سحبتْ كفها من كفه واستدارتْ بوجهها . قالت وعيناها فى عينيه : إسمعنى يا عفيفى كويس . إنت عارف وبنتى حبيبتى عارفه ، إنْ حالتى ميئوس منها، قال «العلاج فى كندا متقدم . ولابد من المحاولة » قالت « وكمان بصراحه أنا ما أقدرش أسيبك لوحدك » أمسك كفها المعروقة وضمها إلى شفتيه وقال « مين اللى قال إنك ح تغيبى عنى وإنت جزء منى ؟» قالت « آه ياعفيفى . أرجوك بلاش تضاعف من ألمى . إنت نسيت كلامك اللى قلت فيه إنْ خيالاتنا الشعرية هزمها الواقع ؟» قال «خيالاتنا الشعرية كانت لتحسين صورة الواقع . ولكن أحاسيسنا لم تنهزم يا توأم روحى» تنهّدتْ بعمق وقالت وهى تغالب آلامها « أرجوك ياعفيفى . أحلــّـفك بالستين سنه عمر علاقتنا ، ما تتعبش قلبى . أرجوك إذا كنت غاليه عليك . وافق إنْ الأيام اللى باقيه من عمرى أقضيها وأنا جنبك»
هاجمته عاصفة من الشجن والأسى ، تغلــّب عليها بأسلوبه الساخر ، الذى عرفته عنه رغم كل معاناته . قال « ح تسافرى يعنى ح تسافرى . أو أكتب ضدك بلاغ للنيابه أقول فيه : شريكة حياتى ح تقتلنى بعنادها . وح أكتب لبنتك أقول لها إنزلى على أول طياره ، علاشان تشوفى لك صرفه مع الست والدتك ، بعد ما غلب حمارى» توجّه إلى العصافير فى أقفاصها وتحدّث معها . وإلى الأسماك فى أحواضها واشتكى لها . وإلى النباتات ، وطلب منها التدخل لفض النزاع بينه وبين شريكة حياته . ابتسمتْ رغمًا عنها ، وهى تراه وتسمعه يُمارس هوايته الأثيرة منذ أنْ ارتبطتْ به : لا يكف أبدًا عن مخاطبة كل الكائنات الحية.
اختفتْ الشمس فاختفى الجسدان الضامران فى الظلام . يُـتابعان قفزات القطة دلال والقط مشمش وهما يتبادلان الجلوس على فخذيها مرة ، وعلى فخذيه مرة أخرى . أرهقهما الكلام فاستسلما لصخب الصمت . إرادتان متصارعتان . تعلم أنه يرفض الهزيمة . ويعلم أنّ هزيمتها قهرٌ لها . وتوقن هى ويوقن هو أنّ بقاءهما معًا هو ما يوحّـد بينهما . وأنّ فراقهما لا يختلف عن نزع الرضيع من ثـدى أمــه . وبينما هى تتشبث بالبقاء ، كانت قناعته أنّ إرادة الحياة يجب أنْ تنتصر على رغباتنا .
فى الليلة الأخيرة ، قبل السفر ، تملــّكهما شعور الوداع . كتمتْ مشاعرها وخنق مخاوفه. اصطنعا بهجة توضع فى ألبوم حياتهما . تكلــّما مع العصافير . لعبا مع دلال ومشمش حتى الإرهـــاق . تابعا رقصات الأسماك . تحسّسا وقبّلا كل وردة وكل ريحانة . ارتسمتْ ابتسامتان عفويتان على الوجهيْن المتغضنيْن . استشعرا سعادة النباتات وهى ترقص على شرفهما . أدارا كونشرتو البيانو الثانى لرحمانينوف . حوّطتْ خصره وحوّط خصرها . ظلاّ يرقصان حتى باغتتهما أشعة الشمس الأولى ، فانتفضا مذعوريْن .
فى المطار حاولتْ هى كبح مشاعر الفراق ولم تستطع . بكتْ . جفــّـف دموعها بشفتيه ، كأنما يمارس أعذب معزوفة أنسته الناس والوجود . بعد أنْ رطــّبتْ شفتاه الجمر المشتعل داخلها قالـــــــــت (( ملعونه الفلوس . يعنى لو كانت الفلوس أكتر موش كنتْ سافرتْ معاى ؟! )) استجمع قدرته على السخرية وقال (( ياتوأم روحى . إزاى نسيتى اللى كتبته فى كتابى ( سكة سفر ) أنا يانور عينى – من سوء حظى – من الزواحف موش من الطيور . وأنا زى صديقى الأديب نجيب محفوظ أكره السفر . وكتبتْ إنْ أنا من الناحية النفسية أشبه بالأشجار . عمرك شفتى شجره ماشيه ؟ ولولا ضرورة السعى للرزق لقبعتُ فى المنزل لا أبرحه . ولربما تناولتُ الطعام فى السرير ، كى لا أتجشم مشقة السفر إلى حجرة المائدة ، اللهم إلاّ إذا فضّلتُ أنْ أنام فى المطبخ «ابتسمتْ فتابع » وكتبتْ أيضًا عن النفس البشرية وكم هى غامضة . وإذا فوجئتُ ذات يوم بأننى أريد السفر ، زالتْ عنى تلك النزعة الشجرية ، وحلــّتْ محلها نزعة عصفورية مناقضة تقول لى طير يا واد «إتسعتْ ابتسامتها وقالت «يعنى توعدنى إنك تغير من طبيعتك وتكون عصفورا وتطير إلى كندا ؟ » ابتسم وقـــــــــال «علاشان خاطرك أكون فراشه موش عصفور وبس «سألته» وعد يا عفيفى ؟ قال «وعد يا توأم روحى . وإزاى نسيتى رغم إنى من جنس الشجر ، فىّ كل تناقضات البشر . وإنى زرتْ لندن . ولما وقفت قدام المسلة المصرية اللى هناك شفتْ العجب . شفت الجهل الإنجليزى الأصلى . سمعتهم بيشاوروا على المسلة ويقولوا عليها : إبرة كليوباترا. كنت ح أموت من الغيظ بعد ما كنت ح أموت من الدحك . تانى يوم مشيت على شاطىء التايمز لغاية ما وصلت لمكان المسلة المصرية . وقفت قدامها أتلو صلاة فرعونية صامتة » .
تأخّر إقلاع الطائرة . حكى لها نكتة المريض الذى تحدى المرض وقال له (( إنت جبان )) فقال المرض (( أنا موش جبان )) قال المريض (( لو موش جبان بصحيح إطلع لى . وح تشوف مين ح يغلب التانى )) أسعده أنْ أشرق وجهها بابتسامة مُـضيئة ، فانتقل إلى النكت السياسية . ازداد وجهها إشراقــًا . سألته (( فاكر ياعفيفى قصيدة صلاح جاهين اللى بيتكلم فيها عن المرض ؟ لو فاكرها سمّعها لى )) شرد قليلا وقال (( فى القصيده دى ياستى ، لو كانت ذاكرتى ما بتخرفش صلاح قــــــــــال (( إسفخص على لون الإصفرار / والفقر والخوف والمرض / ما شفته إلاّ ودمى فار / وحلمت بيه زال عنى وانقرض ))
أسند رأسها على صدره واستكانا لحوار الصمت . وعندما حلــّـقتْ الطائرة فى السماء ومعها توأم روحه ، حلــّـقتْ روح كل منهما فى فضاء الغيب .
فى اليوم الأول بعد سفرها ، شغل نفسه بما كانا يقومان به معًا . نظــّـف أقفاص العصافير ووضع لها الطعام . ثم اطمأنّ على الأسماك وسقى الزرع وتحدّث معه وأحسّ بتجاوبه وهو يتراقص بفرح . وكلــّما مشى وأينما مشى تتبعه دلال ويتبعه مشمش ، يتخبّط فيهما بسرور ويضع لهما طعامهما .
