مرحلة أوليولدت «هاربر لي» ببلدة مونروفيل الصغيرة بولاية آلاباما، لأب محام هو أماسا كولمان لي، وكانت أصغر أربعة أخوة مع بنت أخرى «أليس»، محامية، تكبرها بخمسة عشر عاما، التحقت بمؤسسة أبيها القانونية فى «مونروفيل» وكانت تتولى أعمالها القانونية حتى توفيت فى نوفمبر 2014، بينما كانت أختها الأخرى «لويس» ترعى أسرة ليس بعيدا عنها فى «ايفولتا» وأخ يكبرها أيضا هو «ادوين».
ذهبت «هاربر لي» إلى مدرسة محلية فى بلدة مونروفيل، ثم إلى المدرسة العليا بها. والتحقت بعد ذلك بكلية الحقوق بجامعة آلاباما، ربّما لأن أباها وأختها كانا محاميين. لكنها لم تكمل دراستها، بعد أن هجرت الكلية فى العام الأخير، وعملت ككاتبة حجز فى شركة للخطوط الجوية بمدينة نيويورك.
استغرقت كتابة رواية «قتل طائر مغرّد» مدّة سنتين، وانتهت منها عام 1959، وصدرت فى 11 يوليو عام 1960. وقد أرجع خبير الأدب الأمريكى «آلان باري» فى حوار معه بتاريخ 28 يونيو 2006النجاح الهائل الذى لاقته الرواية، إلى صدورها عام 1960، قبل صدور الحقوق المدنية، وذلك حين مسّت وترا ملتهبا يدور حول علاقات التفرقة العنصرية بين السود والبيض.
تبدأ الرواية ذات صيف، وتتناول فترة نمو أخت وأخ، هما «سكاوت» و»جيم فينش»، اللذان يعيشان مع أبيهما المحامى «آتيكوس فينش» فى بلدة صغيرة فى جنوب آلاباما تدعى «مايكومب»، حيث يدافع «آتيكوس» عن رجل أسود يدعى «توم روبنسون» أتهم زورا بجريمة اغتصاب فتاة بيضاء تدعى «ماييلا أويل».
تسرد الرواية من وجهة نظر الأخت الصغرى «سكاوت»، وتستمر أحداثها لمدة ثلاث سنوات. وقد جلس الأطفال أثناء المحاكمة فى شرفة الملونين من مواطنى البلدة السود. وقدّم «آتيكوس» دليلا دامغا بأن «ماييلا» وأباها كانا يكذبان، لأنه حين ضبطها أبوها مع «توم» اضطرت إلى أن تتهمه باغتصابها كى تغطى على عارها. وأثبت المحامى أن أباها ضربها عند اكتشافها مع «توم»، وترك ضربه آثارا ظاهرة على وجهها. وعلى الرغم من أن ذلك كان دليلا على براءة «توم»، إلاّ أن كلّ المحلفين البيض أدانوه, وحين حاول توم أن يهرب من السجن، أطلقت عليه النيران حتى أردوه قتيلا.. فإذا توقفنا قليلا أمام عنوان الرواية، فسنجد أن الأبّ «آتيكوس» بعد أن قدم لولديه بنادق كهدية لأعياد الميلاد، لفت نظرهما إلى أنه: «تعتبر خطيئة أن يقتلا طائرا مغردا»، لأنه «لا يفعل أيّ شيء سوى أن يغرّد من أعماق قلبه». هنا، يرمز الطائر المغرّد، إلى البراءة والى براءة الضحايا السود فى الرواية على حدّ سواء!
حين أصدرت «هاربر لي» رواية «أن تقتل طائرا بريئا» (عام1960)، سرعان ما اعتلت قوائم أفضل المبيعات، واستقبلها النقاد بحفاوة كللت بالفوز فى العام التالى (1961) بجائزة البوليتزر (أرقى الجوائز الأدبية الأمريكية على الإطلاق)، وبدأت ترجمتها إلى أكثر من ثلاثين لغة من مختلف لغات العالم. ثم أعدّ عنها فيلما سينمائيا بنفس العنوان عرض فى 25 ديسمبر 1962، قام ببطولته النجم الأمريكى الأشهر «جريجورى بيك» حصد ثلاثا من جوائز الأوسكار وساهم فى مزيد من شهرة الرواية، التى أصبحت من كلاسيكيات الرواية الأمريكية، وأصبحت عنصرا أساسيا فى المدارس الانجليزية العليا الى جوار مسرحية «روميو وجولييت» لشكسبير، حتى بلغ ما بيع منها أكثر من أربعين مليون نسخة. كما قامت مجلة «ليترارى جورنال» باختيارها عام 1999 أفضل رواية فى القرن العشرين!
بعد أن أنجزت «هاربر لي» روايتها فى عام 1959، ذهبت مع صديق طفولتها الكاتب «ترومان كابوت» (1924-1984) إلى كانساس كمساعد باحث لإعداد مقال عن ردّ فعل مدينة صغيرة لجريمة قتل فلاح وأسرته، وهو ما وسّع ترومان كابوت مادته صانعا منها كتابا سيصدر بعد ذلك فى عام 1966 بعنوان «بدم بارد»، والذى أهداه «ترومان كابوت» إليها.
مرحلة ثانية
أكدت «هاربر لي» فى حوارها مع روى نيوكويست عام 1964، أنها تعمل فى رواية جديدة، وأن كان العمل يمضى ببطء. وعلى الرغم من أنها استمرّت تعمل فى تلك الرواية لسنوات، لكن لعلها لم ترتح إلى ما أنجزته، فتركتها!. كما بدأت فى الثمانينات كتابة عمل غير قصصى حول قاتل جرائم متسلسلة فى آلاباما، لكنها سرعان ما تركته أيضا عندما لم ترض عن النتيجة.
وبذلك أصبح مجمل أعمال «هاربر لي» هى رواية وحيدة، هى «أن تقتل طائرا بريئا» (1960)، وأربعة مقالات كتبتها فى مناسبات مختلفة. وعلى الرغم من أنه أشيع أنها تكتب باسم مستعار أو أنها عاكفة على كتابة مذكراتها، أو أنها تكتب روايات أخري، فلم يكن هناك ما يؤكد تلك الشائعات!
وفى الوقت الذى كان العالم يقدم اعترافات متتالية بعظمة موهبة «هاربر لي» ، كانت محاولات فشلها فى الكتابة تتوالى فتنغص عليها. وعندما تكررت محاولات الفشل أيقنت أن معينها من الابداع قد نضب، وأن عليها أن تتوقف عن الكتابة فعلا. ولم يكن ذلك موقفا سهلا، لكنها تقبّلت هذا الواقع الجديد بصدر فنانة كبيرة تتفهم أبعاد عملية الابداع، وانسحبت من الحياة العامة، وأصبحت توزّع وقتها فتقضى شهرين من كل عام فى نيويورك حيث تقيم أختها «أليس»، وتقضى بقية العام فى مسقط رأسها، رافضة فى ذات الوقت أن تجرى أى حوارات صحفية، وأن كانت تقبل شهادات التكريم دون أن تلتزم بإعداد أى خطابات من أجل تلك المناسبات!
وعلى الرغم من صعوبة تفسير توقف هاربر لى عن الإبداع، إلاّ إنّ حوارها الوحيد مع روى نيوكويست (1964)، قد يصلح مدخلا لهذه المحاولة. وترجع خطورة هذا الحوار إلى أنه جاء فى فترة ذروة فارقة، كانت تعكف فيها على انجاز روايتها الثانية، وكان المستقبل ينفتح أمامها على مصراعيه مبشرا وواعدا، وهو ما جعلها تفتح قلبها وعقلها متحدّثة ببساطة دون محاذير، وهو ما يتيح أمامنا فرصة دانية للتنقيب بين ثنايا ذلك الحوار بحثا عن ضوء هاد قد يوحى بما آلت إليه الأمور فى السنوات التالية من توقف تام عن الإبداع!
أضاء ذلك الحوار ثلاثة جوانب هامة فى تجربة «هاربر لي» الإبداعية، يتناول أولها مفهوما صارما للكتابة أوضحته «هاربر لي» حين قالت «الكتابة هى عملية نظام ذاتى ينبغى أن تتمرّس عليه قبل أن تدعو نفسك كاتبا». أيّ أن هناك رحلة إعداد شاقة ومضنية ينبغى للفرد أن يتمرّس عليها، حتى يصل إلى المستوى الذى يليق بأن يدعى كاتبا. لدرجة أنها انتهت فى ذات السياق الى أنها تنظر إلى الكتابة كشيء مثل «رهبنة القرون الوسطي». وكانت هناك أيضا مخاوف من عدم الإتقان، وكانت تطمح إلى بلوغ ذروة التجويد للعمل، وهو ما عبّرت عنه بقولها «أتمنى أن أحقق أفضل ما أستطيع بالموهبة التى منحنى الله إيّاها. أتعشم أن أجوّد كل رواية أكتبها لتكون أفضل وأفضل، وليس أسوأ وأسوأ».
يكون منطقيا إزاء هذا التكوين أن يخفت تأثير العالم الخارجى ومتطلباته، بحيث لا تعود أصداؤه تؤثر عليها، بل تكون إرادتها هى الأساس والجوهر، فإذا لم ترض عن الناتج، تهمله ببساطة دون أيّ حسابات منفعة من أيّ نوع!
