وطلبت منى أن أذهب معها للبحث عن عمل. وانتهى بنا المطاف فى محل للملابس الجاهزة عملت بأحد فروعه فى الهرم، وعملت هى فى فرعه بأحد الفنادق الشهيرة، وحصلت كل منا على أجر شهرى قدره مائتان وخمسون جنيها، وهو مبلغ كبير فى ذلك الوقت، وساهمت بجزء كبير منه فى مصروف البيت، واستمررت فى هذا العمل، والتحقت بمعهد محاسبة لمدة سنتين بعد أن أهلنى مجموعى فى الصف الثالث الثانوى التجارى له، واستطعت التوفيق بين عملى ودراستي، وتركت البنات اللاتى يعملن معى المحل واحدة تلو الأخري، وبقيت فتاة لها خبرة طويلة فى هذا المجال وتكبرنى بعدة سنوات، وقد وصفها صاحب المحل بأنها «بنت سوق» حيث كانت تحقق لهم مبيعات كبيرة، وبالأسعار التى تفرضها حسب الزبون، وكان من بين الزبائن ممثلون لا ينظرون إلى السعر، والغريب أن أصحاب العمل اعتبروها ماهرة.
وذات يوم أخبرتنى أنها ستأخذ «سالوبيت بيبي» لابن اختها وسوف تقيده فى فاتورة بيع من فواتير زبون يدفع الحساب دون أن يدقق فيما يدفعه، وخشيت أن أخبر صاحب المحل بما ستفعله، خوفا منها، وهكذا سرقت قطعة الملابس، ومرت الأيام وجاءت إلى المحل بنطلونات جينز بناتى كبيرة من نفس مقاسي، وأعجبنى أحدها فدخلت إلى «البروفة» ووجدته مناسبا جدا لي، ولم يكن معى ثمنه نظرا لأن أمى تأخذ مرتبى وتعطينى مصروفى الشخصى فقط، ولاحظتنى زميلتى السارقة فشجعتنى بل وساعدتنى على أن آخذه، وبعدها أحسست فى عينيها الفرح كأنما تقول لي: «لقد أصبحت سارقة مثلي»، وكلما لبست هذا البنطلون أشعر بالندم الشديد، وتأنيب الضمير والضيق، فأتراجع عن ارتدائه، وبمرور الوقت أخفيته عن ناظرى حتى لا يذكرنى بالفعلة الشنعاء التى ارتكبتها، وكررت زميلتى سرقاتها وأنا مجبرة على السكوت، وظل هذا الأمر مكتوما داخلي، ثم انتقلت هى إلى فرع آخر للمحل، وحدثت لها مشكلة هناك وطردها صاحب المحل، ولما جاءنا الخبر انتابنى الخوف من جديد، وطار النوم من عيني، وكان العقاب الثانى من الله لى بعد انعدام راحة البال والضمير، هو اننى أصبحت أخشى عالم «الجن والعفاريت» الذى سمعت عنه لأول مرة، عندما انتابت ابن مالك المنزل الذى نسكن فيه حالة من الصراخ والصرع وكأنه يستغيث من أحد يطارده، وسمعنا صوت تكسير، ثم نزل على السلالم مسرعا، وهو يقول بصوت عال «ارحمونى ابعدوا عني» وظل على هذه الحال حتى بزوغ النهار، ولم يجرؤ أحد على فتح الباب لاستطلاع ما يحدث له، حتى إخوته، ولم يفلح «الشيوخ» الذين عرضته أمه عليهم فى علاجه، المهم أن هذا الموضوع أخذ حيزا كبيرا من تفكيري، وصرت أتلفت حولى وأشعر كأن شخصا يتبعني، وجاهدت نفسى على البعد عن التفكير فى مثل هذه الأمور.
