وإنما أيضا مختلفون ديكتاتوريا، فإجراء أبسط مقارنة بين النماذج الديكتاتورية التى عرفها العالم فى العصر الحديث على غرار فرانسيسكو فرانكو، وأحمد سوهارتو، وأغستو بيونشيه، وفريناندو ماركوس دون أن نضفى عليهم أى قيمة إيجابية) والنماذج التى عرفها العالم العربى خاصة بشار الأسد ومعمر القذافى وصدام حسين وعلى عبدالله صالح وعمر البشير ندرك أن هناك فارقا كبيرا ونوعيا، ففى آسيا حكم الجنرال سوهارتو إندونيسيا 31 عاما، والفلبين حيث حكم ماركوس 21 عاما، وأمريكا اللاتينية حيث حكم الجنرال بيونشيه التشيلى 16 عاما، وأوروبا حيث حكم الجنرال فرانكو إسبانيا 39 عاما.. وقد انتهى «فرانكو» بعد انتفاضة شعبية سلم بها وخرج من الحكم، وانتهى «سوهارتو» إلى المنفى بعد حركات شعبية أيضا، فى حين انتهى الثالث (بيونشيه) إثر سقوطه فى استفتاء ووفق حكم المحكمة والدستور، أما ماركوس فسقط نظامه بعد رحيله عن هذه الدنيا.
وما يلفت النظر أن هذه النماذج المذكورة لم تعاند أو تقاوم انتهاء نظامها كما لم تفعل وفقا لمقولة (الأسد إلى الأبد أو نحرق البلد) التى وجدت ترجمتها فى ليبيا والعراق واليمن فضلا عن سوريا، بالاضافة إلى أن هذه النماذج لم تمانع فى قيام تحولات دستورية وديمقراطية بالدول التى تحكمت فيها، وقد ظل المذكورون مع كل الجرائم المشينة التى ارتكبوها بحق شعوبهم ومع تسلطهم وجبروتهم يعتبرون الدولة بمثابة ملكية عامة ولم ينهبوا إلى حد تقويضها أو اختصار المجتمع فى ذاتهم.
وكانت الديكتاتورية فى هذه الدول مجرد شكل من أشكال النظم السياسية التى عرفتها المجتمعات البشرية، إذ يجمع الديكتاتور بين شهوته للحكم وسعيه للمجد الشخصي، مع طموحه لبناء دولة ومجتمع قويين بغض النظر عن الوسيلة، ومقابل ذلك فإن الديكتاتورية فى بلداننا لم تأت على هذا النحو بالضبط، لأنها كانت تتأسس على النزوات الذاتية دون صلة بالنظام السياسي، ولأنها كانت تختزل فى مجرد التسلط واحتقار السياسة والحرمان من الحقوق، وتقوم على الكبح والتدجين والتهميش للدولة والمجتمع وحتى السعى لتقويضهما أو بمعنى آخر كانت الأنظمة الديكتاتورية العربية تقوم بالإجهاز على الدولة وذلك عن طريق مصادرتها للمجتمع المدنى واستباحته فى جميع الاتجاهات بما ألغى موقعها ودورها كهيئة منظمة لحقوق الجماعات والأفراد راعية مصالحهم، حافظة مؤسساتهم الاقتصادية والسياسية والإعلامية، ومؤتمنة على نمائهم وتطورهم ومستقبل أبنائهم، وهذه فوارق فى غاية الأهمية تفسر سلاسة تحول الدول المذكورة إلى الديمقراطية وتعثرها عندنا.
القصد أن ثمة فوارق كثيرة ونوعية بين شخصية الديكتاتور عندنا وشخصيته فى باقى أنحاء العالم، حتى من الناحية السيكولوجية، فالديكتاتور عندنا ينحو نحو اختصار كل شيء فى ذاته فهو التاريخ والبطل والدولة والشعب والشرعية والقانون والحاكم والحكم والوطن والوطنية، وبالتالى فالبلد الذى يحكمه هو بمثابة مزرعة خاصة تفسر عقلية التوريث، والنكوص عن فكرة النظام الجمهوري، بحيث بتنا إزاء جمهوريات ملكية وراثية وبديهى أنه فى هذه المزارع لايوجد شعب، وإنما جمهور يصفق ويهتف للرئيس، أى مجرد جمهور لاحقوق له ولا معني، بل ثمة دين عليه لسيادة الرئيس يستوجب طقوس الولاء والطاعة والوفاء!!
إن الديكتاتورية العربية جعلت من الدولة مجرد سلطة وإدارة للحكم مما قوض وظائفها الأساسية وأفقدها معناها، فباتت مجرد جهاز إدارى وجهاز إخضاع وسيطرة، فضلا عن كونها جهاز إفساد عام سياسيا واقتصاديا وثقافيا وسيكولوجيا، أما عن اختلاف ديمقراطيتنا عن ديمقراطية العالم فهى لم تتأسس على مفاهيم الليبرالية، أى على مفاهيم الحرية واستقلالية الإنسان الفرد والمواطنة، فضلا عن أنها مجرد ديمقراطية انتخابية يتم التحكم فيها بسلطة الدولة والمال والإعلام ووسائل التربية، وعليه فلا يمكن القول بديمقراطية حقيقية دون ليبرالية، أى دون حريات فردية، وأقرب مثال للديمقراطية الليبرالية التجربة التركية فهى التى أجهضت محاولة إزاحة النظام البرلمانى الديمقراطى لمصلحة النظام الرئاسى فى محاولة لتركيز السلطات فى شخص الرئيس، مما أثار مخاوف النكوص عن التجربة التركية الديمقراطية الناجحة التى زاوجت بين الإسلام والعلمانية وبين الإسلام والديمقراطية ومعلوم أن هذه التجربة لا تدين فقط للعلمانيين وإنما للإسلاميين أيضا، الذين لم يذهبوا إلى ردات فعل متسرعة ولا إلى العنف لإيمانهم بالديمقراطية، مما عزز ثقة الشعب بهم وأوصلهم إلى الحكم عام (2002).
ومن هنا فإن النظام الديمقراطى يمكن أن يأخذنا نحو الديكتاتورية أيضا، بمعنى أن الديمقراطية تحتاج إلى تحصين فى دستور يحدد الإجماعات والقيم العليا التى لايمكن المساس بها، لأنها دون ذلك تكف عن كونها ديمقراطية حقة وتغدو مجرد ديمقراطية صورية أو ديمقراطية انتخابات وجماعات.
د. عماد إسماعيل