وهناك جانب آخر يركّز على تواضع ما كانت تتوقعه هاربر لى من روايتها، وهو ما أوضحته فى حوارها مع روى نيوكويست، «لم أكن أتوقع نجاحا لها، ناهيك عن البيع أيضا. كنت آمل فى موت سريع ورحيم بين أيدى المراجعين، لكننى كنت آمل فى نفس الوقت أن تعجب فرد ما فيمنحنى نوعا من التشجيع، تشجيع كنت أنشد منه القليل، كما قلت». وسرعان ما استطردت بعد ذلك كاشفة عن عمق تأثير ما نالته الرواية من نجاح هائل، وذلك عندما قالت «لكننى نلت بدلا من ذلك شيئا كبيرا تماما، وبشكل ما كان مخيفا، مثل الموت السريع الذى توقعته»
كان حجم نجاح الرواية هائلا سواء على مستوى التقدير النقدى أو البيع، بما ولد فى أعماقها خوفا دفينا من عدم إمكان تحقيق مثل هذا النجاح ثانية، حتى أصبح ذلك الخوف بمضى الوقت عقبة رهيبة أمام أيّ إنتاج جديد، بل لعله بشكل ما كان سيفا باترا سرعان ما أغتال قدرتها على الإبداع!
مرحلة ثالثة
فى فبراير من هذا العام، أعلنت دار «هاربر كولينز» للنشر فى بيان صحفى أنها حصلت على حقوق نشر أمريكا الشمالية لرواية «اذهب أقم الحارس»، الجزء الثانى من رواية «أن تقتل طائرا بريئا» للكاتبة «هاربر لي»، وأنها ستصدر فى 14 يوليو 2015. وتمّ التفاوض على الصفقة بين «مايكل موريسون» رئيس مجلس ادارة «هاربر كولينز»، ومحامية «هاربر لي»، «تونجا كارتر». وبدأ حجز القراء لشرائها، وكانت قوائم انتظار «أمازون» هى الأولي.
وتقول «هاربر لي» فى ذلك البيان: «لقد أتممت فى منتصف الخمسينات رواية عنوانها «اذهب أقم الحارس»، تركز على شخصية «سكاوت» باعتبارها امرأة ناضجة»، وهو ما أكدته «سارة تشيرشول»، أستاذة الأدب الامريكى لشرق «أنجليا»، عندما قالت: «لقد عرف الدارسون أن «هاربر لي» كتبت نصين مبكرين من «أن تقتل طائرا بريئا»، عنوانهما «اذهب أقم الحارس». ولكن جرى الاعتقاد أن تلكما المسودتين المبكرتين قد جرى فقدهما بشكل عام، وذلك بقدر ما أعي».
لنتوقف، هنا، قليلا، متفقين مع كلمات الأستاذة «سارة تشيرشول» بأن «هاربر لي» قد «كتبت نصين مبكرين من «أن تقتل طائرا بريئا» عنوانهما «اذهب أقم الحارس»، وكانت دقيقة من الناحية الفنية بقدر ما كانت موفقة فى تعبيرها حين ربطتهما بالناتج الأصلى «أن تقتل طائرا بريئا»، لأنها كتبتهما ليس كناتج مستقل بل كمحاولة على الطريق للكشف عن والوصول الى الناتج الأصلي. وهو الأمر الذى جانب التوفيق «هاربر لي» فى التعبير عنه حين فصلت بين العملين، معتبرة «اذهب أقم الحارس» نصا مستقلا، ولعل ما يؤكد أنه كتب على طريق البحث عن النص الناضج هو ابرازها لجوهر الفرق بين العملين، فقد كانت تجرى أحداث «اذهب أقم الحارس» بعد ما يقرب من عشرين عاما من زمن وقائع الرواية الأولي. وتتناول شخصية الابنة «سكاوت» كبالغة عندما تعود الى قريتها «ماكومب» من نيويورك كى تزور أباها المحامى «آتيكوس» مع بعض الشخصيات. وذلك يعنى أن هاربر لى وضعت العمل بأكمله فى ذلك الزمن، ولعلها اكتشفت بحس الفنان الصادق أن هذا ليس هو الزمن المناسب للرواية، ففتحت العمل من جديد على محاولة أخري، رغم ما قد يتطلبه عملها من جهد جديد مؤرق، لكن تلك كانت طبيعتها من ناحية تجويد العمل. هنا، لابد أن نلاحظ أنّه لو كان ما يعنيها هو مجرد اكتمال نص تحت يديها، لكانت قد قنعت بنصى «أذهب أقم الحارس»، وتوقفت ونشرته كما هو. لكن الفنان الكبير بداخلها أصر ولم تستسهل الأمر، فأقبلت تعمل بدأب واجتهاد، ونجحت تجربتها وكانت ثمرتها «أن تقتل طائرا بريئا»، تلك الرواية الناضجة التى حصلت على نجاح فورى بمجرد صدورها!
