رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

دكتور عوض وليله العيد

د. عادل وديع فلسطين
دكتور عوض أو عم عوض، كما يطلق عليه جيرانه ومحبوه ... رجل في منتصف العقد السابع من العمر، شخصيته كاريزمية طويل القامة ممتلئ وكرشه يسبقه، بشرته بيضاء،

 غزير الشعر ناعمه متموج في اللون بين الأبيض والرمادي وتتدلى بعض من خصلاته على جبهته. أما شاربه فهو كثيف بلون شعر رأسه، كما لو كان قد استعار خصلة من هذا الشعر لتصبح خطاً أو علامة تحت أنفه كأن هذا الأخير شيء يستحق التمييز ودائماً ما تتدلى بعض الشعيرات على شفته العليا.

والدكتور عوض إنسان بسيط حتى في ملبسه، فهو لا يرتدي سوى القميص الأبيض والبنطال، وقد يضيف فوق قمصيه ستره من الصوف إذا ما اشتد البرد. دائماً ما يتدلى بنطاله قليلاً تحت بطنه ويحكمه حزام رفيع، لم يره أحد طوال حياته برابطة عنق أو بزة كاملة فهو متحرر وهو ما يتفق وشخصيته المرحة الضاحكة دائما حتى إن الضحكات دائماً ما ترافق حديثه، كما لو كانت موسيقى تصويرية أو كونشرتو للكلام والضحك ولا يخلو حديثه من التهكم والسخرية على كل شيء حتى على نفسه وإذا سألته سؤالاً يجيبك عنه ضاحكاً .. عالمه بسيط مثل روحه ... وفى أثناء حرب أكتوبر عام 1973 سأله صديقه: إيه رأيك في الحرب؟ رد عليه: اللي عايز حاجة ياخدها! وضحك الأصحاب على هذا الرد لأنهم لم يدخلوا أعماق الرجل وفلسفته، فهذه الجملة هي خلاصة التجربة الحياتية بما فيها من عسكرة وسياسة وكذلك العلاقات العامة بين الناس. فمن يرد شيئاً فعليه أن يسعى لنيله وبلوغ هدفه .. إذا أردت أن تتحرر فَنِلْ هذه الحرية بساعدك ... فإذا أردت أن تسترد أرضك فخذها سلماً أو قسراً.

يعمل الدكتور في عيادته الخاصة ... في حي شعبي ... دائماً ما تراه سائراً بخطى سريعة حاملاً في يده حقيبة سوداء يحكم إغلاقها بأحد أصابعه .. ويدلف إلى باب العمارة التي تشغل عيادته الدور الأرضي بها ... العيادة تموج بالمرضى .. فقيمة الكشف بسيطة ... أرضية الصالة وغرفة الانتظار من البلاط الرخيص تفترشها سجادتان من (الأكلمة) لا لون لهما .. والكراسي من الخشب والخيزران، ودهان الحوائط متآكل خاصة ذلك الحائط المجاور لدورة المياه. أما غرفة الكشف تكاد فتكون بغير باب .. مفتوحة دائماً ... والنافذة الخشبية موربة ترى من خلالها المارة على الرصيف ... قد تجد مريضاً يدخل ويتداول معه الحديث فى أثناء جلوسه وأمامه مريض آخر يفحصه بمرآته المعلقة فوق رأسه دون استئذان عم جمعه التمرجي العجوز ضعيف النظر الذي يرتدي نظارة طبية سميكة (قعر كبايه .. كما يطلق عليها).

يكتب دكتور عوض وصفته الطبية بخط كبير .. وهي لا تتعدى دواء واحداً أو اثنين.. لكن الخط الهمجي يستحوذ على مساحة (الروشتة) بالكامل.

ويعمل عوض بعيادته من التاسعة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر. ثم يركب سيارته متجهاً إلى منزله .. والسيارة قديمة الطراز .. نادراً ما تراها نظيفة، وبنظرة واحدة إلى داخلها ستجد بقايا ما يتناوله فى أثناء القيادة من قشر اللب والفول السوداني حتى الفول الحراتي.

كان صاحبنا يقطن في الدور الرابع من البناية .. وقد تسمع حديثاً يصل أذنيك من الدور الأرضي .. بين طفل وأمه ... «الأكل جاهز يا ماما؟» وترد الأم «يا ابني لسة شوية .. الساعة يادوبك تلاتة .. ده عمك عوض طالع السلم».

هذا هو الدكتور عوض الذي انتظمت حياته بهذا النمط الدقيق .. والذي لم يستطع أن يغيره أو يطوره .. كما لم تستطع ظروف الحياة وزحام الطرق وتكدس الشوارع والمتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية أن تكون عائقاً له.

وقد تسمع الأذن نغماً يتسرب إلى الوجدان ... عندها ينتهي عمل الأذن .. لكن هذا النغم تستدعيه قوة غير إرادية ... فيتردد داخلنا بغير إذن .. يملأ الرأس وتحتويه الجمجمة كما لو كانت صندوقاً موسيقياً بغير أوتار ... يلح النغم عليك لكي تعيش من خلاله ... تحاول أن تبعده بغير فائدة .. وتعيش أحداثاً وتنام وتصحو لتجده يعود مرة أخرى عوداً حميداً ليحتل مكانه داخل الوجدان ... تسمعه بمفردك ولا تردده شفتاك، ولا غرابة في ذلك فبتهوفن الذي كتب أروع الأعمال الموسيقية كان أصماً.

وهذا حال دكتور عوض، الذي ما تكاد قدماه ترتقيان أول سلمة في رحلته لشقته في الدور الرابع، حتى يبدأ في الغناء بصوت عال مردداً كلمات غنوة بعينها .. قديمة لأم كلثوم هي أغنية «يا ليلة العيد».

ومرات ومرات كان يسأله الناس عن سبب تعلقه بهذه الغنوة ... فيطلق الحديث معتزاً وفخوراً بحضوره حفلاً لأم كلثوم غنت فيه هذه الأغنية في عام 1944، وفى أثناء الغناء ومع بداية المقطع الأول كانت المفاجأة ... فقد شرف الحفل ودخل جلالة الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان .. وبدأت أم كلثوم غناءها، وبذكائها وسرعة بديهتها غيرت كلمات الأغنية موجهة إياها إلى الملك فاروق بدلاً من مخاطبة ليلة العيد ذاتها.

وبناءً على ذلك اقترن اسم عوض .. بعم عوض بتاع ليلة العيد وأثناء صعوده السلم يردد عوض المقطع الأول: يا ليلة العيد آنستينا وجددت الأمل فينا .. ياليلة العيد ... ثم يسترسل ليقول: هلالَكْ (بدلاً من هلالِك) هلّ لعنينا فرحناله وغنينا .. وقلنا السعد ح يجينا مع (قدومَك) في ليلة العيد. وإلى هنا يكون قد وصل إلى الطابق الثاني ليكمل: (جَمَعْتْ) القرب على الخلان ودار الكاس على الندمان، وغنى الطير على الأغصان (يغني لَكْ) في ليلة العيد. ويظل يرتقي السلم مكملاً: يا نيلنا ميتك سكر وزرعك ع الغيطان نور .. يعيش فاروق ويتهنى (ونحيي لُه) ليالي العيد.

إلى هنا يكون عوض قد وصل إلى الطابق المنشود، ليخرج من جيب بنطاله الغويط مفتاح الشقة وهو من النوع الضخم ... والذي يعرف طريقه جيداً إلى فتحة قفل الباب ليفتح ليدخل عوض إلى بهو الشقة صائحاً «فوزية أنا جيت» .. وترد فوزية «حمدالله على سلامتك يا خويا» ويتوجه إلى غرفة نومه ليبدل ثيابه ويرتدي جلباباً واسعاً نظيفاً ثم يدخل الحمام ليخرج مباشرة إلى المائدة ليتناول طعام الغداء.. وفور أن ينتهي من طعامه تكون قدماه قد سبقتاه إلى سريره لينام ساعتين.

هذا ما اعتاده الدكتور عوض. ومع الأيام بدأت الغنوة تنكمش رويداً رويداً .. وأصبح يردد الكلمات متقطعة .. ويصل إلى باب شقته منتهياً بالمقطع الثاني فقط. ثم بدأ يلهث وبدأت المقاطع تتمزق ... واختل التواصل بين الغنوة وعدد درجات السلم. ويتمكن المرض من الرجل، وبالكاد يستطيع الوصول إلى غايته .. لكنه يظل يردد ... ياليلة العيد ... آنستينا ... وجددت الأمل .... فينا.

وفي ذلك اليوم تمالك نفسه حتى وصل إلى مسكنه، أخرج المفتاح من جيبه ... تردد المفتاح ... تاه ... لم يعرف طريقه إلى ثقب الباب. واضطر المسكين أن يضع أصبعه على جرس الشقة وإلتصق الإصبع ... آملاً أن ينقذه ... فهرعت إليه زوجته وفتحت الباب لتتلقفه قبل أن يسقط، وتحتضنه إلى سريره ... حيث نام بغير غداء.

وتمر عدة ساعات .. وتعود الغنوة مرة أخرى ... ليست من داخله هذه المرة ... ليست من أعماق اللاوعي .. لكن عن طريق أذنيه يسمعها جيداً من خلال المذياع ... يضحك بابتسامة هادئة جميلة لها معان لا يفهم سرها سواه .. والليلة عيد ... وهل هلاله ويتغنى بليلته الجميع.

يأخذ عوض نفساً عميقاً كأنه يريد أن يحتوي هواء العالم كله بداخله ... ويدخل هذا الهواء إلى رئتي الرجل لكن جسده لا يستطيع الاحتفاظ به .. فيخرج سريعاً في زفرة .. وكانت هذه هي الزيارة الأخيرة للهواء داخل صدره .. إنه حق هذا الإنسان أن يأخذ ما يشتهيه في اللحظة الأخيرة .. فاشتهى هذا الهواء .. ومع مقطع «غنى الطير على الأغصان» ... تداعب طيور المساء أذنيه كما لو كانت تودعه.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق