ولا أستطيع أن أصف لك «البركان العائلي» الذى كان ينفجر فى بيتنا كل يوم، ليس بيننا وبين أبوينا فقط، ولكن بين أبى وأعمامى وعماتى بسبب الارث، إذ لم يكن له حديث غيره، فهو يريد مالا بلا عمل، كما أنه لا يصلح لأى وظيفة، ولا يحب أولاده، وكل همه وشغله الشاغل نفسه، وتركنا نعانى الأمرين حتى فى الطعام والشراب، وكانت أيام طفولتنا وشبابنا أسود من ظلام الليل، وأمر من العلقم، وكم تعجبنا من أنه لايعمل برغم صحته الممتازة، ويلجأ إلى الجيران والأقارب للاستدانة منهم، لكى يشترى السجائر، وبعض القوت الضرورى لنا.. أما عنا نحن الخمسة فإنه إتبع معنا أسلوبا غريبا، حيث كان يتولى مسئولية كل منا حتى الثانوية العامة فقط، وبعدها يقول له «اعتمد على نفسك».. يعنى حياة كلها ذل وشجار قبل الثانوية وانكسار وضياع بعدها.. ولم يجد أى منا مجالا للعمل فى مصر، فسافر أخى الأكبر إلى دولة عربية وعمل بها لكى يصرف على نفسه فى الجامعة، أما أنا وأختى فقد أجلنا السفر إلى ما بعد التخرج، ولكى نوفر متطلبات الجامعة كنا نلجأ إلى مكتب رعاية الطلاب ونحصل على الاعانات، بل ونرتدى ملابس قريباتنا، ونأخذ منهن ما يفيض عن حاجتهن، والأدهى من ذلك أن أمى مريضة بحبها الأولاد الذكور، وقد ورثت ذلك عن عائلتها، مما أوجد كثيرا من الكره بيننا، ولم يعرف أى منا الحب لأخوته، أو قل إننا أشقاء ولكن أعداء، ولا أدرى ما الذى أغشى بصيرتها حتى صارت تعاملنا بقسوة لا يتخيلها أحد، وهى شديدة الغلظة، وجبارة جدا، وقد أخذ إخوتى طباعها، وقد انعكس هذا الجو النفسى الأليم عليّ، فأصبت بالصرع وأنا فى سن الثامنة عشرة، أما أختى الصغيرة فأصيبت به وهى فى سن السابعة، وبعدها لاقت رعاية خاصة، ولكن المرض يلازمها. كما لازمنى علاوة على الأهوال والمآسى التى تعرضت لها فى حياتي، وتبدأ مأساتى الكبرى عندما بلغت الثامنة والعشرين. حيث التحقت بوظيفة حكومية عملت بها من الثامنة صباحا إلى الثانية ظهرا، وبعد انتهاء عملى الحكومى كنت أذهب إلى عمل إضافى كمندوبة فى شركة للعب الأطفال.. كل هذا لكى أجهز نفسى امتثالا لفرمان أبي، بأن الولد يسافر بعد الثانوية والبنت تعتمد على نفسها فى توفير مستلزماتها.