ولعلها بعد أن نشرت رواية «أن تقتل طائرا بريئا» عام 1960، من المحتمل أن تكون قد نحت تلكما النصين جانبا ولم تعد اليهما بعد ذلك، لأنهما استنفدا أغراضهما فى الوصول الى بلورة الشكل الأخير للرواية، ولم يعد الاهتمام بهما مطلوبا بعد أن انتفى الغرض من وجودهما حتى انتهى الأمر الى اعتبارهما مفقودين، فلم يكن وجودهما أو عدمه يسببا أرقا للكاتبة بعد أن تحقق مرادها!
هنا، لابد أن يثور سؤال عن مبرر البحث عن ذلك المخطوط واعلان اكتشاف وجوده فى هذا التوقيت بالذات. أما أن «هاربر لي» لم تدرك أن ذلك المخطوط موجود حتى اكتشفته صديقتها الحميمة «تونجا كيارتر» فى خريف 2014، وقالت أنها اكتشفت المخطوط الأصلى منذ ثلاثة أشهر(خريف 2014) فى موقع آمن حيث كانت مثبتة مع نسخة أصلية من رواية «أن تقتل طائرا بريئا»، فتلك بلاشك نقطة تطور درامية للأحداث، التى يقف النشر فيصلا على ذروتها. لقد أصبح النشر هو القضية، ولم تعد القيمة الفنية للناتج هى الجوهر والأصل كما حدث سابقا مع «هاربر لي» فى شبابها. ولننظر الى تعقيب «هاربر لي» على اكتشاف المخطوطة: «لم أدرك أنها موجودة، لذلك كم كانت دهشتى وبهجتى كبيرة عندما اكتشفتها صديقتى العزيزة المحامية «تونجا كارتر».
فى تلك اللحظة الفارقة، حدث تطور درامى كبير، وانظر اليها وهى تعقب: «وبعد تفكير كثير، وتردد تشاركتها مع حفنة من الناس الذين أثق بهم، وكم سعدت أن أسمع أنهم اعتبروها تستحق النشر. اننى مندهشة على نحو حاسم من أنها ستنشر بعد كلّ هذه السنوات»!
هنا، خرج معيار النشر من يد الكاتبة الكبيرة، الى الاعتماد على آراء الآخرين، بينما كانت فى السابق لا تعتمد الا على معاييرها الخاصة، وكانت أول من يعى مدى صعوبتها وصرامة تنفيذها.
انقسم متابعو نشر هذه الرواية الى جانبين، أولهما مؤيد للمؤلفة «هاربر لي» ومع حريتها فى قرار نشر مخطوط رواية «اذهب أقم الحارس» الجديدة، المفقود منذ أكثر من خمس وخمسون عاما.
وان كان معارضو هذا الجانب يرون أن المؤلفة قد اتخذت قرارا جريئا بالتوقف عن الابداع وهى فى ذروة مجدها وشبابها وصحتها، وأصرّت على تنفيذه طوال كل تلك السنوات التى جاوزت الخمسين عاما، يحكمها فى نهاية الأمر قرار فنى لا فكاك ولا مهرب منه فأقبلت بجسارة على اتخاذه متحملة تبعاته دون تردد!
هنا، تثور عدة أسئلة حول مبرر اثارة اكتشاف تلك المسودة القديمة لنشرها كعمل جديد، بينما النص الأصلى منشور ومازالت أصداء نجاحه مدوية بين أرجاء العالم. وما الذى يجبرها الآن، بعد مضى 55 عاما على نشر درتها الخالدة «أن تقتل طائرا بريئا» عام 1960، على أن تدفع بهذا المخطوط القديم الى النشر فى عام 2015، بعد أن تغيرت بها الظروف والأحوال، فقد أصيبت بسكتة دماغية عام 2007خلفتها على كرسى متحرّك فى مركز يوفر ويسهل رعايتها، خاصة بعد أن أصبحت تقريبا صماء، وعمياء، وليس لها أولاد، وفقدت أختها الكبرى «أليس» التى كانت ترعى شئونها المالية بالموت فى نوفمبر من العام الماضي، بعد أن توقفت عن العمل عندما بلغت من العمر مائة عام منذ ثلاث سنوات. فما هو المبرر الذى يجبرها الآن على التراجع عن موقف دفعت ثمنه لمدة خمس وخمسون عاما؟!
والقضية لاتزال مطروحة للنقاش!