رجل فى وجه الإستعمار
عالم يموج بالإضطرابات والمواجهات، الاستعمار القديم يسقط ويتهاوى، وموجات التحرر تكتسح آسيا وإفريقيا، والحرب الباردة على أشدها بين المعسكرين الشرقى والغربى. كان هذا هو حال العالم فى عام 1961. ووسط هذا العالم المضطرب بزغ نجم داج همرشولد أمين عام الأمم المتحدة (1953ـ 1961) بمواقفه الحازمة التى منحت الأمم المتحدة قدرا لاشك فيه من الهيبة، ومنحت الاستقلال والحرية للكثير من دول العالم. وفى ليلة 17 ــ 18 سبتمبر 1961 وأثناء تنقل همرشولد فى أجواء أفريقيا سقطت الطائرة التى كان يستقلها فى روديسيا الشمالية (زامبيا الحالية).
وكان همرشولد يوم الحادث متجها مع 15 من مرافقيه إلى زائير، المعروفة الأن بالكونغو، للتوسط بين الحكومة والثوار من أجل تحقيق هدنة وتوحيد البلاد وهو ما كان ضد رغبة القوى الإستعمارية فى تلك الفترة. وقد منح همرشولد بعد وفاته جائزة نوبل للسلام.
ولكن لم يمر وقت طويل حتى ظهرت نظريات المؤامرة، وبدأت الشكوك حول سبب سقوط الطائرة. فقد نقلت وسائل الإعلام الأمريكية كلمات الرئيس الأمريكي السابق، هارى ترومان، بعد يومين من الحادث : "داج همرشولد كان على وشك إتمام أمر ما عندما قُتل. لاحظوا أنى قلت (قتل)".!!
لجنة فى مواجهة الغموض
وقد تم تعيين لجنة الخبراء فى شهر مارس 2015. وتشكلت اللجنة من رئيس الفريق ورئيس المحكمة العليا محمد شاندى عثمان من تنزانيا، وعضوية السيدة كيريان ماكولى من أستراليا وهنريك لارسن من الدنمارك. وتضمن عمل تلك اللجنة زيارة زامبيا (موقع الحادث) ولقاء شهود جدد، وجمع معلومات جديدة إضافية من الدول ومصادر اخرى بما فى ذلك تلك الموجودة بالمحفوظات الوطنية وخاصة فى بلجيكا والسويد وبريطانيا. وفحص وتقييم المعلومات الجديدة، بما فيها تلك المتعلقة بفرضيات مختلفة من الأسباب التى أدت إلى وقوع الحادث. ومع ذلك، فإن المعلومات المتعلقة بالإختطاف والتخريب كانت "ضعيفة"، ووفقا لما قاله المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة: فإن "الفريق بحث وقيّم القيمة الإثباتية لمعلومات جديدة تتعلق بفرضيات مختلفة حول أسباب تحطم الطائرة. ووجد معلومات جديدة تتعلق بـ "إجهاد الطاقم". والأهم من ذلك، وجد الفريق معلومات جديدة، اعتُبِرت ذات قيمة إثبات معتدلة، وكانت كافية لمواصلة السعى وراء إحتمال وقوع هجوم جوى أو تدخل آخر بوصفه فرضية السبب المحتمل لسقوط الطائرة".
وفى شهر يونيو 2015 أعلن الأمين العام بان كى مون أن فريق الخبراء المستقل، قد قدم تقريره الذى يتضمن النتائج والاستنتاجات والتوصيات. وخلال الأسابيع التالية قام الأمين العام بدراسة التقرير بعناية وعلى وجه السرعة، معلنا إعتزامه إتاحة تقرير الفريق وكذلك تقييماته الخاصة والخيارات بشأن كيفية المضي قدما إلى الدول الأعضاء والجمهور.
وبنهاية الأسبوع الأول من شهر يوليو 2015، وبعد فحصه للتقرير المقدم إليه، طالب بان كى مون الدول الأعضاء برفع "السرية" و"إتاحة المعلومات" المتعلقة بالظروف المحيطة بتحطم طائرة همرشولد. وبدا أن هناك سرا دفينا ومعلومات مخفية فى حاجة إلى الظهور. وفى تقرير اللجنة المستقلة المعنية بالتحقيق بوفاة داج همرشولد، قال الأمين العام إن هناك حاجة إلى مزيد من التحقيق لتحديد سبب الوفاة.
معلومات جديدة
وقد وضع الفريق المستقل التقرير الرسمى فى يد الأمين العام بما فيه من نتائج واستنتاجات وتوصيات تتعلق بملابسات مصرع داج همرشولد. وكان من أبرزها ما يلى :
أولا : أكد الفريق أن الكشف عن الحقيقة الكاملة بشأن الظروف والملابسات التى أفضت إلى الوفاة المأساوية لداج همرشولد ومرافقيه لايزال يقتضى أن تبذل الأمم المتحدة المزيد من الجهود الجادة..، لسد ماتبقى من ثغرات فى المعلومات، بما فى ذلك ما يتعلق بالمواد والمعلومات السرية التى بحوزة الدول الأعضاء ووكالاتها.
ثانيا: ورد بالفقرة 220 ص81 من التقرير أن هناك إفادات بمعلومات جديدة..بأن أجزاء من ملفات وسجلات الحكومة البريطانية المتعلقة بالحادث إحتفظت بها الحكومة لأنها مصنفة كوثائق سرية لأسباب أمنية!..ولوحظ أن الحكومة البريطانية ليست فى وضع يتيح لها رفع السرية عن تلك الوثائق لدواع أمنية.
ثالثا: ورد فى صفحة 83 من التقرير أن هناك معلومات جديدة، حيث قدم 9 شهود من بين 12 شاهدا جديدا معلومات تسهم فى إثبات واحدة أو أكثر من المعلومات المرتبطة بالحادث مثل وجود أكثر من طائرة واحدة فى السماء لحظة إقتراب الطائرة المنكوبة. ووجود طائرة أو طائرات أخرى ذات محرك نفاث فى الجو أثناء تحليق الطائرة المنكوبة نحو موقع الحادث. ووجود شهود على واقعة إشتعال الطائرة فى الجو وسقوطها وهى مشتعلة قبل إرتطامها بالأرض. ووجود معلومات تفيد بإطلاق النار على الطائرة المنكوبة التى كان يستقلها همرشولد أو الإشتباك معها فعليا بواسطة طائرة أخرى قبل سقوطها مباشرة.
رابعا: فى ص83 تمت الإشارة إلى الشهادة التى أدلى بها كل من تشارلز ساوثول وبول أبرام ـ وهما من المخابرات الأمريكية وكانا يعملان فى مركز إستطلاع فى كل من قبرص واليونان ـ وأفادا بسماعهما حديثا لاسلكيا تم إعتراضه ليلة الحادث وهو الحديث الذى تمت الإشارة فيه إلى هجوم على الطائرة التى كان يستقلها همرشولد مما أدى لتحطمها. ولكن السلطات الأمريكية أنكرت العثور على تلك المعلومات فى سجلاتها.
خامسا: ورد فى ص85 من التقرير ما يفيد وجود وثائق فى دولة جنوب إفريقيا وتفيد بأن معهد البحوث البحرية فى جنوب أفريقيا أصدر أمرا بتنفيذ عملية تحمل الإسم الكودى"العملية سلست" بهدف "إزاحة" همرشولد بزرع قنبلة زنة 6 رطل على متن الطائرة التى يستقلها أثناء توقف الطائرة لمدة ساعة أو أكثر دون حراسة فى ليوبولدفيل قبل إقلاعها مجددا. ولكن تم تصنيف تلك المعلومات بأنها "ذات قيمة ضعيفة" لعدم إثبات صحتها والشك فيها.
سادسا : فى ص 88 تم تصنيف معلومات جديدة على أنها ذات قيمة إثبات متوسطة. وقالت المعلومات الجديدة إن الإتصالات بواسطة جهاز التشفير الذى استخدمه همرشولد خلال زيارته للكونغو قبل مصرعه قد إعترضتها وكالات المخابرات بناء على معلومات أولية تم تقديمها إلى لجنة همرشولد فى عام 2013 من قبل صهر مؤسس الشركة السويسرية المنتجة لجهاز التشفير.
وهكذا سقط همرشولد بطل الأمم المتحدة والسلام والمدافع عن الإستقلال ومحارب الإستعمار القديم فى العالم.ولكن أعماله وإنجازاته لم تسقط بل كانت دافعا وعاملا ضاغطا على ضمير الإنسانية للبحث عن "القاتل" الذى "أزاحه" من الدنيا سعيا لإنعاش الإستعمار القديم والقضاء على حيادية الأمم المتحدة إلى الأبد.