وواصلت عملى بإخلاص، وذات يوم جاء زبون كبير اشترى الكثير من الملابس الموجودة بالأقسام ماعدا قسم الأطفال الذى أبيع فيه، ورفع البائعون الأسعار عليه، ثم ضبطوا الفواتير بعد خروجه من المحل، ووضعوا الفارق فى جيوبهم، ثم تبين أن ما حدث مجرد اختبار من صاحب المحل وعرف أنهم جميعا لصوص، وقام بتحويل الموضوع إلى النيابة، وكنت الوحيدة الناجية من هذا الفخ، وجاء فريق عمل جديد، وبعد فترة تغيرت معاملة مدير المحل وإبنته معي، وقال لأحد البائعين أمامى «خللى بالك منها دى حرامية» وهنا عرفت ما خشيت منه، وكان بامكانه طردى من العمل لكنه فضّل مراقبتي، ولما علم زملائى الجدد الحكاية لجأ عدد منهم إلى السرقة متأكدا أن أى تهمة من هذا النوع سوف تلتصق بي، وظللت أتعذب فى هذا الجحيم ثلاث سنوات، وبمرور الوقت تراكمت الملابس الموجودة من موديلات قديمة، ولم يعد قسم الأطفال يحقق مبيعات تذكر، فاستغنى عنى صاحب المحل وفرحت وقتها بأننى خرجت من هذا السجن، وطبعا حزن أبى وأمى لذلك كثيرا، فلقد انقطع مورد الدخل الذى كان يكملان به متطلبات المعيشة للأسرة الكبيرة.
ولم تمض ثلاثة أيام فقط حتى وجدت عملا فى مركز تجارى بالقرب من البيت، وفوجئت بإبنة صاحب المحل القديم تزور المحل الجديد الذى أعمل به فى المركز، وكأنها جاءت خصيصا لتقول له «إنها سارقة»، وتأكدت من ذلك عبر «نظرات الشك» التى نظر بها صاحب المحل إليّ، لكنه تأكد من أننى لم أرتكب أى أخطاء، أما الباعة من حولى وربما فى المحلات المجاورة فيبدو أنهم عرفوا بالواقعة القديمة فلم أنج من نظراتهم واستفزازاتهم لدرجة أننى حررت محضرا ضد شاب تفوه ضدى بألفاظ جارحة، وبعد عامين لم أجد بدا من أن أترك العمل، وكنت وقتها قد حصلت على دبلوم معهد المحاسبة فوق المتوسط، وظللت أبحث عن عمل آخر واهتديت إلى مدرسة للثانوية الفندقية عملت بها مدرّسة آلة كاتبة، ولم استمر فيها طويلا بسبب مضايقات التلاميذ، واحساسى الداخلى بأنهم يستهزئون بي، حيث قدمت استقالتى بعد انتهاء العام الدراسي، وكان أبى وقتها قد خرج إلى المعاش، ودخل بمكافأة نهاية الخدمة فى مشروع، وانتقلنا إلى شقة فى الشيخ زايد، وأحسست أننى أولد من جديد، وهناك بحثت عن عمل مناسب، والتحقت بمكتب عقارات ومر عام كامل، وأنا سعيدة به، إلى أن وقعت مشاكل مماثلة لكل ما سبق من نظرات ومضايقات، ورويت لأمى بعض ما حدث معي، فردت علىّ بأننى موهومة، وكنت وقتها قد كرهت كل شيء فى الحياة، فظللت حبيسة المنزل لمدة عام لم أغادره، وكانت أختى الكبرى قد تزوجت من أحد أقاربنا فى محافظة بوسط الدلتا، وتزوجت أختى التى تلينى فى كلية الآداب، وعملت مدرّسة بمعهد أزهري، وحمستنى هى وأمى على مواصلة العمل، وبالفعل التحقت بمدرسة حضانة وأحببت التدريس فيها، وبمرور الوقت صرت معلمة لتلاميذ المرحلة الابتدائية وأصبحت معروفة على مستوى حضانات الحي، وعرفت الاستقامة فى كل خطواتي، والمواظبة على الصلاة فى أوقاتها، ثم توقفت عن الذهاب إلى الحضانة واكتفيت بالدروس الخصوصية فى منزلنا فقط.
