رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

تائه فى القناةِ

يعقوب الشارونى
قبلَ شُروقِ شَمْسِ صَباحِ أحد أيام شهر مايو 1861 , بدأ أوَّلُ يوم عملِ للصبى مسعود (12 سنة ) فى حفرِ القناة بصحراء السويس ، عند «مرتفعات عتبة الجسر» ، وهى المنطقة التى عُرفت فيما بعد باسم «الإسماعيلية» .

خلعَ مع بقيَّةِ الفلاَّحينَ جلبابَهُ الأزرقَ ، وألقَى به على الأرضِ بجوارِ قُلَّةِ الماءِ التى يشتركُ فى الشُّرْبِ منها مع عددٍ من زُمَلائِهِ .

وسلَّمَتِ شركةُ حفر القناة إلى شيخ البلد مخلوف « كُرْباجًا « من الجِلْدِ المَجْدولِ ، وقالوا له : « لا تَتردَّدْ فى استخدامِهِ لِمَنْ يتباطَأ أو يتهاوَنُ فى العملِ !»

وبدأ مسعود العملَ .. يهبطُ بالقُفَّةِ فارغةً إلى قاعِ القناةِ حَيْثُ يملؤُها بالصخورِ والأحجارِ التى حطَّمَها فريق رجالِ قرية شارونة ، ثم يحملُها فَوْقَ كَتِفِهِ ويصعدُ إلى جِسْرِ القناةِ لِيُفْرِغَها ، ثم يهبطُ مرَّةً أخرى لِيُعاوِدَ نفسَ العملِ .

كانَ ينزلُ مع طابورِ النَّازلينَ ويصعدُ مع طابورِ الصَّاعدينَ ، بإيقاعٍ واحدٍ سريعٍ مُتكرِّرٍ لا يسمحُ لأحدٍ بلحظةٍ من راحةٍ أو تَباطُؤٍ .

لكنَّ « مسعود « كانَ أصغرَ أفرادِ الفَوْجِ سِنًّا وأقلَّهم وَزْنًا وقُوَّةً ، لذلك كانَ أوَّلَ من تَسلَّلَ إليه الإجْهادُ .. لقد كانَ يكفِى بالنسبةِ إليه أن يحملَ قِرْبَةَ ماءٍ يملأ منها قلل بقية العمال.

قاوَمَ مسعود بكلِّ عزيمتِهِ حاجتَهُ إلى الجلوسِ فَوْقَ كومةِ أحجارٍ ليستريحَ لحظاتٍ قبلَ أن يملأ « قُفَّتَهُ « ، لكنْ عندما أحسَّ بأنه أوْشَكَ على السقوطِ فوقَ الأرضِ من الإرهاقِ ، اضطُرَّ أن يجلسَ بجوارِ قُفَّتِهِ وهو يلهثُ , وقد ملأَ العرقُ وَجْهَهُ وانحدرَ على عينَيْهِ فأحرقَهما ، فتوَقَّفَ رجلٌ أو اثنانِ عن العملِ يَتطلَّعانِ إليه فى استطلاعٍ وإشفاقٍ .

وكأنَّ «مخلوف» لم يكُنْ ينتظرُ إلا هذه اللحظةَ، فانْقَضَّ «كُرباجِهِ» على جَسَدِ مسعود , يضربُهُ فى كلِّ موضعٍ وهو يصيحُ به :

« أنتَ تُحرِّضُ العُمَّالَ على العِصْيانِ .. قُمْ .. تَحرَّكْ .. احمِلْ قُفَّتَكَ .. أسْرِعْ .. »

بينما مسعود يصيحُ فى ألمٍ وغضبٍ وهو يحاولُ بغَيْرِ جَدْوَى أن يَحْمِىَ وجهَهُ وكتفَيْهِ من لسعاتِ السَّوْطِ مُستخدِمًا ذراعَيْهِ وكفَّيْهِ .

ومن سوءِ حظِّ مسعود أن « حمدى بك « القاسِىَ , نائبَ أفندينا الخديوِ ,كان يمرُّ فى تلك اللحظةِ بجوارِ مِنْطَقةِ عملِ رِجالِ شارونةَ ، فَتوقَّفَ فوقَ حصانِهِ ، وأرسلَ رجالَهُ القوَّاصَةَ لإحضارِ المُذنِبِ أمامَهُ !

واندفعَ مخلوف يقولُ فى حماسٍ شاكيًا الصَّبىَّ مسعود لحمدى بك ، كأنما لِيُثْبتَ إخلاصَهُ المُتناهِىَ لِشرَكةِ حفرِ القناةِ ولأفندينا :

« هذا النفرُ يُحرِّضُ بقيةَ الرجالِ على الجلوسِ والامتناعِ عن العملِ مُتعلِّلاً بأنه صغيرُ السنِّ !! »

وبغَيْرِ أن يستمعَ « البك » إلى كلمةٍ من مسعود ، ودون أن يُلقِىَ عليه نظرةً فاحصةً ليعرفَ أنه مُجرَّدُ فتًى صغيرٍ ، أصدرَ أمرَهُ بغَيْرِ تردُّدٍ : « ألْقوا بهذا المُتمرِّدِ فى السجنِ ».

وبعدَ الغروبِ وقبلَ أن يتناولَ رجالُ شارونةَ عَشاءَهم ، أمرَهم القوَّاصةُ رجالُ أمنِ حمدى بك بالتجمُّعِ فى حلقةٍ وسطَ المكانِ المُخصَّصِ لمبيتِهم .

لم تكُنْ هناك خِيامٌ ولا أكشاكٌ للمبيتِ ، بل كانوا ينامونَ فى العراءِ على الأرضِ وفوقَهم السماءُ ، بعد أنْ قالَ لهم رجالُ الشركةِ : « كأنَّكم فى حقولِكم .. هل تنامونَ تحتَ خيامٍ وأنتم تحرسونَ زراعاتِكم ليلاً ؟! أما إذا شعرْتُم بالبردِ فسنُعطيكم أخشابًا تُشعِلونَ فيها النارَ للتدفئةِ » . وكانَتْ هذه هى «البيوت» التى جاءَ ذكرُها فى الإعلانِ الذى علَّقوهُ فَوْقَ بابِ مسجدِ شارونـةَ لدعـوةِ الفلاَّحيـنَ للعمـلِ فـى حفرِ القناةِ ، والذى قالوا فيه إن الشركةَ

قد أعدَّتْها لراحتِهم !!

وفى وسطِ حلقةِ الفلاحين ، فرشَ رجالُ « البك « على الأرضِ قطعةً كبيرةً من جِلْدِ البقرِ ، كانَ الموظفون الأجانبُ فى الشركة يُطلِقونَ عليها تَهكُّمًا « بيتَ العدالةِ المصريةِ !! »

ثم ذهبَ اثنانِ من رجالِ الأمنِ القوَّاصةِ الذين يتبعونَ حمدى بك إلى غرفةِ السجنِ ، وجذبا الصبىَّ « مسعود » من ذراعَيْهِ ، وأجلساه مُتربِّعًا فوقَ قطعةِ الجِلْدِ ، وكشفا ملابسَهُ عن ظهرِهِ العارى ! ..

ثم صرخَ حمدى بك فى شَيْخِ البلدِ مخلوف الذى كانَ يقفُ مُستعِدًّا وقد شَمَّرَ عن ساعدِهِ : « اضربْ ! »

وبكُلِّ ما فيه من قُوَّةٍ , نزلَ مخلوف « المُفترِى » بالكُرْباجِ على ظهرِ الصبىِّ !

وتَحمَّلَ الفتى أوَّلَ ضربةٍ .. ثم بدأ يئِنُّ مع الثانيةِ .. وصرخَ مع الثالثةِ ..

وأدارَ رجالُ شارونة الواقفون وجوهَهم بعيدًا لكى لا يكونوا مُشارِكينَ ولو بالمشاهدةِ فى عذابِ زميلِهم الصغيرِ !

وعندما وصلَتِ الضرباتُ إلى العاشرةِ كانَ صوتُ مسعود قد خرسَ تمامًا ، وسقطَ على جانبهِ فوقَ الأرضِ وقد فقدَ الوَعْىَ ...

