الشعر ليس مشاعر فحسب، فهى تأتى للجميع ولكن «شاعر الشباب» انطلق من خلفية خاصة جداً، فالأشعار تجارب وقدرة خارقة على المكاشفة وهز وجدان القارئ بكل جديد فقد عاش سنوات عمره الأولى فى حى الإمام الشافعى مع والده الأميرالاى حسن عثمان - من أصل شركسى - وكان طبيباً وأنجب رامى قبل إنهاء دراسته للطب وتعلم شاعرنا مثل أم كلثوم والسنباطى وعبد الوهاب فى الكتاب وحفظ القرآن ثم سافر مع والده إلى اليونان.. بلاد الأساطير والقمم والآثار والنرجس، كانت جنة من جنات الله فى الأرض طبعت فى خياله صورا حية لجمال الطبيعة وعظمة الخالق – على حد تعبيره - وعاد وهو فى التاسعة فكان المستقر هذه المرة فى القاهرة الفاطمية التى عبأت وجدانه بالبخور والسبح والمآذن والمقاهى .. خلطة مصر الذكية .. والعبق الروحانى الذى يسرى فى الدماء حتى الرمق الأخير .. لتتسع شرايين التجربة الإنسانية وتتغذى على تلك المشاهد الساحرة .. ثم جاءت سفريته إلى باريس لمدة أربع سنوات .. درس خلالها الفارسية وتجرم أشعار شاعره الأثير عمر الخيام بما يليق بها من فلسفة حياتية عميقة .. فما الذى فعله هذا الشاعر وملهمته ؟ وهل أحمد رامى والست كونا ثنائياً ساهم إلى حد كبير فى ظهور «الكلثوميزم» أى ظاهرة احتواء الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج والتأثير عليها وجدانياً بحنجرتها وأشعاره وألحان كوكبة من المبدعين ؟

احمد رامى مع زوجته
نشأ رامى شاهداً وراصداً لليالى الطرب الأصيل والجلسات الفنية التى كان يعقدها والده .. فشنف أذانه صبياً بأصوات الكبار : صالح عبد الحى .. الشيخ الصفتى الشيخ محمود صبح.. ويطولوك يا ليل على هذه القصة التى لا تختزل لأنها صدقاً لا تروى ولكنك تستشعر تفاصيلها وينبض وجدانك بخفقاتها .. ويصاب البعض بخدر فى المشاعر كلما اشتدت فتنة الطرب والغناء .. ورامى يطفئ لظى الفؤاد فى الرباعيات .. بأشعاره للست .. راكباً بساط الريح سابحاً فى دنيا الخيال .. ليأتى لها بكل جديد كما كانت تهوى دوماً فى الكلمة واللحن والنغمات .. هذا هو سر عظمة أم كلثوم الإحساس المتجدد ورؤية ما لا يراه الآخرون .. والبقاء على قمة النجاح ليس بأثر رجعى ولكن بمقايس عصور قادمة وأجيال لاحقة .. ولا تزال.
قصيدة أحمد رامى وكل غنائياته عامرة بأحاسيس ناسك يتعبد فى محراب الصدق والخيال .. صوره الفنية كانت بديعة جداً عامرة بانفعالات نفسية تحرك عواطف أشد القلوب صلابة .. «لقيت روحى فى عز جفاك بافكر فيك وأنا ناسى أو قوله «واحشنى وأنت قصاد عينى» وغلبت اصالح فى روحى علشان ما ترضى عليك» وعشرات الأمثلة التى تبرهن على أن فن أم كلثوم كما وصفه العقاد : «فن رءوس وقلوب لا فن حناجر .. فهى تفهم ما تغنيه» ألم يقل عنها السنباطى : إن اللحن الذى يوضع لأم كلثوم يشبه «السد العالى» فى شقائه وعدد البروفات التى تجريها على كل كوبليه .. وانقطاعها التام هى والفرقة للحفظ والتجويد .. ومعظم ألحان السنباطى كانت مواكبة لكلمات رامى الذى رفع مستوى كلمات الأغانى فى مصر والعالم العربى بعد أن كانت تتأرجح بين : «شد الستارة اللى فى ريحنا وإيه اللى جرى فى المندرة» .. ويذكر أيضاً الشيخ زكريا أحمد كيف كانت تطلب منه أحياناً أكثر من لحن للأغنية وتقوم بالتعديل فى كثير من الألحان لأنها كانت «أوسطة» على حد وصفه.
رآها رامى أول مرة بالكوفية والبالطو والعقال تنشد مع والدها الشيخ إبراهيم البلتاجى وشقيقها خالد فاشتعل اللهيب وكانت السنين تزيد الجمر اشتعالاً .. هوى عفيف طاهر وصفه رامى بانه: شىء أكثر من الحب وأكبر من العاطفة .. تعرضت أم كلثوم لوعكة صحية حين أصيبت باضطراب فى هرمونات الغدة الدرقية .. فاقترح عليها الأطباء الزواج وحين كانت فى جلسة سمر مع بعض صديقاتها من عائلة المهدى فتحت الموضوع فاقترحت عليها أحدهن الزواج من رامى.. أو «سى رامى» كما كانت تحادثه الست وتخصص له يوم الاثنين من كل أسبوع لزيارتها وإمدادها بالكتب والأشعار من دار الكتب التى كان يعمل بها آنذاك .. فوصل الخبر إلى رامى وعلم أن أم كلثوم قالت إنه مثل شقيقها خالد .. فعز عليه كرجل شرقى هذا الرأى وإن كانت قد نطقت بماتقضى به العادات والتقاليد المتبعة آنذاك .. فكتب قصيدة : «أصون كرامتى من قبل حبى فإن النفس عندى فوق قلبى .. رضيت هوانها فيما تقاس وما إذلالها فى الحب دأبى» .. ولم يكتف بالقصيدة ولكنه قرر الزواج من السيدة عطيات .. وكانت جميلة من جميلات أسر مصر الكريمة .. تفهمت بندرة شديدة فى طباع المرأة أن أم كلثوم ملهمته.