وبصراحة شديدة فإننى تعبت كثيرا، فعائد الوظيفة الحكومية لايكفى المواصلات وثمن الأدوية التى تلازمنى مدى الحياة، أما أخى الأكبر المسافر إلى دولة عربية، فلقد كان يرسل الينا مصاريف البيت، بضغط من أبي، وانعكس ذلك على نفسيته فكره الجميع، ثم كانت المفاجأة الصادمة لى عندما صمم أبى على سفرى إلى الخارج، لكى «أكوّن نفسي» وكأنى ولد، وقد فعل ذلك عندما فاتحته بأن زميلا لى فى العمل يريد أن يتقدم لخطبتي، وانفعل علىّ بشدة، وأحسست وقتها كأنى فعلت إثما عظيما، إذ أقسم أن أسافر، فهو لا يريد أن يرى وجهي، وهكذا انضممت إلى أخى الأكبر ثم أختى التى تليه، فلقد سبقانى فى تنفيذ «فرمان السفر»، وهكذا سافرت مرغمة امتثالا لقراراته، وتركت الوظيفة الحكومية، وزميلى المحترم الذى تزوج وأنجب، وصارت له حياته الناجحة، أما أنا فظللت على حالى بسبب أب لا يعرف الرحمة، وأم بلا ضمير، ولك أن تتخيل بنتا مريضة بالصرع كيف تواجه الحياة فى الغربة بمفردها، فما حدث هو أن تخلى عنى أخى وأختي، ولم أفلح فى البقاء بالخارج طويلا، وعدت إلى مصر على أمل أن تتحسن الأحوال مع أسرتي، وأعود إلى عملى وحياتى فى مصر، لكنى قوبلت بعاصفة من الرفض.. نعم رفض أبى وأمى وجودى معهما، حيث أرغمانى على السفر إلى دولة أوروبية انتقل إليها أخى وأختي، فكل ما يهمهما هو أن يأتى لهم الأولاد بمصاريف الأسرة، وكم توسلت إليهما أن يتركانى لحالي، وقلت لهما إن شقيقى وشقيقتى اللذين نجحا فى الخارج يتمتعان بصحة جيدة، أما أنا فحالتى تسير من سيئ إلى أسوأ، لكنهما لم يلقيا بالا لما قلته، ومضيا يواصلان تعذيبى بالكلام القاسي، حتى فررت منهما إلى الخارج، وأنا أبكي، وحتى أمى لم ترحم دموعي، وهى كذلك حتى الآن، مع أنها بلغت سن الخامسة والسبعين، وحجت مرتين، وأدت العمرة مرتين أيضا، لكن الأنانية وانعدام الضمير، والقسوة وغيرها من الطباع السيئة ظلت خصالا أساسية فيها.
وفى الغربة تقدم كثيرون للزواج بي، ولكن أخى رفضهم جميعا، بحجة أنه غير مسئول، يعنى هو يرفض فى الخارج، وأبى يرفض فى الداخل، وحسبى الله ونعم الوكيل... وتوالت المشكلات بينى وبين شقيقى الأكبر، الذى ورث عن أبى حب السيطرة والتحكم، ولم يرحمنى وأنا فتاة مريضة، وحدث ما زاد هوة الخلاف بيننا، إذ كانت هناك شقة نعيش فيها أنا وأختى وهو، وكانت مكتوبة باسمي، وقد حوّلها إلى شركة نظافة ومقاولات، وفكر فى أن يبيعها، فرفضت التوقيع على البيع، فلجأ إلى المحكمة، فزورت شهادتي، وكسبت القضية، وتركت له البيت هو وأختى التى لا يهمها سوى مصلحتها، ولا تجد حرجا فى أن تقول لى «أنا ومن بعدى الطوفان» وفعلا حققت ما أرادت، فلقد كان أهلى يرفضون تزويجى إلى أن تتزوج هى أولا باعتبارها أكبر مني، ولكن عندما تزوجت وأنجبت، وصارت لها حياة مستقلة تركونى بمفردي.. المهم أن الاثنين اعلنا الحرب عليّ، وتحول موضوع الشقة إلى سبب رئيسى للعداء ضدي، ونسى أنه يملك ثلاث سيارات نقل، وسيارة جيب أمريكية الصنع، وأموالا فى البنوك، ولكى يرضيها ساعدها فى بعض الأمور الخاصة بها، وبذلك ضمن أن تظل هى بجواره، واشترى أخى أكثر من بيت وسجل باسمها شقتين، للتهرب من الضرائب، وبمرور الأيام صار موضوع الشقة التى زورت شهادتى بشأنها ينغص حياتى واستغفرت الله، ورجوته أن يسامحني، فحقوقى مهدرة لدى أخي، ولا أحد يساندنى فى محنتى وهذا هو الذى دفعنى إلى هذا التصرف المرفوض.