وخلال هذه الفترة ساءت حالتى النفسية، وزادت الكوابيس، وعرضتنى أمى على شيخ عمل لى جلسة لإخراج الجن من جسمى على حد تعبيره ـ لكن شيئا لم يتغير، وجاءنى بعض الشباب لطلب يدى ولم أوفق فى الزواج بأى منهم بالرغم من أننى خطبت لأحدهم، حيث إننى لم أجده الشخص الذى أتمناه زوجا لي، وبعدها انتابتنى حالة من الوسواس القهري، وتشككت فى كل شيء حولي، وزاد ترددى على المشايخ الذين قيل إنهم يفهمون فى مثل حالتي، ولم أتوصل إلى نتيجة، وكثيرا ما جلست إلى نفسي، وتذكرت واقعة البنطلون القديمة، وأقول فى نفسى يجب أن اعترف بالسرقة، وأرد ثمن البنطلون لصاحبه، وبالفعل بحثت عن رقم هاتفه، واعترفت له بكل شيء، وقال الرجل إنه سامحني، ولا يريد ثمن البنطلون فأكدت له أننى سوف أتصدق بضعف ثمنه، وفعلت ذلك، وأحسست بنوع من الرضا، والتحقت بالجامعة المفتوحة، وتعرفت على شاب عن طريق «الفيس بوك» ونشأت بيننا صداقة، قال لى إنه متزوج ولا يشعر بأى عاطفة تجاه زوجته، وطلب منى أن أبعث إليه بصورة لى فيها تفاصيل مظهرى الخارجي، حتى بدون وجهى إن كنت أخشى من اظهار صورتى كاملة، واستجبت له، وكانت الطامة الكبرى أن كل من حولنا عرفوا بذلك، وتأكدت من أن هناك من يتجسس على هاتفي، ومرت الأيام وتخرجت فى الجامعة، لكن صورتى فى المنطقة صارت سيئة، ووصل الأمر إلى حد أن جارة لنا قطعت علاقتها بنا لهذا السبب.
وتتأرجح حالتى بين التحسن لفترات بسيطة، والتدهور لفترات طويلة، ولا أدرى كيف أواجه نظرات الناس وكلامهم الذى يدمرنى نفسيا، لدرجة أننى أشعر أنهم يعرفون عنى ما لم أعرفه عن نفسي، وأصبحت أدخل إلى حجرة نومي، وأنا خائفة من الغد، ولا أشعر أن هناك حلا لمشكلتي، فكل يوم يزيد الكلام ولا أستطيع أن أمنعه، ويصعب علىّ أن أجد صورة أبى وأمى وإخوتى وسط الناس بهذه البشاعة، وأكون أنا السبب فيها. أننى أواجه ابتلاءات ومصائب منذ أن كان عمرى ستة عشر عاما، ولا أدرى كيف أتخلص من العذاب الذى أعانيه؟ وانى أسألك، هل هناك أمل فى أن أجد الشخص المناسب الذى ينتشلنى من عالم الضياع، ويؤمن بصدق كل كلمة قلتها، وما العيب الذى تراه فىّ بعد كل ما ذكرته لك، وكيف السبيل إلى أن أعيش حياتى فى أمان وسلام؟
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
كل نظرات الشك التى تتوهمينها إليك، ليست سوى حالة مرضية ألمت بك، وزادت حدتها عندما سرقت قطعة ملابس من المحل الذى كنت تعملين به، بغرض محاكاة زميلتك التى ارتكبت السرقة مرات عديدة، فلقد أصبت بالوسواس القهرى الذى طاردك فى كل مكان تذهبين إليه حتى فى حجرة نومك، ورحت تتخيلين أن كل الناس يطاردونك، وأن زملاءك بلا استثناء يسرقون المحلات التى يعملون بها، وهو قول فيه مبالغة شديدة، وربما ليس له وجود إلا فى خيالك فقط، كما أنه لا يعقل أن يعلم صاحب عمل بأن إحدى العاملات لديه سارقة، ويتركها تعمل بالسنوات بدعوى اختبارها، إذ ما الذى يجبره على ذلك، وهناك آلاف الأمناء والأمينات الذين من الممكن وضع الثقة فيهم وعدم الشك فى تصرفاتهم.
إن الأمر برمته لا يعدو كونه حالة وسواس قهرى ربما تكون له جذور وراثية، ولا تندرج حالتك تحت مرض السرقة مادمت لم تسرقى سوى مرة واحدة، وقد كفرت عنها بإبلاغ صاحب المحل بالسرقة، حتى ولو بعد حين، فرفض أن يأخذ ثمن قطعة الملابس، فأخرجت ضعف قيمتها صدقة فى أوجه الخير، فالمعروف أن مرض السرقة أو «الكلبيتومانيا» يعنى عدم القدرة على التوقف عن السرقة، بهدف الحصول على الإثارة الفورية واللذة الآنية، وهو حالة نفسية اضطرابية تتمثل فى عدم القدرة على مراقبة النزوات والسيطرة على «الرغبات الجامحة» ومن هنا فإنك لا تندرجين تحت المصابين بهذا الداء، أما عن تجاربك الحياتية سواء فى العمل أو فى علاقاتك العائلية، ومنها العاطفية، فإنها تنحصر فى الوسواس القهري، وهو مرض لا يتم علاجه عن طريق مدّعى العلاج من الجن والعفاريت وانما يتطلب الأمر جلسات نفسية مطولة مع طبيب متخصص الى جانب العلاج الدوائى الذى قد يتطلب الأمر تعاطيه لمدد طويلة، والمهم هو الاستعداد النفسى من جانبك لتقبل هذا العلاج.
وأولى خطوات العلاج هى أن تعلمى أن الاشتغال بالماضي، واجترار الكوارث التى انتهت ضرب من الحماقة، وعدم الإيمان، وأن الحزن على ما فات لا يقدم فى الواقع شيئا، بل هو كالرياح الهوجاء، تبعثر كل شيء، وتحيل الحياة إلى نكد دائم.
وإنى أسألك: ألا يشرح صدرك، ويزيل همك وغمك، ويجلب سعادتك قول الله تعالى «قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم»، وألم تفرحى بقوله سبحانه أيضا «والذين اذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، ومن يغفر الذنوب إلا الله، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون».. ألا يفرحك أن هذه الآيات تؤكد لك أن توبتك عن السرقة، وامتناعك عن علاقات الفيس بوك غير المضمونة وبعدك عن الانخراط فى علاقات غير سوية مع شباب مستهترين، فيها رضا من الله عنك، وأنك من معدن أصيل، لا يعرف الى الانحراف سبيلا؟ فكل ما هنالك أنك ارتكبت خطأ أو خطأين ثم رجعت الى رشدك، فهداك الله الى سواء السبيل؟.
إن هذا ما حدث بالفعل فما الذى يجرك الى الوساوس والأوهام؟.. انك مطالبة بألا تحزنى أو تقلقي، وأن تنتظرى الفرج، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أفضل العبادة، انتظار الفرج»، ويقول المثل العربى «اذا اشتد الحبل انقطع» بمعنى أنه اذا تأزمت الأمور، فإنه سوف يعقبها الفرج، ويقول رب العزة فى الحديث القدسى «أنا عند ظن عبدى بي، فليظن بى ما شاء».
ولا تلتفتى الى ايذاء الآخرين لك، ويكفى أن أذكرك بقول الله عز وجل «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس»، فلا تلقى بالا لأمثال هؤلاء الموتورين، واعملى بما جاء فى كتاب الله «ولا تك فى ضيق مما يمكرون».
أما عن الحب والزواج، فإن نصيبك العادل منه سوف يأتيك فى الوقت الذى يحدده الله لك لكن ينبغى عليك أن تقطعى كل صلة لك، بالمستهترين، فالزواج له طريق واحد واضح وشروط محددة ومعروفة، حتى يكبر وينمو ويستمر إلى النهاية، لأن ما يبنى على باطل فهو باطل.
وعليك بمفتاح السعادة، وهو الإيمان والرضا بما قسمه الله، ألم تقرئى قول الله تعالى «إن الله يدافع عن الذين آمنوا» أى يدفع عنهم شرور الدنيا والآخرة نتيجة إيمانهم؟.. إنه بشرى من الله، ومن ثمرات الإيمان أيضا أنه يسلى العبد عند المصائب، ويهون عليه الشدائد والنوائب، فقال «ومن يؤمن بالله يهد قلبه»، انها وعود من الله لكل من ينتهجون الطريق السليم، وأحسب أنك قادرة على المضى فى الاتجاه الصحيح، بإدراكك الأخطاء التى وقعت فيها، واتخاذك أول خطوة نحو الخلاص من الماضى بكل ما فيه من مآس، فالتمسى العلاج لدى طبيب نفسى متخصص لكى يحدد لك العلاج الدوائي، ولنبدأ المشوار من الآن إلى أن تتعافى بإذن الله، وأرجو أن تتفضلى بزيارتي، وليدبر الله أمرا كان مفعولا.