كان لرامى قصة حب فاشلة مع حبيبة الصبا .. استطاعت أم كلثوم أن تردم أطلالها .. فأصاب مس من السحر حين تركزت عيونه على صاحبة هذا الوجه الصبوح .. وتتجلى عظمة رامى فى توحد عالميه الداخلى والخارجى فمشاعره المطوية كانت تستشهد بمداد قلمه على صفحاته الصغيرة البيضاء .. ليحوم المعنى الذى يشاغل المستمعين مثل الفراش الحائر .. الذى يحوم حول الزهرة قبل أن يلامسها .. طقس بديع هو طقس الاستماع للست ورامى فى الخميس الأول من كل شهر .. وحين شدت بأغنية «أن كنت أسامح وأنسى الأسية» أحدثت طفرة غنائية ووزعت الأسطوانة نصف مليون نسخة .. وتستمر رحلة «شاعر الغزل» مع صاحبة هذا الصوت الآسر والأداء المعجز فى اقتداره وذكائه .. ويستقر فى كل حفل لها فى المقعد رقم (8) الذى كانت تخصصه له الإذاعة.
ويمتد ألق هذه الظاهرة الفريدة «الكلثوميزم» ليطول كل من تعامل معها من الملحنين .. فهى قد تعلمت العزف على العود ودرست الطبقات الصوتية .. وكل ملحن تعامل معها أخذ منها شيئاً .. بينما ظل رامى كتاباً مفتوحاً على فلكها ومن أروع ما قيل عن سمو ورفعة أم كلثوم وكل عظماء عصرها .. حين هاجمها البعض بعد نكسة 1967 بأنها كانت سبباً فى حالة السلطنة التى أصابت العرب وهم يستمعون إلى وصلاتها الغنائية التى كانت تمتد حتى الساعات الأولى من الفجر .. فقال الحكماء وأصحاب العقول ممن أسعدتهم وغسلت وجدانهم «لو أن العرب عملوا بإخلاص ودأب واتقان مثل أم كلثوم وكوكبة الشعراء والملحنين الذين تعاونوا معها .. لما وقعت الهزيمة من الأساس».
أحبت أم كلثوم مصر .. وقعت صكاً على بياض ممهوراً بهذا العشق «بنى الحمى والوطن من منكمو يحبها مثلى أنا» وبالمثل بادلتها مصر حباً بحب وجابت مدنها من شمالها لجنوبها وجمعت لها أكثر من مليونين من الجنيهات على صدى كلمات رامى .. الذى كان يسمعها إذا غنت له وحده بستة آلاف أذن – على حد تعبيره - وفى إحدى المرات قال لها مبدعتى : ما أروع غنائك هذه الليلة .. لترد عليه بسرعة بديهتها الطاغية : والله يا خويا انت اللى سمعت كويس قوى !!
فى دراسة حديثة تمت هذا الشهر أجرتها المستشفى العام بسالزبورج بالنمسا .. جاءت النتائج لتؤكد أن الموسيقى الهادئة تخفض ضغط الدم وضربات القلب وتساعد على بسط الأعصاب وتخفف من الإحباط وحالات الغضب إذا كانت كلاسيكية فهى تعالج آلام الظهر وتحسن الذاكرة والحالة المزاحية للإنسان .. وأصدرت منظمة الصحة العالمية تقريراً إحصائياً هاماً أيضاً هذا الشهر أكد أن أكثر من مليار شخص على كوكبنا عرضة لفقدان السمع نتيجة للصخب والضوضاء السمعية .. وما أكثرها يا أهل المغنى خسرنا سمعنا .. موسيقى وكلمات وغناء أم كلثوم ورامى والسنباطى انعكاس لعصر بأكمله كان قدوة فى التضحية والتعبئة العامة بالنموذج والأخلاق الرفيعة .. جمعت الست ورامى كل العرب من نيل مصر إلى حضارة العراق وجبال لبنان وسواحل المغرب .. وكان غرام رامى وشعره .. تجسيداً حياً لمقولة كونفوشيوس : «دعنى أضع للبلاد أغانيها ولا يهمنى بعد ذلك من يضع قوانينها» .. أنه الوجدان العام الذى إذا صلح صلح الشأن كله .. فالفنان شأن السياسى يعيش على الجماهير وبالجماهير .. ولكن ثنائى الفن البديع رامى وسومة ارتفعا إلى عنان السماء فكان الحرص الشديد على عدم السقوط من أعلى عليين ولكن الذى انهمر شلالا دافقا مازال رذاذه يمتعنا .. سوف تظل قصة رامى وأم كلثوم تتواردها حكياً الأجيال المقبلة .. كلما لاح فى السماء غيوم لتجدد إيمانهم بعظمة رامى الذى اختار لأم كلثوم أبيات مختارة من قصيدة الأطلال بعد وفاة د. إبراهيم ناجى بكل سمو ونبل وهو لا يدرى أنه ينتقى الأغنية التى ستحصد خلوداً ورقماً قياسياً فى القرن العشرين على مستوى العالم .. ولا نمل من تكرارنا لما شدت به مع رامى جددت حبك ليه .. فحبهما يتجدد فى شرايين كل محبيهم فى العالم العربى سلام على رامى ووداعاً لداره التى لم نصنها .. كما صان هو حبه وكرامته .. وتركنا بيته ليس أطلالاً ولكنه أصبح «ذكريات».