رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

خوف من فشل يونانى جديد
الديون تثقل كاهل أوروبا

لندن - منال لطفى
الأقتصاد العالمي ليس في وضع جيد بأي مقياس. وكما أن هناك آمالا في نمو يتجاوز 3%، هناك أيضا مخاوف من انتكاسة اقتصادية عالمية جديدة في أوروبا وامريكا.

 فصندوق النقد الدولي قلص قبل أيام تنبؤاته للنمو الاقتصادي العالمي لتأخذ في الحسبان التباطؤ الذي شهدته أمريكا وامتد إلى كندا والمكسيك، وأستمرار التباطؤ في أوروبا، وتقلبات أسواق المال في الصين. بينما تتجه الأنظار لتمرير برلمانات أوروبا، خاصة البرلمان الألماني، لحزمة ثالثة من القروض إلى اليونان التي ما زالت أوضاعها الاقتصادية تشكل تهديدا للمشروع الأوروبي كله.

‎مؤشرات الاقتصاد الأوروبي اليوم ما زالت أسوأ مقارنة بما كانت عليه قبل الأزمة المالية العالمية 2008. وهذا بحد ذاته دليلا على عمق الأزمة. وبمقارنة وتيرة ونسب تعافي أوروبا بعد أزمة الكساد العظيم (1929 -1933) بمؤشرات الاقتصاد الأوروبي بعد أزمة 2008، سنجد أن أداء الاقتصاد الأوروبي اليوم أسوأ من الثلاثينيات. فبعد سنوات قليلة من أزمة الكساد العظيم، وفي عام 1936 كانت أوروبا تنمو بالفعل بمعدلات تتراوح بين 2 و3% مقارنة بعام 1929. لكن حاليا وبعد نحو ثماني سنوات من أزمة 2008، ما زالت أقتصاديات أوروبا أقل بنحو 5 إلى 6% مقارنة بما كانت عليه قبل اندلاع الأزمة.

‎السبب وراء ذلك أن العالم يشهد أزمة ديون طاحنة وليس فقط أزمة كساد أو تباطؤ اقتصادي. وهى أزمة ديون فريدة أيضا، ففي العقود الماضية كانت أزمات الديون تضرب الدول النامية كما حدث في الارجنتين وماليزيا والبرازيل واندونسيا وتايلاند وغيرهم. لكنها المرة الاولى التي تضرب فيها أزمة ديون دول غنية بين ضفتي الأطلنطي.

‎واذا كان الكساد الاقتصادي يمكن التعافي منه بحزم تنشيط الاقتصاد عبر ضخ المزيد من الأموال، فإن الديون أمرا أكثر صعوبة بكثير. فسداد الديون وفوائدها يضغط على الأقتصاد بشكل هائل ويدفع الحكومات لتقليص الأنفاق الحكومي من أجل سد العجز في الميزانية وتقليص الديون الخارجية، وهو ما يقود بدوره إلى تباطؤ النمو الاقتصادي أكثر، ومع تباطؤ النمو الأقتصادي تتقلص وتنكمش قدرات الدول على سداد ديونها. ولهذا ليس من المدهش أن يكون الدين الخارجي على اليونان وايطاليا وأسبانيا والبرتغال وامريكا في تزايد مستمر وليس العكس. فاليونان مثلا ومن أجل سداد الديون التي عليها والتي تقدر بنحو 350 مليار يورو، طلبت من الأتحاد الأوروبي قروضا جديدة بقيمة 86 مليار يورو، وديون الحكومة الامريكية كانت 4.5 تريليون دولار عام 2007، لكنها تبلغ اليوم 12 تريليون دولار وفقا لأرقام الخزانة الامريكية. وإجمالا أرتفع حجم الديون العالمية بنحو 40% منذ أزمة 2008 لتصل إلى نحو 100 تريليون دولار.

‎وما عزز أزمة الديون العالمية أن الحكومات والمؤسسات والهيئات المقرضة قدمت غالبا نسب فائدة مغرية للاقتراض حتى أصبح النظام الاقتصادي العالمي مقسما إلى قسمين، قسم يقترض (مثل أمريكا، بريطانيا، ايرلندا، أسبانيا، البرتغال، اليونان، أيطاليا ووسط وشرق أوروبا اجمالا). والثاني يقرض (مثل المانيا، الصين، واليابان). هذا كان وضع الاقتصاد العالمي خلال العقدين الماضيين حتى وصل الأمر إلى نهايته مع أزمة 2008.

‎منطقة اليورو أكثر منطقة عانت من أزمة 2008 وأقل المناطق تعافيا حتى الان. فبعد نحو ثماني سنوات على الأزمة، ما زالت الدول الأوروبية تعاني آثارها، بل ما زالت في خضم الأزمة وتتعامل مع تبعاتها وأثارها.

‎استمرار معاناة أوروبا جاء من حقيقة أن مشروع العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) كان حاملا بذور الأزمة بحكم تكوينه. فمع أن مشروع الوحدة النقدية الاوروبية كان متداولا منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلا أنه ومع التطبيق الفعلي عام 2001 ظهرت تعقيدات التباينات الكبيرة في هياكل الأقتصاديات الأوروبية. فقد استمرت الاختلافات على مستوى الاقتصاد الكلي بين الدول الاوروبية في منطقة اليورو، لكن مع سياسة نقدية واحدة، ونسبة فائدة موحدة، وعملة موحدة، وبنك مركزي أوروبي موحد.

‎فقبل بدء العمل باليورو، كان على اليونان المختلفة في بنيتها وتركيبها الأقتصادي عن المانيا تماما، أن تدفع نسبة فائدة على ديونها ضعف ما تدفعه المانيا وذلك بسبب قوة الأقتصاد الألماني والثقة فيه مقارنة بالأقتصاد اليوناني الذي عاني دوما اختلالات هيكلية. لكن مع بدء العمل باليورو، أصبحت اليونان تقترض تقريبا بنفس نسبة الفائدة التي تقترض بها المانيا.

‎بعبارة أخرى، اليوور كعملة موحدة، جعل اقتصاديات اليونان وايطاليا والبرتغال واسبانيا وايرلندا يتم التعامل معها على قدم المساواة مع أقتصاديات المانيا وفرنسا وبريطانيا، وبثقة مماثلة ليست مستمدة من أداء تلك الاقتصاديات، ولكن من انتمائهم جميعا للعملة الاوروبية الموحدة.

‎كما أن إنشاء بنك مركزي أوروبي موحد يضع السياسات النقدية لكل الدول الأعضاء في اليورو كان له دور في الأزمة. فعلى سبيل المثال، مع بدء العمل باليورو، كان الأقتصاد الالماني في حالة ركود، بينما الأقتصاد الأسباني في حالة نمو. وكان على البنك المركزي الأوروبي وضع سياسة نقدية موحدة لألمانيا وأسبانيا برغم الأختلافات بينهما. فإذا كانت نسبة الفائدة المثالية لتحفيز الأقتصاد الألماني هى 1%، فإن نسبة الفائدة المثالية لأسبانيا 5%. فماذا يصنع البنك المركزي الأوروبي؟ يضع نسبة فائدة وسط بين الرقمين وهى 3%، ما يعني أن نسبة الفائدة لألمانيا أعلى من المطلوب، ونسبة الفائدة لأسبانيا أقل من المطلوب. هذا الحل الأصطناعي الوسط كان أحد الأسباب الأساسية وراء الأزمة المالية التي تمر بها أوروبا. فمعدلات النمو المستقرة في اسبانيا، أدت إلى زيادة الأسعار بمعدل 3 أو 4% مقابل جمود الأسعار في المانيا.

‎وعندما تكون الأسعار جامدة ونسبة الفائدة 3% فإن الإقراض للخارج يكون فكرة جيدة وهو ما فعلته المانيا. لكن عندما ترتفع الأسعار بنحو 4%، فيما نسبة الفائدة 3%، فإن الإقتراض من الخارج يكون فكرة جيدة لأنه أشبه بمن يقترض دون فوائد وهو ما فعلته أسبانيا. وتماشيا مع هذا المنطق، بدأت القروض الألمانية والهولندية والبلجيكية والفرنسية تنهال على أسبانيا واليونان وايرلندا وايطاليا والبرتغال.

‎ومع طفرة القروض الخارجية لتلك الدول، تزايد النمو الاقاصادي فيها. ومع تزايد النمو الاقتصادي، بدأت الأسعار في الصعود، وبالذات أسعار العقارات، فهي البند الأكبر الذي تستدين من أجله الحكومات والبنوك والأفراد.

‎ ومع طفرة أسعار العقارات بنحو 15 و 20 % سنويا، وجدت البنوك الأسبانية والبرتغالية والإيطالية واليونانية حافزا للاقتراض أكثر من البنوك الألمانية والفرنسية والهولندية والبلجيكية للاستفادة من تلك الطفرة وإعطاء قروض غير آمنة لملايين المواطنين في أوروبا. فقاعة العقارات الأوروبية وصلت إلى مستويات قياسية قبل الازمة مباشرة، فمتوسط سعر بيت في دبلن أو مدريد أو برشلونة أو لشبونة كان أعلى من متوسط سعر بيت في نيويورك. وهكذا تواصلت الأمور حتى أنفجرت الفقاعة 2008.

‎ولأنه ليس في أوروبا حكومة مركزية، لم تحدث أي محاولات لتقييد الاقتراض الخارجي وضبط سوق العقارات المنفلت، بل في كثير من الحالات مارست البنوك الأوروبية ضغوطا على الحكومات الوطنية لتخفيف القيود على الأقتراض من الخارج.

‎السبب الأخر لتفاقم الأزمة، أن الأتحاد الأوروبي وبرغم تحذيره من أنه لن يقدم حزم انقاذ للاقتصاديات التي قد تواجه أزمات بسبب سوء إدارتها الأقتصادية، إلا أن احدا لم يصدق هذا. فالعملة الأوروبية الموحدة تعني ضمنا أن أي أزمة تمر بها دولة عضو في الاتحاد تؤثر سلبيا على باقي الدول. ومن هنا تمادت دول مثل ايطاليا واليونان واسبانيا والبرتغال وايرلندا في الاقتراض مع ثقة كاملة في انه لو انهار الاقتصاد ستتدخل الدول الاوروبية الاخرى لانقاذهم من الافلاس.

‎أوروبا تأمل في تعاف قريب لكنها تتحسب أيضا لأزمة أقتصادية جديدة طالما ظلت الأوضاع المالية في اليونان على ما هى عليه. فقد قطع نواب البرلمان الألماني عطلتهم لمناقشة ثالث خطة إنقاذ مالي لليونان قبل الموافقة عليها، وسط مؤشرات على أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تواجه معارضة من نواب في البرلمان لتمرير حزمة القروض الثالثة لليونان. ومن المحتمل أن يصوت ما يصل إلى ربع عدد النواب المحافظين المنتمين لحزب ميركل ضد حزمة الإنقاذ التي تبلغ قيمتها 86 مليار يورو، ليرسلوا بذلك تحذيرا واضحا بعدم العودة إلى البرلمان للمطالبة بمزيد من المساعدات.

‎أزمة الديون في أوروبا تحولت من أزمة أقتصادية مكلفة ارجعت الأقتصاد الأوروبي عقدين للوراء من النمو الأقتصادي، إلى أزمة سياسية أيضا. ففي اليونان وغيرها من الدول الأوروبية التي تعاني الأزمة، ترتفع أصوات متهمة الدول الدائنة بالأستفادة أكثر من غيرها من هذه الأزمة على حساب سيادة تلك الدول وأستقرارها السياسي وسلامها الاجتماعي. فقبل أيام وافقت الحكومة اليونانية على عقد بقيمة 1.23 مليار يورو مع شركة "فرابورت سلينتل" الألمانية لخصخصة 14 مطارا محليا. وكانت الحكومة اليونانية وافقت على إجراءات خصخصة في القطاع العام في إطار اتفاق مع الجهات الدائنة، للحصول على خطة الإنقاذ الثالثة. كما طلبت الجهات الدائنة إنشاء صندوق خصخصة بقيمة 50 مليار يورو ويتعلق أساسا بالموانئ والمطارات والسكك الحديد، على أن تديره أثينا بإشراف المؤسسات الدولية.

‎أزمات الديون دائما مسئولية مشتركة بين الدول والمؤسسات المقرضة والدول والبنوك المقترضة. فالكثير من هذه الديون كانت ديونا سيئة تتميز بالمخاطرة، وعمليا من الاستحالة سدادها. فمع الأزمة المالية في اليونان مثلا، بات إقراض اليونان مكلفا جدا، وانخفضت نسبة النمو، وحجم المدخرات، وقيمة الممتلكات، وتزايدت البطالة، وتدهورت مستويات المعيشة، وتقلصت الأجور، لكن ظلت قيمة الديون اليونانية بفوائدها في أرتفاع متواصل. والطريقة الوحيدة أمام اليونان لسداد الديون هى خفض الانفاق الحكومي، وتقليص الاستهلاك المحلي، لكن هذا بحد ذاته يحد من امكانيات النمو والتعافي الاقتصادي وبالتالي من القدره على الوفاء بالديون. أنها أشبه بالحلقة المفرغة التي لا فكاك منها إلا بشطب لجانب كبير من الديون المستحقة على اليونان وأسبانيا وايطاليا والبرتغال وهو ما ترفضه الكثير من دول الأتحاد الأوروبي على رأسها المانيا رغم تحذيرات صندوق النقد الدولي من أن هذه الدول لن تكون قادرة أبدا على سداد ديونها.

‎الأزمة المالية الحالية في أوروبا، أكبر أزمة في تاريخ الأتحاد الأوروبي وتستدعي للسؤال مستقبل اليورو ومستقبل المشروع الأوروبي كله. والأوروبيون أنفسهم أول من بدأ السؤال، فأوروبا في حالة حرب داخلية.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
 
الاسم
 
عنوان التعليق
 
التعليق