قالَ حمدى بك بغَيْرِ مُبالاةٍ : « اسْتَدْعوا الطبيبَ ، فإذا كان قد ماتَ ادفنوهُ فى الرمالِ ! »

وجاءَ الدكتورُ منصور ، وهو الطبيبُ المِصْرِىُّ الذى كانَ مسئولاً عن تلك المِنْطَقةِ من مناطقِ حفر قناةِ السُّوَيْسِ ، ورفعَ ذراعَ مسعود وجسَّ نبضَهُ ، ثم نهضَ وقالَ : « إنه لم يمُتْ .. انقلوه إلى المركزِ الطبىِّ » .

وتَعـاوَنَ مندور ، زميل مسعود وصديقه ، مـع اثنَيْـنِ مــن رجـالِ شارونــةَ ، فحملـوا جَســدَ مسعـود الذى تسيلُ منه الدماءُ وتكادُ الحياةُ تتوقَّفَ فيه ، وساروا خَلْفَ الطبيبِ .

وكانَتْ هذه هى أقسى المواجهات بين الصَّبىِّ الصغيرِ وأسبابِ الموتِ فى ساحاتِ الحفرِ ، لكنها كانَتْ مُواجَهةً داميةً!

 

***

 

بعدَ يومَيْنِ فتحَ مسعود عينَيْهِ ، واستطاعَ أن يتحدَّثَ مع الدكتور منصور .

قالَ له الطبيبُ : « لقد أعطاكَ حظُّكَ عمرًا جديدًا ، فقد فَقَدَ كثيرون قبلَكَ الحياةَ تحتَ الكُرباجِ مع أنهم كانوا أقوى منكَ « .

وفى اليَوْمِ التَّالى حكَى مسعود للطبيبِ قِصَّتَهُ مع شَيْخِ البلدِ مخلوف وكيف رفضت أمه أن تزوجه أخته لتخدم بقية زوجاته، وختم حكايته بقَوْلِهِ :

« ولن يكُفَّ حتى يقضِىَ على حياتى , فهى الشَّىْءُ الوحيدُ الذى أملكُهُ فى هذه الدنيا ، لِيُصيبَ أمِّى فى صميمِ قَلْبها عندما تفقدُ ابنَها الثانِىَ فى ساحاتِ الحفرِ ! »

وجذبَتْ هذه العبارةُ حُبَّ استطلاعِ الدكتورِ منصور ، فحكَى له مسعود أخبارَ عدمِ عودةِ أخيه مصطفى ، واختفاءِ أثرِهِ فى ساحاتِ الحفرِ .

ولاحظَ مسعود أن أخبارَ أخيهِ قد أثارَتِ انتباهَ الطبيبِ بشِدَّةٍ ، فقد عادَ الدكتورُ منصور يسألُ « مسعود » : « تقولُ إنكَ من قريةٍ اسمُها شارونةُ واسمُ أخيك مصطفى ، وإنه جاءَ هنا منذ حوالى ثلاثةِ شهورٍ ؟ »

قالَ مسعود : « والدتى لا تزالُ تأمُلُ فى أن يعودَ ، لكنْ بعد ما واجهْتُهُ أنا هنا من أسبابِ الهلاكِ , لا أعتقدُ أنها ستراه ثانيةً أبدًا » .

وفى غموضٍ قالَ الطبيبُ : « مَنْ يدرى ؟! .. رحمةُ اللهِ واسعةٌ ! »

وتَطلَّعَ مسعود إلى ملامحِ وَجْهِ الطبيبِ مُتَسائِلاً عَمَّا يُخفيهِ خَلْفَ تلك العبارةِ ، عندئذٍ قالَ له الطبيبُ : « إذن استمعْ مِنى إلى ما سأقولُ ، فسأحكى لكَ أحدَ أسرارى التى كانَ يستحيلُ أن أحكِيَها إلا لكَ أنتَ وَحْدَكَ مِنْ بينِ الناسِ جميعًا » .

 

***

 

قالَ الطبيبُ منصور فى صَوْتٍ خافِتٍ :

« منذ ثلاثةِ شهورٍ أثناءَ قيامِ أفندينا الخديوِ بزيارةٍ إلى الوجهِ القِبْلِىِّ ، أمرَ بأن يُرسِلوا إلى ساحاتِ حفرِ القناةِ خمسةَ آلافِ جُنْدِىٍّ من جُنودِ الجَيْشِ قاربوا على إتمامِ مُدَّةِ خدمتِهم العسكريةِ . وقد تمَّ نقلُ هذا الحشدِ من الجنودِ فى السُّفُنِ النهريةِ إلى القاهرةِ ثم بالقطاراتِ إلى الزقازيقِ ، ومن هناك بعثَ بهم مندوبُ شركةِ القناةِ إلى هنا للمشاركةِ فى أعمالِ الحفرِ فى نَفْسِ مِنْطَقةِ مُرْتَفَعاتِ عتبةِ الجِسْرِ التى بها مركزى الطبىُّ ».

وعندما وصلَ الجنودُ وعرفوا أنهم جاءوا بهم لتكسيرِ الصخورِ ورَفْعِ الأحجارِ ونَقْلِها وحَفْرِ رمالِ الصحراءِ ، احتَجُّوا قائلينَ :

«هذا عملُ المحكومِ عليهم بالأشغالِ الشاقةِ لجرائمَ عسكريةٍ كبرى» .

ورفضوا علانيةً العملَ وطلبوا العودةَ إلى وحداتِهم ، بل غادرَ بعضُهم ساحاتِ الحفرِ فعلاً عائدينَ إلى مديريتِهم فى قنا .

وقد حاولَ رجالُ الشركةِ الأجانبُ إلقاءَ القبضِ على بعضِ الجنودِ بتهمةِ أنهم حاولوا الهربَ من ساحاتِ الحفرِ ، واقترحوا على حمدى بك أن يُوقِّعَ عليهم عقوبةَ الجلدِ العلنيةَ لإرهابِ بقيةِ الجنودِ ، لكنَّ رجالَ الجيشِ المصرىِّ كانوا على درجةٍ كبيرةٍ من الصلابةِ ، فثاروا لكرامتِهم وتَجمَّعوا فى مظاهرةٍ كبرى .

واضطُرَّ دليسبس مُديرُ شركةِ حفرِ القناةِ أن يتدخَّلَ شخصِيًّا ، وأصدرَ أوامرَهُ بعدمِ توقيعِ أى عقوباتٍ على الجنودِ الذين رفضوا العملَ فى حفرِ القنالِ , لكى لا تنتشرَ أخبارُ تمرُّدِهم بينَ عُمَّالِ السُّخْرةِ ، وسمحَ لهم بالعودةِ إلى قُراهم فى قنا .

لكنـه ، فـى نَفْـسِ الوقـتِ ، أمـرَ بإنزالِ أشَدِّ العقابِ على أىِّ فلاحٍ آخرَ

من عُمَّالِ السُّخْرةِ ، يُحاوِلُ أن يُحرِّضَ بقيةَ العُمَّالِ على أن يَقْتدوا بجنودِ الجَيْشِ فى هَجْرِ ساحاتِ الحَفْرِ !

وكانَ أوَّلَ مَنْ قبضوا عليه وهو يحكى لِزُمَلائِهِ خَبَرَ امتناعِ الجنودِ عن الخضوعِ لإذلالِ السُّخْرةِ فى حفرِ القناةِ , وكيفَ خضعَتِ الشركةُ لهم وأعادَتْهم إلى بلادِهم ، شابٌّ عرفْتُ أنه من محافظةِ المنيا ، ماتَ عددٌ كبيرٌ من زُمَلائِهِ اختناقًا عندما انهارَ فوقهم جبلٌ من الرمالِ وهم يَحْفِرونَ مُرْتفعَاتِ عتبةِ الجِسْرِ فدفنَتْهم تحتَها ، وذلك بعد أنْ ماتَ عددٌ آخرُ منهم عندما تأخَّرَتْ قافلةُ الجِمالِ التى كانَتْ تحملُ لهم ماءَ الشُّرْبِ بسببِ عاصفةٍ رمليةٍ شديدةٍ حاصرَتِ القافلةَ وهى فى طريقِها إلى هنا ، ففقدَ الرجالُ حياتَهم عطشًا .

قالَ الطبيبُ : « لقد جلدوا ذلك الشابَّ بقسوةٍ ليكونَ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ ، وظَنُّوا أنه ماتَ ، لكنَّنى أخذْتُهُ إلى المركزِ الطبىِّ كما أخذْتُكَ وعالجْتُهُ إلى أن استردَّ أنفاسَهُ . ومع ذلك خشيتُ أن يقبضوا عليه مرةً ثانيةً إذا سمحْتُ له بمغادرةِ المركزِ الطبىِّ والعودةِ إلى أعمالِ الحفرِ ، فأعلنْتُ أنه ماتَ وأننى أمرْتُ بدفنِ جُثمانِهِ كما أفعلُ مع كلِّ مَنْ يُتوفَّى داخلَ المركزِ . وفى نفسِ الوقتِ كانَ هناك موتى آخرونَ بسببِ انتشارِ وباءٍ بينَ العُمَّالِ , فلم يتنبهْ أحدٌ إلى أنه لم يكُنْ من بينَ أصحابِ الجُثثِ التى تَمَّ دفنُها » .

وختمَ الطبيبُ حديثهُ قائلاً : « وكانَ اسمُ هذا الشابِّ مصطفى ، وقد أخبرَنى أنه من قريةٍ اسمُها شارونة ! »

وكتمَ مسعود صيحةً كادَتْ تُفلِتُ منه !!

هنا أضافَ الدكتورُ منصور : « وأنتَ تُريدُ طبعًا أن تسألَنى: أين يوجَدُ مصطفى الآنَ ؟ لكنَّ هذا سرٌّ سأخفيهِ عنكَ مُؤقَّتًا لأجلِ سلامتِكَ وسلامتى ! »

 

***

 

بعدَ بضْعةِ أيامٍ تَساءَلَ الدكتورُ : « أخْبِرْنى يا مسعود ، هل يتعاطَفُ معَكَ بقيةُ الرجالِ القادمينَ من شارونةَ ؟ »

قالَ مسعود : « كُلُّهم يُطلِقونَ على مخلوف اسمَ «الرَّذْلِ»، ويُعانونَ من ظلمِهِ وقسوتِهِ ، لكنْ يستحيلُ أن يفعلوا شيئًا لأجلى وهذا الرجلُ يُشرِفُ عليهم » .

قالَ الطبيبُ : « بعدَ أن تستعيدَ قدرًا من صِحَّتِكَ , سأعلِنُ لرجالِ الشركةِ أنكَ عُدْتَ إلى الفَوْجِ الذى يُشرِفُ عليه مخلوف هذا ، وعليك بعد ذلك أن تُنفِّذَ بدقَّةٍ ما سأتَّفِقُ معَكَ على أن تقومَ به » .

 

***

 

فى مساءِ أحدِ الأيامِ التاليةِ عادَ مسعود إلى زُمَلائِهِ الذين يُشرِفُ عليهم مخلوف ، وما إنْ رآه شيخ البلد حتى صاحَ به : « فى المرةِ القادمةِ لن تنجُوَ بحياتِكَ من كُرْباجى !! »

لكنْ فى فجرِ اليَوْمِ التالى ، عندما كانَ مخلوف يَصيحُ على الرجالِ أن يستيقظوا ليذهبوا إلى مكانِ عملِهم ، اكتشفَ كلُّ أفرادِ الفَوْجِ أن «مسعود» قد اختفَى!!

صاحَ مندور صديقُ مسعود بصَوْتٍ مُرتفِعٍ , قاصدًا أن ينتشرَ الخبرَ بسرعةٍ بينَ كلِّ جماعاتِ الحفرِ :

« مسعود هربَ .. مسعود خافَ من انتقامِ شَيْخِ البلدِ مخلوف , فهربَ . . . »

وبسرعةٍ جاءَ رجالُ الشركةِ مع القوَّاصةِ من رجالِ الأمنِ ليتحقَّقوا من صحةِ الخبرِ .

وفــى الحـالِ أمـر حمـدى بـك بإلقـاءِ القبضِ على رئيسِ العُمَّالِ شَيْخِ

البلدِ مخلوف , لأنه أهملَ فى حراسةِ أفرادِ الفَوْجِ الذى كانَ تحتَ حراستِهِ , وتركَ واحدًا منهم يهربُ من العملِ فى حفرِ القناةِ .

ولم يضَعْهُ فى السجنِ ، بل ساقَهُ إلى ساحةِ الحفرِ , وأمرَهُ أمام كلِّ رجالِهِ الذين انتزعوهم من قريةِ شارونةَ , قائلاً : «اخلعْ ملابسَكَ ! »

فخلعَ مخلوف ملابسَهُ الخارجيةَ وألقَى بها على الأرضِ بجوارِ الجلابيبِ الزرقاءِ .

ثم أمرَهُ حمدى بك وهو يشير إلى كومة من أدوات الحفر : «احملْ هذه الفأسَ» .. فحملَها مخلوف . . .

ثم أضاف حمدى بك : « لقد أنزلْتُكَ إلى درجةِ نفرٍ .. انزلِ الآنَ مع عُمَّالِكَ إلى قاعِ القناةِ ، وإيَّاكَ أن تُقصِّرَ فى الحفرِ أو فى تكسيرِ الأحجارِ وإلا كسَّرْتُ رأسَكَ قبلَ سلخِ جلدِكَ » .

ولأن شيخَ البلدِ تَعوَّدَ الإمارةَ والإدارةَ ولم يتَعوَّدْ أن يعملَ بيدَيْهِ ، فما إن وافَى الظهرُ حتى تَعذَّرَ عليه أن يرفعَ ذراعًا أو يُحرِّكَ ساقًا ، وسقطَت الفأسُ مِنْ بَيْنِ يدَيْهِ ، وجلسَ فوقَ قِطَعِ الصخورِ والأحجارِ , ولم يقُمْ !!

وتَذكَّرَ رجالُ شارونةَ أنه فى نفسِ ذلك المكانِ وفى وقتٍ مُشابهٍ من النهارِ ، سبقَ لمسعود الصغيرِ أنْ سقطَ من الإعياءِ فلم يرحمْهُ سَوْطُ الشَّيْخِ مخلوف !

عندئذٍ أمرَ حمدى بك رجالَهُ أن ينقلوه إلى السِّجْنِ ، فسحبَهُ القوَّاصةُ إلى هناك وهو يجرُّ رجلَيْهِ جَرًّا ، وقد اكتشفَ مدى خطأ تَصوُّرِهِ أن خدمتَهُ للأسيادِ فى القريةِ وفى شركةِ القناةِ ستَحميهِ من طُغْيانِهم وظُلْمِهم !!

وبعدَ الغُروبِ ، أمرَ حمدى بك بجَمْعِ كلِّ رُؤسَاءِ العُمَّالِ فى حلقةٍ وفى مقدمتِهم الرجالُ القادمونَ من شارونةَ ، وقامَ القوَّاصةُ بفَرْشِ قطعةِ جلدِ البقرِ الكبيرةِ ، وسحبوا «مخلوف» من سجنِهِ ونزعوا الثيابَ عن ظهرِهِ ، وأجْلَسوه فوقَ قطعةِ الجلدِ كما سبقَ أنْ أجلسوا «مسعود» ، ومخلوف لا يستطيعُ الاحتجاجَ ولا المقاومةَ بسببِ الإرهاقِ ونتيجةَ آلامٍ يُحِسُّ بها فى صدرِهِ .

وتَصفَّحَ حمدى بك وُجوهَ القادمينَ من شارونةَ مع مخلوف، واختارَ من بينهم الفتى «مندور» وهو يقولُ له : « هل لَكَ يدٌ قويةٌ ؟ »

وقبلَ أن يُجيبَ مندور كانَ حمدى بك يضعُ بَيْنَ يدَيْهِ السوطَ الأسودَ بفروعِهِ المُتشعِّبةِ ويقولُ له : «اجْلِدْهُ عشرينَ جلدةً ، لكى يتعلَّمَ كلُّ رئيسِ عُمَّالٍ كيف يُجيدُ الحراسةَ ، فلا ينامَ ويتركَ العُمَّالَ يهربونَ من رقابتِهِ فى ظلامِ الليلِ» .

أمسكَ مندور بالكُرْباجِ وقد تَذكَّرَ كلَّ ما فعلَهُ مخلوف بصديقِهِ مسعود وبكلِّ أفرادِ الفَوْجِ . . . لقد جاءَتْ لحظةُ العقابِ !

ورفعَ يدَهُ بالكرباج . . .

لكنه فى تلك اللحظةِ تَردَّدَ !

أحَسَّ كأن الشللَ أصابَ ذراعَهُ ..

تَذكَّرَ أن الشَّيْخَ «مخلوف» هو قبلَ كُلِّ شَىْءٍ شَيْخُ بلدةِ شارونة .. قريتِهِ !!

وأحَسَّ حمدى بك بتردُّدِ مندور , فانتزعَ السَّوْطُ مِنْ بَيْنِ يدَيْهِ وهو يسبُّهُ فى غضبٍ قائلاً : «فلاَّحٌ جبانٌ .. فلاَّحٌ ضعيفٌ !! » وسلَّم حمدى بك السَّوْطَ إلى رئيسِ القوَّاصةِ .

وعندَ الضربةِ التاسعةِ تَهاوىَ جسدُ مخلوف وسقطَ على جانبهِ فوقَ الأرضِ ، لكنَّ حمدى بك أمرَ رئيسَ القوَّاصةِ أن يواصِلَ الضرباتِ حتى يكتملَ عددُها إلى العشرينَ .

وعندما جاءوا بالطبيبِ منصور ، قَرَّرَ أن الرجلَ لفظَ أنفاسَهُ الأخيرةَ قبلَ أن تُصيبَهُ الضربةُ العشرونَ . . .

قالَ حمدى بك فى استهانةٍ : « ادْفِنوه ! »

وتَعاوَنَ رجالُ شارونةَ فى غسلِ جُثمانِ الشَّيْخِ مخلوف ، وأقاموا عليه صلاةَ الجنازةِ ، ثم حفروا فى الرمالِ حفرةً وأهالوا فَوْقَهُ الترابَ .

لقد قاموا بما يفرضُهُ الواجبُ عليهم ، لكنَّ عينًا واحدةً لم تذرفْ دمعةً على شَيْخِ البلدِ الذى لم يعرفْ فى حياتِهِ العدلَ أو الرحمةَ !

 

***

 

بعدَ أيامٍ ، عندما خَيَّمَ الظلامُ ، صَعِدَ الطبيبُ منصور إلى غرفةٍ ضَيِّقةٍ تنتهى إليها درجاتُ السُّلَّمِ الذى يُؤدِّى إلى السطحِ فى بَيْتِهِ الصغيرِ ، وقالَ لمسعود الذى كانَ يختفى هناك :

«غدًا يُغادِرُ الفَوْجُ الذى جئْتَ معه من شارونةَ ساحاتِ الحفرِ ، وبعدَ غدٍ أسافرُ إلى بورسعيد , وستُرافِقُنى تحملُ لى حقيبةَ ملابسى ، فقد اعتدْتُ أن أصطحبَ معى فى كلِّ مرَّةٍ أعودُ لزيارةِ أسرتى واحدًا من العُمَّالِ الذين أتموا شهرَ عملِهم ، كَمُرافِقٍ لى يُساعِدُنى فى حملِ حقائبى . ومن بورسعيدَ أركبُ سفينةً تعبرُ بى بُحَيْرَةَ المنزلةِ إلى بَيْتِ أسرتى فى مدينةِ المطريةِ بمديريةِ الدقهلية على الشاطئِ الآخرِ للبُحَيْرَةِ . ولن يتعرَّفَ عليك أحدٌ ما دامَ الفَوْجُ الذى جئْتَ معه قد سافرَ ، خاصةً فى فترةِ استقبالِ آلافِ العُمَّالِ الوافدينَ الجُدُدِ لِيحلُّوا مَحلَّ العُمَّالِ السابقينَ . الشركةُ لا تهتمُّ بمراقبةِ مَنْ أتَمُّوا مُدَّةَ عملِهم ، ولا يهتمون أن يصحبَنى أحدُهم ليعملَ فى أرض أسرتى بالمطريةِ » .

فى تلك اللحظةِ أشرقَتْ على ذهنِ مسعود حقيقةُ المكانِ الذى يُمكِنُ أن يوجَدَ فيه أخوه مصطفى ، لكنه لم يقُلْ شيئًا !

 

***

 

وتَقابَلَ الأخُ الأصغرُ مع أخيه الأكبرِ داخلَ عُشَّةِ الحراسةِ على حافةِ الحقولِ المزروعةِ بالأرزِ التى تمتلكُها عائلةُ الطبيبِ منصور قُرْبَ مدينةِ المطريةِ بالدقهليةِ .

ومن مدينةِ المطريةِ سافرَ مصطفى ومسعود إلى الإسكندريةِ، ومنها بالقطارِ إلى القاهرةِ ، حيث يذوبُ الناسُ فى زحامِها فلا يتعرَّفُ عليهم أحدٌ .

وفى القاهرةِ ، واجهَتْهُما مشكلةٌ أخيرةٌ . . .

لقد قالَ لهما الدكتور منصور إن الشركةَ قد أبلغَتْ مُديريةَ المنيا بهَربِ مسعود ، ولا شكَّ أن المُديريةَ قد أبلغَتْ هذا الخبرَ بدَوْرِها إلى مركزِ مغاغةَ وعمدةِ شارونةَ ، لإرجاعِ مسعود فورًا إلى ساحاتِ الحفرِ إذا حدثَ وعادَ إلى قريتِهِ .

أما عن مصطفى ، فقد قالَ الطبيبُ : « لقد اعتادَتِ الشركةُ عدمَ إبلاغِ المديرياتِ إلا بحالاتِ الوفاةِ التى نُثبتُها فى سِجِلاَّتِنا الطبيةِ ، لكنَّ المُديرياتِ تحرصُ على عدمِ إبلاغِ المراكزِ ولا عُمَدِ القُرَى بتلك الحالاتِ ، لأن انتشارَ مثلِ هذه الأخبارِ بينَ الفلاَّحينَ يجعلُ مِنَ المُتعذِّرِ جمعَ أىِّ عُمَّالٍ جُدُدٍ للسفرِ إلى ساحاتِ حفرِ القنالِ » .

قـــالَ مصطفــى لمسعــود : « علينــا أن نبحثَ عـن عملٍ فى القـاهرةِ , إلـى أن تنتهِـىَ عمليـاتُ جمـعِ الفلاَّحيـنَ مــن القُرَى لِلسُّخْرةِ فى أعمالِ حفرِ قنالِ صحراءِ السُّوَيْسِ » .

 

***

 

رغمَ كلِّ الأخطارِ , تَسلَّلَ مصطفى ذاتَ يَوْمٍ على ظهرِ مركبٍ شراعىٍّ إلى مغاغةَ ومنها ليلاً إلى شارونةَ ، وذهبَ مُحْتَميًا بالظلامِ لِينقلَ إلى والدتِهِ أخبارَهُ وأخبارَ مسعود .

قالَتِ الأمُّ بعد أن أفاقَتْ من المفاجأةِ , وقد استراحَ قلبُها عندما وجدَتِ ابنَها الأكبرَ حَيًّا أمامَها :

« عُدْ إلى أخيكَ يا مصطفى قبلَ انقشاعِ الظلامِ حتى لا يكتشفَ أحدٌ وجودَكَ هنا ، وستزولُ هذه الغُمَّةُ يومًا فتعودُ إلينا أنتَ وأخوكَ الصغيرُ فى ضَوْءِ النهارِ ».

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق
  • 1
    ابو العز
    2015/07/31 10:54
    0-
    0+

    ما فعله اليوم المصريون كان بارادتهم الحرة ومن حر مالهم ...
    وفي مدة قياسية اعجازية تنبي عن معدن هذا الشعب العظيم وارادته هو وقيادته وجيشه في العبور الى المستقبل الزاهر الواعد .. فتحية لمصر ابناءها الكرام الأحرار والذين بفعلهم هذا اعطوا درسا للعالم وللأعداء عن معدن هذا الشعب الذي ارادته لن تلين .
    البريد الالكترونى
    الاسم
    عنوان التعليق
    التعليق