أمسك الصحيفة . مشتْ عيناه على العناوين . أيقن أنه ينسحب إلى دوامة من الحزن بلا قرار . أحضر ألبوم صور العائلة . تأمل صورة زوجته . صورا تحكى رحلة ستين عامًا . لكل صورة موقع ومناسبة وتاريخ . انتقل إلى صور ابنه الذى مات شابًا فى الحرب . وصور ابنته التى طارت إلى كندا بأبحاثها عن تصنيع اليورانيوم من التربة المصرية . دمعتْ عيناه وهو يتذكــّر كلماتها قبل الهجـــــــرة (( ح أموت وتموت أبحاثى لو قعدت فى مصر )) يضم الألبوم إلى صدره ، ثم يعود ليفتحه من جديد.
فى بداية الأسبوع الثالث لسفر زوجته ، اكتشف أنّ العصافير لا تأكل ولا تصوصو ولا تتحرك إلاّ اذا شاغبها . وأنّ الأسماك لا ترقص والنباتات تذبل . سأل كائناته الحية (( أنا قصّرتْ معاكم فــــــى حاجه ؟ )) سمع وردة تخاطبه (( عاوزين نعرف إنت ليه حزنان ؟ ))
فى بداية الشهر الثالث ، أطلق العصافير . وأهدى أحواض السمك والزرع للجيران . أقلقه مشكلة دلال ومشمش ، بعد أنْ رفض كل الجيران تبنيهما . يداعبهما بفتور ويتجاوبان معه بانكسار . يتلقى يوميًا مكالمة من ابنته تـُـطمئنه على أمها . يحن للطبيعة العصفورية ويكره طبيعته الشجرية . سأل دلال ومشمش : ماذا يفعل كى يطير ؟ نظرا إليه بإهتمام وهو يُـتابع حديثه (( قيودى تضاعف آلامى . أتوق إلى الطيران . لا يهم إلى أين . روحى تختنق فى جسدها . أطير إلى كندا أو إلى العالم الذى لا يعود منه أحد )) اندهش عندما اكتشف أنهما مازالا ينظران إليه بإمعان . تساءل فى همس وخشى أنْ يفهما هواجسه (( إزاى كنت ح أرتكب جريمة التخلص من دلال ومشمش ؟ ))
تذكــّر شاعره الأثير صلاح جاهين . ترنــّم ببعض رباعياته الفلسفية . راوغته الذاكرة وهو يستدعى بعضها . قال إنها شيخوخة الجسد والروح . تلا على نفسه الرباعية التى أحبها كثيرًا وراوغته ألفاظها كثيرًا (( خرج الإنسان من العدم قلت ياه / رجع تانى للعدم قلت ياه / تراب بيحيا والحى بيصيـــــــــر تراب / هوّ الأصل للموت ولاّ للحياه ؟ )) تسللتْ إلى روحه دفقة من نشوة أسيانة . وضع دلال ومشمش على حجره وراح فى غفوة طويلة .
.............................................................................................
هذه كلمات المرحوم محمد عفيفى بالنص . فى حين أنّ وصف المسلة بالإبرة ليس عن جهل
وإنما لأنّ الإنجليز رأوا أنّ المسلة تشبه الإبرة ، خاصة الجزء العلوى المُدبب .
هذه الفقرات كتبها الأديب الراحل محمد عفيفى فى كتابه ( سكة سفر ) وكتابه (تائه فى لندن) أما عن الجانب الإنسانى فى علاقته بالسيدة زوجته وأحاسيس الوحدة فى أيامه الأخيرة بعد سفرها للعلاج فى أمريكا ، فإنّ الفضل يرجع إلى الناقد الكبير الأستاذ فاروق عبد القادر فى كتابه ( أوراق من الرماد والجمر ) كتاب الهلال – ديسمبر 1988 .