وبلغت سن الأربعين، وأنا مازلت بنتا، فلم أجد بدا من أن أزوج نفسي، فعقدت قرانى على شاب يعمل مع أخى الأكبر فى الدولة الأوروبية التى يقطن بها، واكتشفت بعد فترة بسيطة أن الأمر كله عبارة عن «مصيدة» فانفصلت عنه قبل الزفاف، ودفعت وحدى ثمن هذه الزيجة الفاشلة وضاع شقاء السنين، ومنذ عشر سنوات، وأنا أعيش بمفردى فى الغربة بعيدا عن «الإخوة الأعداء» وكنت مطمعا للكثيرين، ووقعت فى الكثير من الأخطاء، ومازالت أمى على عنادها معي، حتى وأنا فى الخارج، وانضم إليها أخى الثاني، وهو مصدر إيذائى الآن فى مصر، مع أنه متزوج ولديه ثلاثة أولاد ويكبرنى بعامين.
وعلى جانب آخر فإن مرض الصرع ليس عقبة فى إقامة حياة طبيعية ناجحة، فبنت خالى مريضة به، وهى مهندسة زراعية، ومتزوجة، وأنجبت اثنين، وقد اتقى أهلها ربها فيها، كما أن ابنة خالتى مريضة أيضا بالصرع، ومعها بكالوريوس تجارة ومتزوجة ولها ابنان، ويعاملها أهلها أحسن معاملة، ووالدتى تعرف ذلك لكنها لا تفكر إلا فى نفسها، أما أخى فيساعد أختى الكبرى حتى الآن من باب العناد، كما يساعد الصغيرة، أما أنا فأقضى حياتى وحيدة بلا سند ولا معين، ولا أدرى كيف ستمضى بى الحياة، فيما تبقى لى من عمر، وقد فشلت فى أن أرسم لنفسى خريطة تساعدنى على الإبحار فى نهر الحياة، فلجأت إليك وكلى أمل فى أن أجد لديك ما تشير به عليّ؟!.
ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لقد خلت حياتكم من كل صور الرحمة.. الرحمة بين الأشقاء، والآباء والأمهات، فالواجب على كل إنسان أن يرحم أهل بيته، ويحسن رعايتهم وعشرتهم، ويعاملهم باللطف واللين والمحبة والمودة، ويسهر على خدمتهم، ويشبعهم ويكسوهم، ويسكنهم ويقدم لهم من الخير ما استطاع.. نعم كان ينبغى على أبيك أن يفعل ذلك معكم، ويغرس فى نفوسكم الإيثار والمحبة، لكنه للأسف الشديد، لم ير فى الدنيا سوى نفسه، وملذاته، ونسى أن المهمة الأولى للأب هى أن يربى أبناءه التربية الصحيحة، وأن يغرس فيهم التعاون، ويجعلهم عصبة واحدة فى مواجهة الشدائد والمحن، والغريب أنه ظل على منهجه الفاشل فى التربية حتى رحل عن الدنيا، وهو فى سن السابعة والسبعين، فطوال هذا العمر المديد لم يشعر أنه ارتكب خطأ أو أنه جنى على أولاده خصوصا البنات، فالأصل فى مجتمعنا الشرقى أن البنت تظل فى رعاية أبويها حتى بعد زواجها، بل وربما طوال حياتها، فبيت أبيها هو الملاذ الآمن الذى تلجأ إليه كلما اشتد بها الضيق، أو اذا احتاجت الى بعض الراحة، لأنه اذا لم تجد المرأة سعادتها وراحتها فى بيت زوجها، فلا يكون أمامها سوى بيت أهلها.. ولذلك فإن «المنطق المعوج» الذى تعامل به أبواك معك، يجافى الطبيعة البشرية السوية، خصوصا فى مجتمعنا، وحتى فى دول الغرب نفسها لا نجد هذا الأسلوب الجامد فى التربية، فهناك تعتمد الفتاة على نفسها فى سن معينة، ولكن هذا لا يعنى أبدا اتباع «أسلوب الإجبار على شيء لا تريده، بل ويتركون الحرية الكاملة للشباب فى تقرير حياتهم بالصورة التى يرون فيها مستقبلا أفضل».
وكان طبيعيا والحال كذلك أن يكون أخوتك على شاكلة أبويهم، فالمثل العربى يقول «من شابه أباه، فما ظلم»، بمعنى أن الابن يكون دائما على شاكلة أبيه، ولا يخرج عن هذه القاعدة، إلا من يعملون عقولهم ويشحذون تفكيرهم، فيأخذون من الأبوين الصفات الحسنة، ويتجنبون الطبائع السيئة، وأحسب أن أخوتك مطالبون جميعا بأن يعيدوا النظر فى فلسفتهم فى الحياة، وأن يستمعوا الى صوت العقل، فكل شيء الى زوال ولن تنفعهم أموالهم، ولن تغنيهم العقارات والأراضى شيئا، فلينصتوا الى صوت العقل، وأنت أيضا عليك بفتح صفحة جديدة معهم، ولتكن هناك جلسات مصارحة ومصالحة بينكم، فتعيدين إليهم حقوقهم فى الشقة التى تعترفين أنك زورت الشهادة فيها، وفى الوقت نفسه لا يبخسونك حقك، وبهذه الطريقة سوف تتبدل الأحوال، ويصبح بإمكانكم أن تضعوا «خريطة طريق» لمستقبلكم معا.. وأذكر شقيقيك بأنهما مسئولان عنك أنت وشقيقتيك، وعليهما أن يحتوياك، ويقفا بجوارك سواء فى محنة المرض الذى تعانينه، أو فى مسألة الزواج، فهما يتحملان الجانب الأكبر فى عدم زواجك حتى الآن، فأى شاب عندما يتقدم لخطبة فتاة، فإنه يسعى فى المقام الأول الى أن يقيم مع الأسرة كلها علاقات طيبة، ولا يأخذ فتاة مقطوعة من شجرة وأهلها على قيد الحياة، وكلما كانت الأمور طبيعية فى محيط الأسرتين، تنجح الحياة الزوجية.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «خيركم، خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، نعم يجب أن يكون المرء بارا بأخوته وأولاده وأهله جميعا، وعليه أن يصبر على أخطائهم، ويقومها برفق وتؤدة، وليس بالقطع والبتر، ولنعلم جميعا أن الشكوك تفسد العلاقات، وتجهز على كل محاولة اصلاح وبناء، فالتربص والترقب والتعقب ليس من شيم من يريد الاصلاح ما استطاع، بل هو من قبيل الفوضى الذاتية التى تهدم كل مسببات النجاح المأمول، والمطلوب هو اشاعة الثقة وحسن الظن فى التعامل، ولذلك عليكم بالسعى والتكاتف حتى تصلوا الى بر الأمان الأخوي، فالإنسجام العائلى يتحقق بالحب والإيثار والعفو والتسامح، والحياة بين الأخوة ومد جسور التواصل تتحقق بالكلمة الحلوة والمشاعر الطيبة، ومن وسائل تجنب المشاكل الابتعاد عن إثارة الآخرين أو إزعاجهم، فهناك من يكون عصبيا أو حساسا أو أن وضعه فى الأسرة يثير مشكلات مع بعض أخوته، أو قد يتكون عنده شعور غير صحى تجاههم، وربما يرد الأخ على أخيه بالمثل، فعندئذ تتوتر العلاقات داخل الأسرة، وتتعقد الأجواء وتتطور المشكلة، والحقيقة أنه ينبغى عند حدوث ذلك مراعاة ظروف الأخ أو الأخت النفسية أو العصبية مع مقابلة الغضب والانفعال بالهدوء، ثم بعدها بساعات أو بفترة كافية تعاد المناقشة ويجرى بحث المشكلة.. وأخيرا أقول لك: «لقد سئل أحد السلف الصالح أيهما أحب إليك: صديقك أم أخوك، فأجاب: إنما أحب أخى لأنه صديقي».. فاتخذى أشقاءك أصدقاء لك، وحاولى من خلال الأقارب أن تعيدى بناء ما تهدم من علاقتكم، وتذكرى فقط الصنيع الجميل لكل منهم، حتى تقربى المسافات معهم، وسوف تصلون جميعا الى نتائج طيبة، تبدأون منها خطوة جديدة الى الأمام، وتبحرون معا بهدوء وأمان فى نهر الحياة بإذن الله.