رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

نور
رؤية لن تغيب

أحمد السماحى
المبدعون حقا لاينبغى أن يتم رثاؤهم، فهم فى العادة لايغادرون حياتنا إلا بالجسد، بينما الروح تظل تتحلق بنا ومن حولنا، تمنحنا القدرة وجبروت تحدى اللحظات الفاصلة، ولعلها فى الأصل تسكن مجمل حياتنا، بما خلف هؤلاء من أعمال نابعة من الواقع بحلوه ومره، وعلى قدر شقائها أونزقها، كما يبدو من تجربة راحلنا الكبير، الفنان القدير «نور الشريف» ،

 فإنها بفضل صفاء موهبته ونقاء سريرته ستبقى أثرا خالدا فى نفوسنا بما خلفته من قيم الحرية ومعانى الوفاء والوئام والحب، وستظل فينا أبد الدهرتنتقل من جيل إلى آخر مع سريان «نهر النيل» الذى يحمل سرالخلود المصرى، وعلى جناح النبل والإبداع المستمد من روح الفراعين العظام، يبقى بفيض «نوره» واحدا من القناديل الباعثة على النهضة والأمل.

 صحيح أن الجسد الواهن الذى اعتل بمرض عضال لصاحب الإحساس الرفيع "نور الشريف" ربما خبا الآن تحت التراب، راقدا فى سلام أبدى مابين حالة الصمت والجمود، لكن تبقى الروح العظيمة والمتجددة تحظى بذات الحضورالطاغى حتى وهو يطل برأسه من تحت التراب فى استحياء على الشاشة الفضية، إنها نفس الروح التى توجته 40 عاما على قمة هرم التمثيل المصرى الحديث، كما هو لوحظ لنا بما قدمه من أعمال تعد علامات بارزة فى المسرح والسينما والتلفزيون، بل إنها هى الزاد نفسه الذى لايفنى، بفضل تألقه غير المعهود على مقام الدهشة الإبداعية، ما جعله ليس نجما سطع قليلا ثم هوى برحيله المر عن عالمنا، لكنه ظل شمسا مشرقة، عبر مشوار فنى طويل بدأ منذ عام 1967 ، واستمر حتى 2013 ، عابرا بثقة من بوابة لأخرى، وفى ثبات لا تخلو من اللحظات النورانية الباعثة على الأمل فى قلب العتمة التى تكاد بين الحين والآخر تعصف برسالة الفن الجميل، فتراه متألقا بجبروته الإبداعى، وبسلاسة وأريحية نادرة يملك مفاتيح اللعبة المجنونة فى الأداء التمثيلى بالجسد، بصوت خفيض يبعث على الشجن، أو مع صوت أجش غليظ يجسدا قمة المعانى الدرامية فى عمر شخصيات هى فى الواقع نماذج إنسانية حية من لحم ودم.

ومن محطة لأخرى تبدو تجلياته المرعبة فى التماهى مع الناس والحياة، والذوبان شيئا فشيئا فى حيوات هؤلاء البشر، مهمشين كانوا، أو نبلاء فى مجتمع الوحوش، يقوى نور الشريف بخبرته وحنكته وقدرته الفذة فى فن التمثيل على أن يغزل بخيوط الدراما أروع قطعة من نسيج فنى محلى بالألوان والزخارف المبهرة على خشبة المسرح تارة ، أو تارات كثيرة على شاشتى السينما والتلفزيون، ولعل أجمل مافى تلك القطع الفنية أنها ستظل داخل ذواتنا وبين جوانحنا ببريقها الآخاذ، لأنها ببساطة تشكل جزءا من ماضينا وحاضرنا، وربما مستقبلنا أيضا بما تملكه من قيم فنية ومعان إنسانية راقية.

فقدان جسد "نور الشريف الذى وورى الثرى الآن، لا يعنى افتقاد مساحة إنسانية سهلة كانت قد بسطت نفوذها على التراب المصرى بطول البلاد وعرضها ، بحيث لا يمكن لشخص آخر غيره - حتى ولو قدر له أن يسير على ذات الدرب - أن يملأها، فقد كان فى حد ذاته دائرة معارف حية وحقيقية فى كل فنون الحياة، وليس التمثيل أو الإخراج وحدهما، بل كانت صلته مربوطة بحبل سرى بمجمل التجربة المصرية كلها على المستوى الساسى برؤى عميقة وصائبة، أو على المستوى الاجتماعى فى قدرة غير عادية على التأثير والتأثر مع الآخرين وبهم ، حتى يمكننا القول إنه أصبح حارسا أمينا على ديوان الحياة المصرية، اتساقا مع ما تم تدوينه داخل أفلامه السينمائية التى انصهرت فيها كل نضالات وكفاح المصريين من أبناء الطبقة الوسطى، وأولئك الكادحين فى الأزقة والشوارع والدكاكين جنبا إلى جنب مع شاهبندر التجار العاشقين، ورمز "الفتونة" وسط أجواء حرافيش نجيب محفوظ.

لقد كان الراحل العظيم على إدراك كامل، بل لديه يقين ثابت بأن الموهبة مهما كان حجمها ستتلاشى، إذا لم يتزود صاحبها بالعلم والدراية، لهذا كان بيته ومكتبه عامرا بالكتب والصحف والمجلات، حتى لتشعر إنك طوال الوقت وأنت فى حضرته فى صحبة حكيم وفيلسوف ومفكر مثقف حقيقى - دون زيف - وفى ذات الوقت يبدو سمحا جدا، ورغم شغفه وعشقه الأبدى للفن بكل أنواعه وأشكاله، تراه متابعا لأحدث الأعمال العالمية، سينمائية أو مسرحية أو تليفزيونية، وكأنه دوما على أهبة الاستعداد لأعمال تواكب متغيرات الدنيا، وتقلبات حركة الحياة والكون من حوله.

هى رحلة إذا تجمع بين اليتم والألم والأمل والتألق والبريق، توجتها رحلة عمل شاقة واجتهاد، جعلته منه زاهدا فى محراب الفن الرفيع، ولم يغرد يوما خارج سرب الإبداع الحقيقى، فتعالوا معى نخوض فى بعض تفاصيل وكواليس اللحظات الحلوة والمرة فى حياة راحلنا العظيم الفنان القدير "نور الشريف" الذى أمتعنا بفنه الراقى لأربعة عقود من العطاء والتحدى حتى أسلم الروح لبارئها منذ أيام قلائل والألم يعتصره على حال مصر التى يراها منارة الفن والعلم التى علمت الدنيا كلها فن الحياة والخلود .. فإلى جنة الخلد أنت مع الصديقين والشهداء والأبرار، بقدر عطائك الإبداعى الرفيع.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق