رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

‎إيران وبريطانيا...تاريخ من التقلبات العنيفة

‎لندن - منال لطفى:
على حوائط غرف الاستقبال فى السفارة البريطانية فى طهران "جرافيتي" باللون الأحمر فوق صورة للملكة اليزابيث الثانية مكتوب باللغة الفارسية "مرك بر انكليسى" أو "الموت لانجلترا".

لم تتعجل السلطات الإيرانية إزالة الجرافيتى من حوائط السفارة البريطانية خلال زيارة وزير الخارجية البريطانى فيليب هاموند إلى طهران قبل أيام لإعادة أفتتاح السفارة البريطانية. تركته شاهدا على علاقات كانت دائما صعبة. وعندما سئل المسؤولون الإيرانيون لماذا لم يتم إزالة الجرافيتي؟ كانت الإجابة: "البريطانيون سيزولوه... لأن الدهان سيأتى من لندن". فإيران لن تدفع مليما لإصلاح الأضرار التى لحقت بالسفارة البريطانية.

‎الجرافيتي، الذى كتبه مجموعة من المحتجين الإيرانيين بعدما اقتحموا السفارة البريطانية عام 2011 احتجاجا على تعزيز العقوبات الدولية ضد بلدهم بدعم لندن، تم الحفاظ عليه لهاموند والدبلوماسيين المرافقين له جليا وواضحا، كرسالة ضمنية تلخص علاقات معقدة متشابكة تميزت منذ عقود بالشك والتأمر والاستغلال، جنبا إلى جنب مع مصالح مشتركة وتفاهمات ضمنية.

‎لم تحتل بريطانيا إيران بشكل مباشر، إلا أن النفوذ السياسى البريطانى الوجود العسكرى لفترات محدودة كان سمة العلاقات فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر والقرن العشرين. فانجلترا ومن أجل إقامة مناطق عازلة تحمى أغنى مستعمراتها وهى الهند من النفوذ الروسي، أرسلت قوات إلى جنوب إيران عام 1856 لفصل أقليم هرات عن إيران. ثم أرسلت قوات مرة أخرى مع روسيا إلى جنوب وشمال إيران فى 25 اغسطس عام 1941 لبناء خطوط امداد تمر عبر الأراضى الإيرانية لخدمة الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية.

‎ومع انتهاء الحرب العالمية وبحلول 1946 غادرت القوات البريطانية إيران بضغط من امريكا، إلا أن لندن ظلت تتمتع بنفوذ سياسى وتتحكم فى الثروة النفطية الإيرانية. كانت التحركات البريطانية دائما من وراء الستار وبشكل غير مباشر. وتدريجيا باتت انجلترا فى الوعى الإيرانى الحامى الحقيقى لعرش الشاه ومصدرا للتآمر السرى ضد القوى الوطنية فى إيران. ‎هذا الغضب الإيرانى والضغينة التاريخية، جسدته صحيفة "كيهان" الرسمية المقربة من المرشد الأعلى آية الله على خامنئي، التى نشرت على صفحة كاملة "29 جريمة ارتكبتها بريطانيا فى حق الشعب الإيراني" يوم وصول هاموند إلى طهران, ‎بدأت الجرائم، كما عددتها "كيهان" عام 1856 بحرب انجلترا ضد الأسرة القاجارية الحاكمة لاقتطاع أقليم هرات من السيادة الإيرانية، وذلك بتشجيع لندن أحد زعماء هرات على إعلان استقلاله وطلب الحماية البريطانية، وهو ما أجبر إيران على التخلى عن الأقليم لضمان إنسحاب بريطانيا فى جنوب البلاد. واستمرت "الجرائم" طوال القرن العشرين وأهم محطاتها كما عددتها "كيهان" غزو بريطانيا وروسيا إيران 1941 لفتح خطوط امداد لقوات التحالف خلال الحرب العالمية الثانية. ثم تآمر الاستخبارات الامريكية والبريطانية للإطاحة برئيس الوزراء المنتخب محمد مصدق بسبب تأميمه للنفط الإيرانى وإعادة الشاه 1953. ثم مساعدة الشاه منذ منتصف الخمسينيات وحتى سقوطه على الاستبداد السياسى وبناء قوات الشرطة السرية "سافاك" سيئة السمعة. واستغلال الثروات الإيرانية لصالح مراكز القوى الدولية وحرمان الإيرانيين من حقهم فى الثروة النفطية لبلدهم عبر سيطرة بريطانيا على غالبية أرباح النفط الإيراني. ودعم صدام حسين خلال الحرب العراقية الإيرانية. وحماية الكاتب البريطانى سلمان رشدى بعد كتابه المسيئ "آيات شيطانية" 1989. ثم ضلوع بريطانيا فى دعم تظاهرات 2009 فى إيران احتجاجا على إعادة انتخاب الرئيس الإيرانى المحافظ محمود أحمدى نجاد، بحسب "كيهان", لم تعارض "كيهان" إعادة فتح السفارة البريطانية أو عودة السفراء، فالرسالة هى أن العلاقات مع لندن "كانت وستظل شرا لابد منه". فبعد رفض رضا شاه دخول إيران الحرب العالمية الثانية إلى جانب قوات الحلفاء، أجبرت لندن الشاه على التنحى عن الحكم لمصلحة أبنه محمد رضا شاه.

‎ومع أن محمد رضا شاه ولضمان ثبيته على العرش، ذهب بسرعة يوم 16 سبتمبر 1941 للبرلمان، وأقسم اليمين بوصفه الشاه الشرعى لإيران، إلا أنه ظل دوما يشعر فى قراره نفسه بأنه "وضع" فى هذا المكان وأن البريطانيين لديهم فضل فى ذلك.

‎وفى الخمسينيات ومع صعود المد القومى والأحزاب اليسارية فى إيران، تعرضت سلطة الشاه ومصالح بريطانيا للتهديد مع وضع الحركة الوطنية الإيرانية تأميم النفط على رأس أولوياتها. فالشركة الانجلو -إيرانية للنفط والتى كانت مملوكة فى غالبيتها للحكومة البريطانية كانت تحتكر حق التنقيب وبيع النفط الإيرانى فى الأسواق العالمية. وبحلول الخمسينات كان نحو 10% من النفط العالمى يأتى من حقول النفط التابعة للشركة الانجلو - ايرانية فى عبادان. وكان صافى الأرباح التى تذهب إلى لندن من بيع النفط، أضعاف ما يذهب إلى طهران، عين الشاه مضطرا محمد مصدق رئيسا للوزراء، وكان أول قرار اتخذه مصدق هو تأميم النفط الإيراني، وهو ما ردت عليه لندن بفرض حظر دولى على النفط الإيراني, ‎كان أفضل سيناريو يأمل فيه مصدق مع اندلاع الأزمة مع لندن وباقى العواصم الغربية، هو أن يميل الشاه لمصلحة القوى الوطنية ويدعم تأميم النفط، إلا أن الشاه وجد أن القوى الدولية أقرب إليه من مصدق الذى كان يريد تقييد سلطات محمد رضا شاه فى اطار الدستور.

‎وبتخطيط ودعم من البريطانيين، قرر الرئيس الامريكى ايزنهاور الإطاحة بمصدق بعملية مشتركة للاستخبارات الامريكية والبريطانية. وكانت العملية تتضمن أن يقوم الشاه بإقالة مصدق، ثم يخرج أنصار الشاه، للشوارع للتظاهر ضد مصدق وتحييد أنصاره. لكن أنصار مصدق خرجوا بمئات الالاف إلى الشوارع مما أضطر انصار الشاه للاختباء، واضطر الشاه إلى المغادرة إلى روما وترك إدارة الصراع مع مصدق للاستخبارات البريطانية والامريكية التى مولت خروج عشرات الالاف من أنصار الشاه للشوارع ومهدت لخروج وحدات من الجيش الايرانى إلى الشارع للتصدى للحركة الوطنية. وخلال أيام تم اعتقل مصدق وحوكم بتهمة الخيانة وادين ووضع قيد الاقامة الجبرية حتى وفاته. وعاد الشاه من روما وهو مقتنع بأن الشعب يحبه فعلا. وقال فى أول كلمة له بعد العودة:"حتى اليوم كنت ملكا بالوراثة.. اليوم أنا ملك منتخب. أنتم انتخبتوني".

‎لكن بالنسبة للكثير من الإيرانيين، كان انقلاب 1953 ضد مصدق نهاية شرعية الشاه وحكم أسرته وبداية الحركات الاحتجاجية التى قادت إلى ثورة 1979،‎لم تدخر بريطانيا ومعها اميركا وسعا للتأكيد للشاه فى كل مناسبة أن الأموال التى دفعوها هى من اعادته للسلطة وليس شعبيته. ومع تذكير لندن وواشنطن للشاه بشكل متواصل انه مدين لهما بمنصبه، بدأ الشاه نفسه يشعر بالاستياء والامتعاض والرفض للنفوذ البريطاني. وفى السبعينيات وعندما نجح الشاه مع منظمة أوبك فى رفع أسعار البترول برغم مساعى بريطانيا المحمومة لإجهاض الخطوة، عبر الشاه صراحة عن مشاعر الرفض العميق للندن بقوله فى حوار مع محطة بريطانية آنذاك , ‎واستمر توتر العلاقة بين الشاه وبريطانيا حتى الثورة الإيرانية 1979 التى اطاحته. ومات الشاه وهو يعتقد ان الاستخبارات البريطانية دبرت إسقاطه بدعم الخمينى سرا بسبب موقفه من رفع أسعار النفط. ‎لم تتحسن العلاقات البريطانية الإيرانية مع قدوم آية الله الخميني، بل عانت تقلبات عنيفة.

وقطعت العلاقات الدبلوماسية بينهما ثلاث مرات منذ 1979. الأولى بعد الثورة مباشرة، ثم مجددا بعد فتوى الخمينى اهدار دم سلمان رشدى 1989، ثم 2011 بعد اقتحام محتجين إيرانيين للسفارة البريطانية فى طهران. رفضت إيران الاعتذار عن الهجوم على السفارة البريطانية، كما رفض هاموند الاعتذار عن دور بلاده فى إطاحة مصدق. وقال فى طهران موضحا لماذا لن يعتذر:"التاريخ تاريخ... لدى بريطانيا وإيران تاريخ طويل معقد. والكثير من الأشياء التى حدثت فى الماضى لا يمكن الحكم عليها بمعايير وقيم وقوانين اليوم. علينا أن نرسم خطا بين الماضى والحاضر ونركز على المستقبل".

‎ليس لدى إيران يوم للاستقلال الوطني، لأنها نظريا لم تحتل ابدا، لكن الإيرانيون بحكم تعرجات تاريخهم يعرفون أن الاحتلال المادى على الأرض لم يكن شرطا فى الحالة الإيرانية كى تسيطر القوة الغربية على بلدهم وتتحكم فيه، ومن هنا يأتى الشك الإيرانى العميق فى الخارج وكل ما يأتى منه. والشك فى بريطانيا وامريكا بالذات، وهو شك لن يزول لمجرد أن المرشد الأعلى لإيران آية الله على خامنئى أعطى تفويضا كاملا للإصلاحيين بقيادة حسن روحانى لاختبار نيات الأعداء التاريخيين لإيران.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق