كان محفوظ يعطيني دروسا في التاريخ وعلم النفس والفلسفة والاجتماع، من خلال حكايات يجسدها بقلمه، فلا تكون حبرا على ورق، بل لحما ودما ومشاعر، فكأنه يمد يده في أعماق أنفسنا أو من صميم مجتمعاتنا، فيخرجها تنطق بحقيقتنا.
ولا مجال هنا لحصر شخصيات محفوظ، لكن كثيرا منها تمر أمامي فأرى صورها وأسمع أصواتها وأشم روائحها، وإن كانت شخصيات نجيب محفوظ في الغالب الأعم، قد ارتبطت بالقاهرة بأمكنتها وأزمنتها المختلفة، إلا أنها عبرت عن الحياة المصرية وكأن الأستاذ نجيب يؤكد على إصرارنا على تسمية القاهرة باسم «مصر» حتى تلك الأحياء التى من ضواحي القاهرة وجيرانها الأقربين.
ويتجاوز محفوظ بالشخصية التى هي نتاج مباشر لبيئتها في مصر أم الدنيا، فيغوص بها وفيها، ليخرج ملامح تعبر عن الإنسان في كل زمان ومكان، أحيانا كمخلوق شهواني متهافت يجرى وراء الأوهام بإصرار، فيلقى مصيرا قاسيا على يد عالم لا يعرف الرحمة مثل الشخصية الأشهر «محجوب عبدالدايم» في «القاهرة الجديدة أو القاهرة 30» وسرحان البحيري في «ميرامار» وسيد سيد الرحيمي في «الطريق».
في الوقت نفسه يقدم شخصيات تطارد حقيقتها أو تطاردها حقيقتها، مثل عمر الحمزاوي في «الشحاذ» وعثمان بيومي في «حضرة المحترم» ثم يأخذني أستاذي إلى عوالم علوية، تلك التى قد تبدو بعيدة، لكنها بأقرب ما يكون لنا، فيشير لي بقلمه إلى الزاوية القابعة وراء سور يمكن أن يتسلقه طفل من بين الحرافيش أو يلجأ إليها لص في طريق هروبه كسعيد مهران في «اللص والكلاب»!.
وأين كل ذلك من فيوض النور المنبثق من «العائش في الحقيقة» أو «أصداء السيرة الذاتية» أو «رحلة بن فطومة» و..و.. و..؟!.
فلا معنى لنظريات ودراسات ورسالات، ما لم تترجم إلى مواقف وشخصيات وأحداث، بدونها لا معنى لأي شيء وإلا سألقى حتما مصير جعفر الراوي في «قلب الليل»!.
والخلاصة التى أقدمها كمجهود شخصي في كراسة الواجب، لأثبت بها أنني اقتربت من فهم الدروس، ستكون بسطر واحد جاء في نهاية الثلاثية، عندما استعد ياسين لاستقبال حفيده بشراء لوازم ولادته، بينما يشترى كمال رابطة عنق سوداء استعدادا لموت أمه!.