريف: بدلا من أن تعاقب منافسك..تفوق عليه، فإن لم تستطع، فسوف يستمر فى تقديم السلعة، حتى ولو سرا ، ومن وراء الأبواب، وتذهب النقود إلى غير مستحقيها ، وتضيع ملايين على الدولة، ويشقى المواطن بين غباء من هنا، واستغلال من هناك!!.

" الاستزراع التربوى" ..له شروط!!

عندما أصدر الدكتور فتحى سرور عام 1988 قانونا بإنقاص سنة دراسية من التعليم الابتدائى، مستندا فى ذلك إلى فتوى مزعومة لليونسكو بأنه يمكن اختصار مدة الابتدائى إلى خمس سنوات، قلت له ، على شاشة القناة الأولى من التليفزيون الرسمى، حيث لم تكن الفضائيات الخاصة قد ظهرت بعد، إنه مثل من أعجبته السيارة المرسيدس ، فأراد تركيب عجلة قيادتها للعربية الكارو التى يركبها متصورا تطويرها بهذه الطريقة!!.

ورغم مرور سبعة وعشرين عاما على هذا الحديث، يجىء من يزعم تطوير التعليم، اقتداء بدول متقدمة، فيتحايل على مجانية التعليم الجامعى، حتى وإن أصبحت " شبحا" فى واقع الأمر، وكذلك تحويل عمل أعضاء هيئة تدريس الجامعات إلى نظام العقود ..

إنه منطق التفكير نفسه المؤسف الذى يريد استزراع جزء من منظومة فى جسم آخر مغاير تماما فى كل صغيرة وكبيرة..وأستأذن فى رواية تجربتى الشخصية مع أطراف من التعليم الجامعى فى المجتمع الأمريكى، لنؤكد على المبدأ المهم، الذى أصبح من أبجديات التفكير التربوى خاصة:

فى بوسطن، عام 1981، رأيت عميدة كلية التربية، لا شأن لها إلا بالتعليم والتعلم فقط، وهناك أجهزة أخرى مستقلة: واحد عن تسليم الكلية كلها قبل الساعة 8 صباحا كاملة النظافة، وجهاز مسئول عن أنشطة الطلبة، وآخر عن الامتحانات، وآخر عن القبول..وهكذا..

الأستاذ الأمريكى الذى كان مسئولا عن مهمتنا، كان له مكتب خاص له وحده ، واسع، به مكتبة ضخمة، وله سكرتيرة، وإذا أراد أى كتاب قامت المكتبة الخاصة بالجامعة بإحضاره من أى مكان، إذا لم يكن بها.. ورغم مهمتى القاصرة على ثمانية شهور فقد تمتعت بالتأمين الصحى.. وكان هناك أتوبيس مجانى ينقلنا من محطة المترو إلى مكان الكلية..

فى مثل هذه المنظومة التى تعطى العضو الكثير، يستحيل أن يستنكر أن تطلب منه المؤسسة أن يكون وجوده بعقد.. هذا على مستوى التعليم، أما على المستوى الحياتى العام، فاقرأ ما يلى:

كنت أريد الذهاب إلى محطة مترو، لكن كان أمامى التقاء عدة طرق سريعة واسعة ضخمة، واحترت : كيف سأعبر بعكازى كل هذا ؟ ثم توكلت على الله، ونزلت من على الرصيف مستعدا لاختراق حركة المرور، فإذا بى أرى أن الحركة كلها فى كل الشوارع توقفت، مما تصورت معه أن مسئولا كبيرا سوف يمر، مع أنهم لا يعرفون مثل هذه الأساليب المؤسفة ، فإذا بواحد يشير لى أن الحركة المرورية توقفت كلها من أجلى أنا، الذى لا يعرفون من هو، وإنما مجرد أنه إنسان ، يتكئ على عكاز، فلابد أن يتوقف له الجميع!!.

وهكذا رأيت أنه ما من موقف به طابور، إلا وينبهوننى إلى أن مثلى لا ينبغى له أن يقف فى أى طابور، حيث له الأولوية..وهكذا الأمر فى كل وسائل المواصلات..

للإنسان قيمته فى حد ذاته

كأنه ملك غير متوج

فى مثل هذه المنظومة المجتمعية، يستحيل على مواطن أن يستكثر أن يُطالب بالتعاقد، ودفع مصروفات الجامعة..أما أن نحاول تركيب عجلة قيادة سيارة مرسيدس على عربة كارو، فلن ينفع هذا أبدا، بل وسوف تسوء العربة الكارو التى هيئت كى يجرها حصان!!

(...أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .... (85))- سورة البقرة .

هل نريد أسطوات تعليم أو مربين؟

رغم نفورى من المقابلة بين بعض الثنائيات المفتعلة، حيث أومن دائما بالنظرة التكاملية، إلا أننى اضطررت إلى المناقشة الحالية، مواجهة لاعوجاج منهج تسير عليه كليات التربية، منذ كارثة ما سمى «تطوير كليات التربية» منذ منتصف العقد الأول من القرن الحالى.

فعطفا على ما أشرنا إليه من الكتب المدرسية الخارجية،وكذلك مما يتصل بمراكز الدروس الخصوصية.. فإن العلة وراء هذا وذاك إنما هو لتقليدية مناهج التعليم وطرق التدريس، والامتحانات، من حيث التركيز على مجموعة من المهارات التى تعزز الحفظ والتلقين ، مما يفرض وجود " أسطى تعليم" يدرب التلاميذ على تلك المهارات، وبالتالى يوجه أساتذة المعلمين فى كليات التربية أن يقتصروا فى برامج الإعداد على مثل هذه المهارات، أما كيفية التفكير، والنقد ، والتعليل، والابتكار، والمقارنة وطرح التساؤلات ، والوعى المتعمق، والثقافة الواسعة، فهذا تضييع للوقت.

ليست المسألة مسألة تعليم وتثقيف وتنوير ..إنها كيفية اكتساب مجموعة مهارات تتيح للطالب فرصة الحصول على مجموع عال!!

هذه هى القضية..

وآخر مشهد، كنت فى صلاة التراويح فى رمضان الماضى، وبجوارى صديق أستاذ فاضل للكيمياء، وجدته مهموما فسألته عما به؟.

وجدته مثل طالب الثانوية العامة، قال إن اليوم التالى هو امتحان الكيمياء وأنه هو واضع أسئلة الامتحان، ويخشى ما يثار كل يوم على صفحات الجرائد من بكاء وعويل وإغماء زعما بأن الامتحان كان صعبا، وأقسم أنه حرص على أن تجىء الأسئلة نصا وحرفيا من الكتاب المقرر، حذو النعل بالنعل- التعبير من عندى..

أما حكاية إشعال الخيال، وتفجير طاقات الابتكار، واستنفار حرية التفكير والتصرف..: " أضغاث أحلام" ..وهو قد أضحى من أساطير الأولين، حيث أصبح الرأى العام يجرك إلى الوراء..ويحبذ الحرفية و" التناص" بين الأسئلة وسطور الكتاب!.

طبعا القضية متشعبة ومتشابكة الأطراف..لكن ما يعنينى منها هو الخيط الرابط..والقِبْلة المحركة..فالمسألة أصبحت تدريبا على مهارات، لكن أى نوع من المهارات؟ إنها تلك التى تحقق مقولة عالم النفس الشهير: كل ما يوجد يوجد بمقدار، وكل ما يوجد بمقدار يمكن أن يُقاس..حتى " تشيّأ " الإنسان..

ولو كانت الفلسفة الحاكمة هى ما يدور فى فلك الوعى والتفكير والتثقيف، وأن الامتحان " وسيلة" لا غاية" ، كما أصبح الآن، لكانت الدنيا ..دنيا التعليم، غيرها الآن!!

وأكرر هنا أننا بالطبع لا نغفل عن أهمية "المهارات العملية"، لكن، ونحن نرى أن الشجرة( المهارات) لا ينبغى أن نغفل عن البصر بالغابة، أى البيئة والسياقات المجتمعية التى تنبت فيها المهارات العملية وتعمل، وتتنفس لتزدهر، أو تختنق..

العقول المعطلة:

إذا كان كل عمل يتناول منشآت وإدارات وموارد مادية مختلفة بحاجة فى عصرنا الراهن إلى البحث العلمى من أجل التطوير والتحسين وتوفير مواصفات الكفاءة والجودة، فما بالنا بهيئة قومية ضخمة، مسئولة عن " بناء" بشر يُعدون بالملايين، من حيث حاجتها إلى البحث العلمى؟

إنها بطبيعة الحال، وزارة التربية..

من أجل هذا كان سعى أستاذنا الراحل الدكتور عبد العزيز القوصى أن يوفر بوزارة التربية، عندما تقلد أمرها الرائد كمال الدين حسين عام 1954 ما يشبه " العقل المفكر" ـ تمثل فى هيئة فنية، ضم إليها عددا من الباحثين فى علوم النفس والتربية.

وأذكر أننى عندما دعوت كمال الدين حسين فى الثمانينيات لندوة برابطة التربية الحديثة، اشترط وجود الدكتور القوصى، وعدد آخر من أساتذة التربية وعلم النفس، ولم أفهم فى البداية سر هذا الشرط.

عندما بدأت الندوة، فاجأنا كمال الدين بأنه يعرف أن الناس لم يعجبهم اختيار مثله لقيادة التربية والتعليم، لكنه أشار إلى أنه كان وزيرا سياسيا، يستثمر عضويته فى مجلس قيادة الثورة لينفذ ما يراه أهل الاختصاص فى التعليم، وكل أمر اتخذه – كما أكد - كان بعد دراسة وتجارب من هذه الهيئة الفنية، واستشهد بالدكتور القوصى بالنسبة لبعض الوقائع، فأكبرت موقف كمال الدين حسين، بعد ما حملت سنوات طويلة مشاعر سلبية تجاه توليه الوزارة!!.

ثم كانت الخطوة الأكبر عام 1972- إذا لم تخنى الذاكرة- بإنشاء الراحل الدكتور فؤاد البهى السيد لمركز البحوث التربوية، والذى نُظر إليه باعتباره " عقل" الوزارة: يدرس، ويبحث، ويجرب، ويفحص، وفق ما تشير إليه طريقة التفكير العلمى بخطواتها المعروفة..

ومع ذلك، فأرجو من يعرف، أن يدل مثلى ممن لا يعرف: عن مشكلة أو قضية، اعتمدت فيها الوزارة على هذا المركز كى تدرسها ، وإن درسها، أن تأخذ بما انتهى إليه!!.

بل إننى، ومنذ سنوات، وأنا أحضر مجلس إدارة المركز بقيادة أحد الوزراء السابقين، نبهت إلى أن أعضاء هيئات التدريس بكليات التربية، وهم ألوف، مفروض أن يعرفوا ويتابعوا ما يقوم به المركز من بحوث ودراسات، حيث إن هذه هى المهمة نفسها التى تقوم بها كليات التربية، ليحدث تعاون ، ولا تتكرر بحوث ودراسات، وتُهمل أخرى..كان هذا الطلب منذ ثلاث سنوات على وجه التقريب، وضربت مثلا بنفسى، باعتبارى أقدم أستاذ أصول تربية فى الجامعات المصرية ، وكان أستاذنا الدكتور عمار قد بدأ المرض يُقعده، ومع ذلك فلا علم لى أبدا بما يجرى بالمركز، فضلا عن عضويتى بمجلس إدارته..ووُعدت ، وما زلت فى حالة انتظار منذ ثلاث سنوات!!

وذكر فى الكتاب أيضا: المركز القومى للامتحانات والتقويم الذى نجح فى إنشائه زميلنا الراحل الدكتور فؤاد أبو حطب، الخبير العبقرى فى هذا المجال، وأسأل : لماذا تستمر مشكلة الامتحانات قائمة، وما تلقيه من ظلال كثيفة سوداء على مناهج التعليم وطرقه وإدارته، وقد مر على إنشاء المركز ما يقرب من ربع قرن؟!!.

بل إن المركز، كان قد أدرك أن المسألة ليست مجرد امتحانات ، بل هى ( تقويم ) كذلك لنظام التعليم، ووضعه أمام المساءلة، فقام فريق كبير بدراسة حال مدارس التعليم الأساسى فى أوائل التسعينيات، زمن وزارة الدكتور حسين بهاء الدين، ووصل البحث إلى نتائج مخيفة من حيث سوء الحال، وبصراحة علمية نادرة، فماذا كانت النتيجة؟

مُنع نشر التقرير، ولم يُجدَّد للدكتور فؤاد فى قيادة المركز!!.

وإذا كانت مثل هذه المراكز والهيئات( وكذلك الأكاديمية المهنية للمعلم ) لها مجالس إدارات مفروض أن تجتمع لبحث حال كل منها ومتابعة وظيفتها، فما القول فى إمكان أن تمر سنتان، وربما أكثر، ولا يُعقد اجتماع..أقول هذا عن تجربة، حيث أشرف بعضوية مجلس إدارة هيئتين..

ربما تلك إحدى المشكلات الناتجة على أن وزير التربية نفسه، هو من يرأس مجالس إدارة كل المراكز، ولأن العبء ضخم فى مثل هذه الوزارة، ولا يزال المنطق الإدارى المصرى متحكما ، المتمثل فى تعليق كل صغيرة وكبيرة فى رقبة أعلى " رأس " فى الوزارة، يجد الرجل نفسه غارقا فى بحر من القضايا والمشكلات، ويكون الضحية : البحث العلمى..حيث هو آخر ما نفكر فيه.

بل إن كل كلية تربية فى مصر، وهى قد زادت على الخمس وعشرين، بها مئات البحوث والدراسات، المتمثلة فى جهود أعضاء هيئات التدريس، حيث يُطَالبون بذلك للترقية ، فضلا عن مئات رسائل الماجستير والدكتوراه...كلها تتناول مشكلات وقضايا تتصدى لمختلف جوانب التعليم والمتعلمين، لكن وزارة التربية لا تلتفت أبدا إليها، والحجة الشهيرة أن كليات التربية تبحث موضوعات "أكاديمية"، والوزارة تريد بحوثا إجرائية وعملية.

وإذا كانت هذه الحجة صحيحة- وهى ليست كذلك دائما- فماذا فعلت الوزارة ببحوث مراكزها "العملية والإجرائية؟

ثم ، لماذا لا تكلف آلاف الباحثين فى هذه الكليات بدراسة ما تراه فى حاجة إلى بحثه ودرسه؟ أم أن " كله تمام يا ريس"؟؟!!

تعليم الدرجة الثالثة:

وإذا كان هناك ما يشبه الإجماع على سوء حال التعليم العام، فإن ما يسمى التعليم الفنى، قد أصبح مستحقا لهذا التوصيف الذى قلناه منذ سنوات، تعبيرا عن أن هذا التعليم هو " مهرب" أبناء الشرائح الاجتماعية الفقيرة، الذين لا يملكون القدرة على مواصلة التعليم إلى نهاية الطريق، فضلا عن حاجتهم إلى تعلم " صنعة" يكسبون بها قوتهم، وسوء حال هذا التعليم لا يقتصر على نوعية مريديه من أبناء الغلابة، بل يتضمن كذلك الكثرة الغالبة من عناصره مما يحتاج إلى حديث مستقل.

الغريب أن دستور 2014 نص فى إحدى مواده أن مرحلة التعليم الأساسى لم تعد تقتصر على نهاية التعليم الإعدادى، بل تشمل كذلك مرحلة التعليم الثانوى، وهذا يعنى توحيد كل أنواع التعليم الثانوى، مما يتضمن بالضرورة ألا توجد مدارس خاصة بالتعليم الفنى..

طبعا مفروض أن يظهر قانون يترجم ما نص عليه الدستور، لكن هذا قد مر أكثر من عام ونصف، والحال كما هو..

ومن غرائب تعليمنا، أن التعليم الفنى، عندما كان له وجود مستقل، كان تابعا لوزارة التربية، فلما نص الدستور على أن يندمج مع التعليم العام، إذا بنا نرى له وزارة مستقلة، وهو الأمر الذى كنا نحلم به من قبل، ومن ثم فلا ندرى : ما تكون وظيفة مثل هذه الوزارة المستحدثة، خاصة أن ما بعد الثانوية العامة يخضع لإشراف وتوجيه وزارة التعليم العالى!!.

وماذا بعد؟

غالبا فإن القارئ يتوقع فى نهاية المقال أن يقرأ لنا " روشتة" علاج لهذا الحال الذى يُنبئ باستفحال حالة التعليم المريض، والذى بحاجة إلى إدخاله غرفة إنعاش..

ونحن نؤكد للقارئ أننا لا نتخلى عن مسئوليتنا الوطنية والمهنية والأكاديمية حين نعتذر عن تقديم تذكرة العلاج المأمولة، وذلك ليس إفلاسا، ولا اقتصارا على الصراخ والشكوى، ولكن، لأننا كتبنا عشرات الكتب، تحمل العديد من صور التشخيص والعلاج، فضلا عن مئات المقالات، عبر عشرات السنين، لكننا لا نسمع دائما غير رجع صدى صوتنا ..

هذه ناحية ، ومن ناحية أخرى فإننا نرى أن القضية أشمل وأضخم وأخطر من أن ينفرد بتفصيلها تشخيصا، وعلاجا، واستشرافا شخص واحد ، مهما أوتى من خبرة طويلة وعلم كالبحر الزاخر..

لقد كثر منذ فترة الحديث عن مشروعات عملاقة، بل والسعى لتنفيذها..

وهذا أمر محمود من غير شك..

لكن الكثرة الغالبة من هذه المشروعات العملاقة تتجه إلى البناء المادى، وما نلح عليه هو ضرورة توافر يقظة قومية لمشروع قومى عملاق، يفوق كل ما فكرنا، ونفكر فيه...مشروع قومى لبناء الإنسان..قوام النهضة، ووسيلتها، ومبتغاها..

وأمر مثل هذا بحاجة إلى " نفير عام " تجتمع له الفرق والمنظمات والهيئات والأفراد لرسم مشروع قومى لهذا البناء المفتقد..وهو الضامن الأكثر نجاعة فى توفير الأمن الحقيقى..الأمن المجتمعى، والدفع إلى النهوض الحضارى..

لقد برع أجدادنا من الفراعنة فى أن ينقشوا، بأدوات فعالة ، على الجدران والتماثيل ، فعاش ما نقشوه الاف السنين، ونحن ننقش على الماء، فلا نرى نتيجة ما نقشناه، فنعيد النقش..

بناء البشر لابد أن يتقدم بناء الحجر..

ألا هل بلغت؟ أللهم فاشهد!!.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق