ولذا فقد كان من الطبيعي ان يواصل بوتين خطواته الرامية الى دعم امن بلاده من خلال تشكيل التحالفات المشتركة مع من يشاطره الفكر والتوجه، والتي اراد أخيرا تعزيزها بمؤسسات اعلامية تكفل حماية بلاده وحلفائها من اخطار المعلومات الموجهة، وتساعده على احتواء "تحركات الطابور الخامس" في الداخل الروسي.
وكانت الازمة الاوكرانية واشتعال الحرب الاعلامية عقب اندلاع هذه الازمة، كشفت عن حاجة روسيا الى سياسة اعلامية جديدة تراعي المتغيرات التي تموج بها المنطقة في ظل تصاعد الضغوط الغربية واستمرار الادارة الامريكية في محاولاتها الرامية الى الاطاحة بالرئيس بوتين ونظامه اعتمادا على منظمات المجتمع المدني، ومن خلال الصحف والقنوات الاعلامية المحلية ذات التوجهات المعارضة التي باتت اشبه بـ"حصان طروادة" داخل المجتمع الروسي. واذا اضفنا الى كل ذلك تصاعد حدة العداء الشخصي بين الرئيس الامريكي باراك اوباما، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي اعترفت الادارة الامريكية صراحة بالوقوف وراء مخططات الاطاحة به، فضلا عما اعلنته الدوائر الغربية من توجهات صوب تبني "الحرب الاعلامية" واعتمادها كواحد من امضى اسلحة الحرب الباردة، بديلا للمواجهة المسلحة التي تقف متغيرات العصر ضد اي محاولات اشعالها في القارة الاوروبية، فاننا نكون عمليا امام مخطط مكتمل الاركان، صارت موسكو تدرك اكثر من ذي قبل ضرورة التصدى له، والعمل علي ايجاد البدائل اللازمة لمواجهته.
من هذا المنظور كان من الطبيعي ان تبدأ موسكو بالتركيز على معالجة اوضاع الداخل واتخاذ ما يلزم من قرارات تستهدف ضبط ايقاع التحركات الاعلامية، واحكام قبضتها على خيوط اللعبة، بما يتسق مع ما سبق واتخذه بوتين من قرارات لترتيب البيت من الداخل والتخلص من ابرز ممثلي الطابور الخامس من رموز اللوبي اليهودي الصهيوني الذي كان فرض هيمنته الاعلامية والسياسية على صانعي القرار في الكرملين طوال تسعينيات القرن الماضي. وكان بوتين استهل فترات حكمه في مطلع القرن الحالي بالتركيز على مواجهة العديد من المشاكل الداخلية التي طالما وقفت الدوائر الغربية وراء تأجيجها، ومنها سيطرة رجال المال والاعمال على مقاليد الادارة في الكرملين في اطار تزاوج الثروة مع السلطة، بما فرض لاحقا المواجهة مع اصحاب "الامبراطوريات الاعلامية" التي طالما كانت "دولة داخل الدولة ". وما ان فرغ بوتين من تصفية حسابته مع رموز ذلك العهد حتى عاد وتحول لاحقا مع بداية فترة ولايته الثالثة الى احكام قبضته على "ادوات العصر"، وفي مقدمتها الانترنتومواقع التواصل الاجتماعي ومنظمات المجتمع المدني من خلال ترسانة القوانين التي استصدرها مجلس الدوما وشملت ما تسمى بـ"الصحافة المستقلة" واجهزة الاعلام التي يجري تمويلها من الخارج، فضلا عما اصدره مجلس الدوما من تشريعات في نهاية العام الماضي تتعلق بتقليص حصة الشريك الاجنبي في المؤسسات الاعلامية الروسية حتى 20% ، بهدف الحد من النفوذ والهيمنة الغربية في الساحة الداخلية الروسية ومواجهة محاولات تنفيذ الخطط التي كانت ولا تزال تضمرها واشنطن في اطار ما يسمى بـ"الثورات الملونة" و"حرب المعلومات" في بلدان الفضاء السوفيتي السابق. ويقضي القانون الصادر بهذا الشأن بحظر تملك المستثمرين الاجانب والهيئات والمؤسسات الدولية لاكثر من 20% من اسهم الشركات والمؤسسات الاعلامية الوطنية الروسية. واذا كانت هذه التشريعات والقوانين تبدو وقد اقتصرت على شئون الداخل، فان ما عاد الكرملين وطرحه على شركائه من اعضاء التحالفات والتنظيمات الاقليمية والعابرة للقارات مثل "بريكس" و"شنغهاي" و"التحالف الاورواسيوي" من اقتراحات حول "الفضاء الاعلامي الموحد" يمكن ان يكون خطوة بالغة الاهمية ابعد مدى واوسع اطارا، على طريق الحد من سطوة وهيمنة الوكالات الغربية التقليدية التي تستأثر عمليا بـ 80% من حجم ما يتداوله العالم من اخبار وتعليقات صحفية، ومنها "اسوشيتد برس" و"رويتر" و"فرانس برس"، وغيرها من القنوات التليفزيونية وكبريات الصحف والمجلات الغربية. ويذكر المراقبون ان الرئيس بوتين وقف في موسكو وراء اطلاق وكالة "سبوتنيك" سلاحا إعلاميا في حربه مع البيت الأبيض، قبل ان يعود الى حلمه القديم الذي عاد ليناقشه مع شركائه في اوفا عاصمة بشكيريا بشأن ضرورة تقديم العالم "بعيون جديدة بعيدا عن معايير عالم القطب الواحد"، ليخلصوا الى اتخاذ قرارهم حول انشاء منظومة اعلامية جديدة ناطقة بالانجليزية مدعوة لان تكون واجهة اعلامية لبلدان منظمة "بريكس"، التي تضم كلا من روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا.
وكان الرئيس بوتين سبق واشار في أحد أحاديثه الصحفية على هامش "قمة العشرين" في نوفمبر من العام الماضي الى الحرب المعلنة وغير المعلنة من جانب الولايات المتحدة ضد روسيا، من خلال ما تفرضه من عقوبات اقتصادية، وما تمارسه من ضغوط سياسية، وما تشنه ايضا من حروب اعلامية عبر ما تملكه من وسائل الاعلام المحلية والعالمية، الامر الذي يفسر الكثير من القرارات الصادرة عن القمة الاخيرة لمجموعة بلدان "بريكس" في اوفا ومنها انشاء منظومة "بريكس" للاعلام. وكانت المصادر الرسمية الروسية سبق وانتقدت بشكل غير مباشر سقوط معظم وسائل الاعلام في البلدان الاجنبية وخاصة النامية منها بطبيعة الحال في شرك استقاء معلوماتها عن روسيا والعالم، من المصادر الغربية بالدرجة الاولى، فضلا عن انها قَلً ما توفد مراسليها على اساس دائم الي البلدان الشرقية بما في ذلك روسيا والصين والهند، لتسقط عن غير عمد فريسة المنتج الاعلامي الغربي الذي سبق واشرنا الى انه يقدر عمليا بنسبة 80% من المنتج الاعلامي العالمي. ومن المعروف ان هذا المنتج الاعلامي يعتمد اليوم في معظمه على الاخبار الصادرة عن روسيا او عن علاقاتها مع العالم الخارجي، عبر وكالات"اسوشيتد برس" الامريكية التي سوف تحتفل بعد عامين بالذكرى السبعين بعد المائة لتأسيسها، و"رويترز"البريطانية التي يتداولون اخبارها في 130 بلدا من خلال 19 لغة، و"فرانس برس" الفرنسية الواسعة الانتشار، و"د.ب. ا." الالمانية التي تستأثر بـ95% من حجم ما تتناقله وسائل الاعلام الالمانية من اخبار وتعليقات.
ونذكر بهذه المناسبة ان دميتري كيسيليوف المدير العام لوكالة "سبوتنيك" الاعلامية الروسية كان اشار في معرض تفسيره لاسباب انشاء هذه الوكالة الى ان موسكو تقف مناهضة لكل الاشكال الدعائية الغربية التي "يقتات" عليها العالم، وانها تريد بطبيعة الحال تقديم "التفسير البديل". واضاف كيسيليوف ان ما سوف تقدمه "سبوتنيك" سيكون " منتجا إعلاميا متميزا خاليا من الفبركة، ويتسم بأكبر قدر من الموضوعية والأمانة التي يحتاجها العالم، وما يعد محاولة لمواجهة سيل الأكاذيب والافتراءات التي تتدفق من مواقع القطب الواحد. ويبدو العالم وقد سئم تكرار محاولات ترويجها وفرضها؛ ولذا، فإن ما سوف يتلقاه المشاهد أو المستمع أو القارئ سيكون من إعداد الصحفيين العاملين في بلادهم، وبما يتلاءم مع احتياجات هذه المناطق المتفرقة من العالم"، وهو ما يظل حتى اليوم في اطار الامنيات بسبب ما يعتري نشاط الوكالة الجديدة من قصور نسبي يتعلق في معظمه بالكوادر المهنية.
على ان ذلك لا يعدو "هنًات" سرعان ما سوف يتجاوزها الزمن، على ضوء تصاعد الضرورات والمتغيرات الجديدة التي تفرض على موسكو اليوم شحذ الجهود من اجل اقامة صرح اعلامي جديد يكون ممثلا لطموحاتها وحلفائها نحو مستقبل اكثر رحابة، باعتبارها قاطرة التكامل في كل التشكيلات والتحالفات الجديدة. ومن اللافت بهذا الشان ان الحديث حول التكامل الاعلامي لا يخلو من اشارات صوب اعتبار ذلك مقدمة لبناء الثقة بين شعوب هذه التكتلات الجديدة على طريق تنفيذ الاستراتيجية الجديدة صوب تعزيز العلاقات بين اطراف هذه التحالفات في مختلف المجالات الاخرى، وفي مقدمتها العلاقات الانسانية والثقافية بكل تنوعاتها، جنبا الى جنب مع العلاقات السياسية والاقتصادية.